كان لمقتل فلسطينيّ على يد عناصر أحد فصائل منظمة التحرير لأنه شارك في مؤتمر دولي يتواجد فيه إسرائيليون في إحدى الدول الأوروبية إبان إنطلاق الثورة الفلسطينية رسالة واضحة للجميع برفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، وفي حين كان من المحرمات على أي فلسطيني وعربي التواصل مع الصهاينة بشكل مباشر أو غير مباشر سنوات الستينات والسبعينات من القرن المنصرم، كانت تجهَّز من تحت الطاولة طبخة سياسية بين مصر والكيان الصهيوني انتهت بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978م بين الجانبين.
بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد وانسحاب الكيان الصهيوني من سيناء بشكل كامل مع إبقائها منطقة منزوعة السلاح، فُتح باب التطبيع على مصراعيه بين مصر والكيان الصهيوني على جميع الأصعدة، وإن كان ذلك محصورا فقط بالمستوى الرسمي مع الرفض الشعبي لذلك، ولعل حادثة مقاطعة الكاتبة المصرية إيمان مرسال من قبل الكتّاب والمثقفين المصريين لترجمة كتابها "جغرافية بديلة" للعبرية في الكيان الصهيوني، وفتوى القرضاوي بتحريم زيارة الأراضي المحتلة حتى تحريرها، وتحريم البابا شنودة للأقباط زيارة فلسطين المحتلة وكنيسة القيامة في ظل الاحتلال لدليل على رفض التطبيع.
إن هذه الاتفاقية فتحت المجال للعرب وحتى الفلسطينيين أنفسهم للحديث عن تسوية سياسية بينهم وبين الاحتلال، وقد بدأ الحديث عن هذه التسوية قبل حتى اتفاقية كامب ديفيد حين عُقد اجتماع للمجلس الوطني الذي ضم كافة الفصائل في القاهرة عام 1974 واتفقوا تحت ما يسمى ب "النقاط العشر" وهي الاتفاق على حل مرحلي للقضية الفلسطينية، ثم بعد ذلك تشكلت جبهة الرفض رداً على برنامج النقاط العشر.
عام 1993 وحين أسفرت المفاوضات عن توقيع إتفاقية أوسلو المشؤومة ولحقها بعد ذلك توقيع إتفاقية وادي عربة بين الأردن والكيان الصهيوني، أخد التطبيع منحنى أكبر وأوسع على المستوى الرسمي السياسي والاقتصادي والزراعي وقوبل بالرفض أيضا على المستوى الشعبي، لكن هذه الاتفاقيات فتحت المجال للجميع بالتماهي مع مفهوم العدو وكسر حاجز الخوف والحاجز النفسي ما بين العرب والصهاينة.
لا يكاد يختلف اثنان على أن أي لقاء يجمع بين فلسطيني أو عربي مع إسرائيلي بشكل مباشر أو غير مباشر دون فضح الاحتلال يُدرج ضمن مفهوم التطبيع وإن كان هذا المصطلح فضفاضًا، لكن الخلاف برأيي ليس على هذا، فالمشكلة تتمثل بموضوع زيارة العربي إلى داخل فلسطين المحتلة عام 1948 وعام 1967 لا للقاءٍ فيه صهاينة بل ليلتقي بفلسطينيين بشكل مباشر، ولا أميز بين من يدخل بتصريح اسرائيلي او بتأشيرة سفر، فلا فرق عندي بينهم كما لا فرق بين رام الله وحيفا.
كلنا يعلم أن المعابر الحدودية تقع تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة والدخول إلى هنا يحتاج إلى إذن وموافقة إسرائيليين يُستثنى من ذلك معبر رفح الحدودي ما بين قطاع غزة ومصر والذي يقع تحت السيطرة الفلسطينية والمصرية. فمثلاً زيارة الوفود العربية الرسمية أو الشعبية قبل الحرب الصهيونية الأخيرة على القطاع أو بعده لا تعتبر من ضمن ما يسمى بالتطبيع لانه ليس بحاجة إلى تصريح إسرائيلي بشكل مباشر بالرغم من أن هناك قنوات اتصال خفية لتنسيق دخول بعض الشخوص المهمة ممن أراد الدخول إلى غزة من بعض الدول العربية كزيارة حمد أمير قطر السابق مثلاً، وما كانت حادثة منع زيارة رمضان شلّح، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي إلى القطاع إلا بسبب تهديد إسرائيلي بإغتياله إن دخل القطاع.
إن من حقّ أي فلسطيني الدخول إلى فلسطين بأي طريقة كانت، فهذا وطنه حتى لو رجع إليه بجواز أجنبي وكل طريقة مشروعة للعودة أو للزيارة، لكن مسألة زيارة العربي إلى فلسطين تختلف عن الواقع الفلسطيني، وهنا أنا لا أميز بين الفلسطيني والعربي من منطلق وطني أو قومي عروبي بالعكس تماما بل أميز بينهم من ناحية أن شعب فلسطين هو من يقع تحت الاحتلال، فبالتالي يحق لأبنائها العودة إليها أو زيارتها على عكس باقي الدول العربية وشعوبها والذين يعتبرون مجاورين لفلسطين المحتلة، فهذا الأمر يحتاج إلى نقاش وما هذه المقالة إلا لتسليط الضوء على الموضوع.
