هذا حديث لن يعجب الكثير في خلاصاته ، لذا -وعلى خلاف العادة- فإني بهذا الصدد سوف أتقبل النقاش والنقد والعجب والمزاودة والتخوين والتجبين!
بات من غير الخفي على أحد أن الانتفاضة القادمة ليست وراء الباب كما كنّا نصف الوضع منذ أكثر من عامين، وإنما هي التي تقرع الباب بصوت لا يخفى على عدو أو حليف، والتي على ما يبدو سوف تحمل الأسرى شعاراً ومسمىً لها، انتفاضة الأسرى التي من الممكن أن يكون استشهاد الأسير البطل عرفات جرادات هو فتيلها المفاجئ الذي اشتعل على حين غرّة من الجماهير الفلسطينية التي تقف مشدوهة أمام هول البطولة التي يسطرها سامر العيساوي وأيمن الشراونة في تعدي الأرقام القياسية والطبيعية في الإضراب عن الطعام، بينما تلهو السلطة الفلسطينية ب"الإنجاز التاريخي" ودولتها الورقية، وهي إن كانت ستحرك ساكناً فلن تحرك إلا قلم كاتب رسائلها بالقول لحكومة العدو أو للحكومة الأمريكية : "الخطورة على حياة الأسرى المضربين عن الطعام تنبع من خطورة أن تخرج الأوضاع الأمنية في الضفة عن السيطرة" وبالمناسبة، فهذه ليست لعبة سياسية ذكية في ابتزاز الكيان الإرهابي أو القوة الإمبريالية المنحازة، بل هو تقدير موقف واضح وصريح يظهر فيه دور السلطة كوكيل أمني على الضفة المحتلة يبلغ موكليه بالحالة على الجبهة التي يعمل فيها.
خلال الفترة الماضية انشغل الوسط السياسي الفلسطيني في دراسة آليات المقاومة القادمة، وجرّب وحاول على الكثير من الصُعد واستخدم عديد الوسائل السلمية منضوياً تحت عنوان مقاومة شعبية سلمية، مقاومة شعبية لا عنفية، فكانت ومازالت المظاهرات تشتعل أسبوعياً في قرى "جوار الجدار" أو في عديد من القرى المختنقة بما يحيط بها من استيطان وعربدة مستوطنين (ولا نستطيع إلا لِماماً أن نجد قرية في كل الضفة لا تندرج تحت هذا الوصف ) ثم تطور أداء المقاومة الشعبية في بناء القرى الفلسطينية الجديدة على أراض يهددها الاحتلال بالاستيطان، وكان في تلك التجربة إبداع في الأسلوب والرسالة والتسميات والاهتمام العربي والدولي والصورة القوية والمميزة، ولكن واقعاً على الأرض! باب الشمس كأن لم تَغن بالأمس!! لست هنا في موقع التعريض سلباً بالمقاومة الشعبية السلمية ـ أو سمَها ما شئت ـ وسيأتي الحديث عنها فيما بعد، لكن الأهم للمستقبل هو دراسة وجه الجماهير واستراتيجيات العمل المقاوم القادم لانتفاضة فلسطينية بدأت إرهاصاتها تدق بإيقاع أسرع من وتيرة التحليل السياسي، وهذا ما يجب أن يتم دراسته دون عُجالة أو نُفُس أزماتي لتفادي ما حصل في انتفاضتين سابقتين لم تحمل نهاياتهما إلا وبالاً على الشعب الفلسطيني، وتسويات سياسية تنحدر من وصفها بالكارثة الوطنية إلى ما دون ذلك بكثير مما لا يطاق وصفه ولا ذكره إلا بقليل من اللمحات التي من الممكن أن تُرى في كل شيء ابتداءً من نفسية الفلسطيني وليس انتهاءً بشكل خارطة ما كان يسمى بالضفة الغربية التي أصبحت قطعاً من الأرض غيرَ متجاورات .