[caption id="attachment_21522" align="aligncenter" width="661"] واسيني الأعرج في رام الله الأسبوع الفائت[/caption]هناك وجهتا نظر في قبول أو رفض مجيء العربي إلى فلسطين المحتلة لا كمحرر لها بل كسائح:
فأما وجهة النظر الأولى فإنها تدعو العرب إلى زيارة فلسطين والقدس لكسر عزلة الشعب الفلسطيني، سواء كانت زيارة سياحية أو ثقافية أو دينية للصلاة في المسجد الأقصى أو كنيسة القيامة أو اقتصادية لجذب المستثمرين إلى الضفة الغربية، وتتبنى وجهة النظر هذه السلطة الفلسطينية، ودعت المستثمرين للقدوم إلى دولة "فلسطين 194" والاستثمار فيها وقدمت التسهيلات لذلك كمدينة روابي على سبيل المثال لا الحصر، كما ان العديد من المؤسسات نظموا مهرجانات وأمسيات ثقافية شاركت فيها العديد من الفرق العربية وآخرها كان مهرجان فلسطين الدولي الذي شارك فيه من المغرب كل من الفنانين: مراد بوريكي وفريد غنام، وشاركت فرقة "لا باس" الجزائرية بمهرجان القدس 2013 بتنظيم من مركز يبوس الثقافي. كما وقدم الفنان التونسي لطفي بشناق والكاتب الجزائري واسيني الأعرج وغيرهم من الفنانيين والكتًاب إلى فلسطين هذا الصيف مشاركين في فعاليات مختلفة.
وفي سؤالي لأحد المشاركين بتنظيم مهرجان فلسطين الدولي عن الموضوع، أجابني بالتالي: "إن زيارة فلسطين تأتي في إطار زيارة السجين وليس السجَان، وفيها تثبيث لحق الفلسطيني في الحياة، ونوع من أنواع كسر المعيقات والحدود والجدران والأسلاك التي يقوم المحتل بوضعها بيننا وبين أشقائنا العرب". لكنه اشترط أن تكون الزيارة من خلال الجهات الرسمية والمؤسسات الفلسطينية فقط.
أما وجهة النظر الأخرى فإنها ترفض زيارة العربي إلى فلسطين المحتلة في ظل الاحتلال، وذلك لأنها:
أولا: بموافقة وإذن إسرائيلي مسبق من خلال التنسيق معه من أجل الحصول على تصريح، أو من خلال التواصل مع سفاراته للحصول على التأشيرة الإسرائيلية للدخول إلى فلسطين والذي يستخدم الاحتلال ذلك كذريعة لإضفاء الشرعية عليه ويروج لهذه الزيارات عالميا.
ثانيا: لأن زيارة فلسطين تحولت لعملية بيروقراطية أنه وبمجرد الحصول على الفيزا الإسرائيلية فإنك تستطيع أن تدخل الأراضي الفلسطينية وهذا يستبعد من الأذهان فكرة التحرير مباشرة.
ثالثا: لأن العربي يكسر الحاجز النفسي الأخير حين يتعامل مع الصهاينة سواء في السفارة أو على المعابر أو أثناء تجواله في المناطق المحتلة.
رابعا: يجد الكيان الصهيوني لنفسه مدخلا للشعوب العربية ولعقل الشارع العربي من خلال هذه الزيارات اذا ما أصبحت دارجة وثقافة متبناه.
خامساَ: تشعر وكأن ما ينقص شعبنا الفلسطيني في دعم نضالاته وصموده تحت الاحتلال هو التعزيز الثقافي! وهذا غير صحيح بل لم تقدم أي فرقة تعزيزا ثقافيا بقدر ما ميعت المفهوم حتى أصبحت العروض في الداخل الفلسطيني مبررا للصهاينة حضوره حتى لو كان دون علم أحد بل لا يستطيع أحد منعهم لأن الفرق العربية قد حصلت على الموافقة الاسرائيلية لعمل عروضها هناك.
بالنسبة لي فإني أتبنى وجهة النظر الثانية اعتقاداً مني أن هذه الزيارات ليست مختصرة على زيارات هنا أو هناك أو طريقاً للتواصل مع الشعب الفلسطيني بقدر ما لهذه الزيارات من تأثيرات سلبية على المدى البعيد إذا ما أصبحت ثقافة دارجة ورائجة كما ذكرت بالفقرة السابقة، ومن يريد أن يتواصل مع عمقه العربي او العكس فيمكن ذلك من خلال حفلات تعرض من خلال "الفيديو كونفرينس" دون الحاجة لقدومهم هنا، لذلك أخي العربي فإنه من الأفضل أن لا تأتي إلينا هنا كزائر ونحن تحت الإحتلال، بل ننتظرك مشاركاً في حرب التحرير.