وفي الحديث عن سلبيات نتائج كل من الانتفاضتين لا يستوي لنا ولن نقدر أن نقول بأن فِعل النضال -بكل أساليبه- هو في ذاته الذي جرَّ علينا كل هذه الكوارث، بل إننا لننحني أمام كل من قدم حياته وحريته وبيته وأعضاء من جسده في معركته ضد العدو، إن الحديث هنا هو عن حمق الحصاد السياسي الذي يأتي حين الحديث عن المستوى السياسي "القيادي وصانع القرار بشرعية نجهل كنهها هذه الأيام"، وبلا وجه حق أو مشاركة. لطالما كانت النتائج السياسية مسخاً إذا ما قورنت مع حجم التضحية والنضال، هذا إن سلّمنا أصلاً بأن من يقف في الخط الأول في المواجهة يقتنع بالمكاسب السياسية المرحلية، فكيف لنا أن نقتنع بأن كل الشهداء الذين قدموا أرواحهم في الانتفاضة الأولى كانوا يطالبون بدخول منظمة التحرير إلى البلاد المحتلة تحت مسمى سلطة حكم ذاتي؟! وكيف لنا أن نؤمن بأن من تكسرت عظامه في الانتفاضة سوف يرمم جسده مشهد "المقاطعة" التي بقيت مقراً عسكرياً وسجناً للكثير ممن تخضرموا فيها سجناءَ بين عصري السلطة والاحتلال! ولم يختلف منها إلا العلم الفلسطيني الذي كان رفعه في زمن الاحتلال يكلف أشهراً من السجن والتعذيب في ذات المكان! منذ ذلك الوقت على الأقل، ونحن نعيش تجربة النضال من أجل مكسب سياسي، لا داعي للعودة لجذور هذه النظرية، لكن يكفي أن نذكر الظواهر المجسِّدة لها والقريبة من ذهنية الفلسطيني صاحب العمر الغض والمستقبل القادم. وفي انتفاضة الأقصى صورة أكثر وضوحاً، فانعدام الأفق السياسي وتوقف عملية "السلام" في آخر (كامب ديفيد) هو ما ولّد الإحساس بأن الرصيد السياسي للقيادة الفلسطينية من الدم الشعبي ينفد، وهو ما كان معيار وجودها أصلاً، وهو ما استرعى ضرورة العودة إلى الساحة، أو بالأحرى ترك الوصاية على الساحة لأهلها، وهو ما قاد بعد كثير من الدماء والركام إلى سوءٍ في قطف الثمار السياسية وتقزيمٍ لإنجاز يكاد يقترب من الانتصار المرحلي -أعني هنا إخلاء غزة برياً من وجود الاحتلال- هذا التقزيم الذي جعل غزة المطمع الأكبر للقيادة الفلسطينية في السيطرة عليه، وهو ما جعل هذا "الانتصار" لعبة تتلهى الفصائل الفلسطينية على تسيّدها وتنذر لها من الضحايا والمعتقلين ما نستمر بإحصائهم إلى الآن، في حين يستكمل بناء الجدار في الضفة ويقتطع منها أرباعاً وأثلاثاً لدولة الاحتلال، ويزرع داخل ما بقي من هذه الأراضي نظام أمني بوكالة - سبق ذكر تفاصيلها ومواقفها- يديرها رعيل "فلسطيني جديد" كما سماه من صنعه! ويستمر داخل هذه الأراضي برنامج الطمس الديموغرافي الذي يمارسه الاحتلال بوتيرة سوف تجعل من الفلسطينيين أقلية في هذه الأراضي.
الصورة السابقة هي الوصف لما تعيشه الأرض المحتلة (67) والخاضعة للقبضة الأمنية النائب، والأجدر بكل الداعين إلى انتفاضة أخرى وضع كل هذه الشواهد التاريخية التي تصل في وضوحها حد الفجاجة في كثير من الأحيان نصب عينيهم أمام الدعوة لثورة عارمة، وهنا يجب أن نكون واضحين مع الشعب الفلسطيني بالقول: "أنت تناضل وتقدم كل ما تملك من أجل مكسب سياسي أو خطوة مرحلية " ومن واجب القول وجديره أن نوضح: "إن القيادة التي تحملت مسؤولية جني الثمار السياسية للانتفاضتين السابقتين هي التي تمسك بزمام الأمور أيضاً" علينا أن نوضح لشعبنا أننا لسنا "إلى القدس رايحين شهداء بالملايين!" بل نحن ذاهبون إلى الموت في مصلحة المفاوضين ! هذه ليست دعوة للتراخي أو القبول بالأمر الموقّع عليه سلفاً، بل هي دعوة للوضوح أولاً مع كل من يقف على خط المواجهة يضحي من أجل وطنه، وهي دعوة لإعادة التفكير جلياً في مدى جديّة الفئة السياسية الفلسطينية في مرحلية ما يسمى زوراً : "حل الدولتين" لأن ذلك يسترعي الانتباه إلى الخطوات التي يقوم بها أصحاب هذا الطرح والتي تقطع الشك باليقين على أن وصف الطرح بالمرحلية هو محض تزوير وتزيين لهزيمة تاريخية لا يجدر بنا أن نحملها لأجيال قادمة بإمكانها فعل مستحيل (بنظر مهزومين لم يقدروا عليه) قد يرى البعض أن الحديث في هذا الموضوع تحت وطأة الدم والأمعاء الخاوية ضرب من الترف في القول والتفزلك، لكننا إن أردنا استئناف نضال ثوري يقود إلى تحرير بحق، علينا أن نسبر جذور المشكلة وطارحيها، وعلينا أن نكون مبدئيين في الطرح قبل أن توقعنا الموضوعية في ما وقعت فيه الانتفاضتان السابقتان، وإلا سيكون مصير الثالثة إلى ذات الكارثة، وبالأحرى إلى دونها بكثير، فإن المعطيات السياسية تفيد بأن ما سيعطى للمفاوض الفلسطيني بعد سيل من الدماء لن يتعدى دولة مؤقتة الحدود داخل حدود الجدار منزوعة السلاح والسيادة على الأرض والحدود بما يكفل اعترافاً بيهودية كيان الاحتلال وضماناً لأمنه "والحديث هنا في سياق الممكن يأتي لأننا نتحدث عن حالة يمسك بزمامها أصحاب الحلول الدبلوماسية ويديرون دفتها بالإضافة لقدرتهم على لجم الشارع الذي سيكون منهكاً من ضربتين أحداهما عدوانية وحشية والأخرى استثمارية" وعلى ذلك، علينا أن لا نلوم الوجدان الشعبي في كثير من الحالات التي نراه متلئكاً أو منهكاً، فإن الزعم الأكثر إقناعاً بأن المجموع الشعبي قد اكتشف هذا بذكاء قد يراه البعض سلبية أو لامبالاة.
نشير من كل ما سبق على خطورة اندلاع انتفاضة فلسطينية على الفلسطينيين أنفسهم، ليس من باب التجني على النضال الفلسطيني، بل هو من باب الإدانة للمستوى السياسي الذي لا يرقى لتضحيات هذا الشارع، والقول الأبلغ وحمّال الفكرة في ذلك أن نقول بأن انتفاضتنا الفلسطينية القادمة يجب أن تحمل على كاهلها مسؤولية استبعاد الفئة الاستثمارية التي تسيطر على نضال الشعب الفلسطيني، والتي تقلب أفكاره في خدمة مشروعها الذي بات مستحيلاً تنفيذه إن سلّمنا –جدلاً- برضا الشعب الفلسطيني به، الذي عبّر عن غضبه الشديد حين قال أبو مازن : "لا أريد العودة إلى صفد" فهو لم يأت بجديد سوى أنه ترجم ما يسميه بحل الدولتين بلغة الواقع ! وهو الذي أوضح بالضبط ماذا تعني له فلسطين "الآن وإلى الأبد" فهل هذه "الفلسطين" جديرة بعشر ما قدمه الشعب الفلسطيني؟ وفي الحديث عن التجارب الجديدة نرى أن أيا من المقاربات السياسية والتاريخية للقضية الفلسطينية لم تلقى تبنياً شعبياً واسعاً، بل والأخطر من ذلك أن الممسكين بزمام السلطة استطاعوا السيطرة على التجارب العملية لهذه المقاربات، وأصبح بادياً لنا في الظاهر أن تجارب المقاومة الشعبية تصب في خدمة زمرة السلطة والمفاوضين بقصد أو بغير قصد، ومن نافذة المراقب أستطيع أن أجد تفسيرين آمل أن يسقط أولهما، وهو أنها بالفعل ملتصقة بالسلطة دون أن يبدو ذلك بشكل إجرائي واضح، والتفسير الثاني هو أن التعامل الذي انتهجته المقاومة الشعبية في الابتعاد عن الجدل الداخلي مع السلطة ومنظريها من أنصار الدولة الجار لإسرائيل سوف يفتح لها مساحة أوسع في التحرك والعمل وإمكانية استمالة الجمهور الفلسطيني، وهذا أمر يجب إعادة النظر فيه إن كان هنالك بالفعل طرح جذري للقضية الفلسطينية يتعدى برنامج الحلول السياسية المبنية على الرضا بمجاورة (إسرائيل) وتحوير حق العودة إلى ما يطلق عليه حل عادل متفق عليه (مع إسرائيل) لقضية اللاجئين. لذا فإن كنا قادرين في الغضب القادم أن نسمو بالقضية الفلسطينية إلى أبجدياتها الأولى ونتخلص من فكر التسويات السياسية المذلة والحلول غير العادلة التي يطرحها مستثمر للضحايا فيا أهلاً بالمعارك! وإن كانت الغضبة ستعيد المفاوض الفلسطيني أقوى شكيمة وأكثر أناقة، وسوف تعزز القبضة الأمنية على المواطن الفلسطيني لحماية أمن الاحتلال، فلسنا نهوى الموت من أجل ذلك.
*الصورة من مواجهات الشبان الفلسطينيين مع قوات الاحتلال في الخليل يوم 24 شباط 2013. تصوير: موسى القواسمي.