خاص شبكة قدس الإخبارية: تسير حكومة الاحتلال بخطوات متسارعة نحو تكريس الضم الكامل للضفة الغربية، متجاوزة كلّ الخطوط السياسية والقانونية التي كانت تُشكّل سابقاً حدوداً رمزية أمام مشروعها الاستيطاني. فإقرار الكنيست بالقراءة التمهيدية لقانونين جديدين؛ الأول لفرض السيادة على الضفة الغربية، والثاني لضمّ مستوطنة “معاليه أدوميم” شرقي القدس، لا يُعدّ مجرّد إجراءٍ تشريعيّ عابر، بل يمثّل تتويجاً لمسارٍ طويلٍ من السياسات الممنهجة التي حوّلت الاحتلال العسكري إلى منظومة سيطرة مدنية دائمة.
يأتي ذلك في ظلّ صعودٍ غير مسبوقٍ للتيار الديني القومي المتطرّف داخل الحكومة والكنيست، حيث تتنافس الأحزاب في “إسرائيل” على من يظهر أكثر تطرّفاً في قضايا الاستيطان و”أرض إسرائيل الكاملة”، وسط صمتٍ أمريكيٍّ وارتباكٍ دوليٍّ يعكسان عجز المنظومة الدولية عن مواجهة الحقائق الجديدة التي تفرضها “إسرائيل” على الأرض.
وبينما تُقدَّم هذه القوانين كإجراءاتٍ تنظيمية أو سيادية داخل الكنيست، فإن جوهرها يهدف إلى شطب الخطّ الفاصل بين الأراضي المحتلة عام 1967 وكيان الاحتلال، وفرض واقعٍ استيطانيٍّ لا رجعة عنه، يقوّض بشكلٍ نهائيٍّ أي إمكانية لقيام دولةٍ فلسطينيةٍ مستقلة أو حتى لحلٍّ سياسيٍّ قائمٍ على الحدّ الأدنى من العدالة التاريخية.
قال الكاتب والباحث في الشأن السياسي ساري عرابي لـ”شبكة قدس” إن إقرار الكنيست بالقراءة التمهيدية لقانون ضمّ مستوطنة “معاليه أدوميم”، وقانونٍ آخر طرحه زعيم حزب “نوعام” الديني، يعكس طبيعة المجتمع السياسي في “إسرائيل” الذي لم يعد فيه تمايُز حقيقي بين اليمين واليسار في الموقف من الفلسطينيين، موضحاً أن “كامل الطيف السياسي الإسرائيلي يتبنّى رؤيةً يمينيةً تجاه الصراع، ولا توجد أي قوى فاعلة داخل المؤسسة الحزبية أو الكنيست تمتلك تصوراً حقيقياً لمنح الفلسطينيين حقوقهم”.
وأضاف عرابي أن ردّ الفعل الأمريكي على هذه الخطوة لن يكون جدّياً أو مؤثّراً، “فالولايات المتحدة لا تعارض الضمّ من حيث المبدأ، لكنها قد تفضّل تأجيله أو تنفيذه بشكلٍ تدريجيٍّ وغير معلن”. واستشهد بخطة ترامب المسماة “صفقة القرن” التي تضمّنت ضمّ 30% من الضفة الغربية، وبمواقف واشنطن المتواصلة التي شرعنت الاستيطان والاعتراف بالقدس عاصمةً موحّدةً للاحتلال وبـ”السيادة الإسرائيلية” على الجولان. وأكّد أن “أي إدارة أمريكية، سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية، لم تتخذ يوماً موقفاً فعلياً يحدّ من المشروع الاستيطاني أو يفرض عقوبات على تل أبيب”.
وفي ما يتعلّق برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، أوضح عرابي أنه “يلعب على جميع الحبال”، إذ يدعم المستوطنين سراً ويتيح تمرير مثل هذه القوانين دون أن يتحمّل مسؤوليتها السياسية. “نتنياهو ترك مهمة طرح القانون لحزبٍ صغير مثل نوعام ذي المقعد الواحد في الكنيست، ليبدو وكأن الأمر لا يمثّل موقف الحكومة، بينما امتنع الليكود عن التصويت لتخفيف الضغط الخارجي، خصوصاً من الولايات المتحدة وبعض الدول العربية المطبّعة”، حسب قوله.
وبيّن عرابي أن هذه القوانين ليست خطواتٍ معزولة، بل تأتي ضمن “أجندةٍ شاملة” لتكريس الضمّ الفعلي للضفة الغربية. وأوضح أن الاحتلال عزّز على الأرض بنيته الاستيطانية والعسكرية، وأقام إدارةً مدنيةً خاصة بالمستوطنين داخل وزارة الحرب الإسرائيلية، منفصلة عن الإدارة المدنية التابعة لجيش الاحتلال، “وهو ما يعني عملياً تحويل الاحتلال العسكري إلى احتلالٍ مدنيٍّ إداريٍّ يسعى إلى توحيد القوانين بين الضفة والكيان الإسرائيلي”، على حدّ وصفه.
وأشار إلى أن “هذه الإجراءات التمهيدية، سواء عبر البنى التحتية أو التشريعات القانونية، تهدف إلى الوصول إلى مرحلة الضمّ الرسمي الكامل، وهي نتاج مسارٍ طويلٍ بدأ منذ تسعينيات القرن الماضي”، مضيفاً أن “المنافسة بين الأحزاب في “إسرائيل” على كسب أصوات اليمين تدفعها إلى تقديم مشاريع قوانين الضمّ، ما يجعلها أدواتٍ ضمن مخططٍ استراتيجيٍّ لا مجرّد دعايةٍ انتخابية”.
وفي ما يخصّ الموقف الفلسطيني، يرى عرابي أن “ردود الفعل الرسمية أو الشعبية لن تكون كبيرة”، مفسّراً ذلك بأن “السلطة الفلسطينية لم تُحدِث أي تحوّلٍ في سياساتها رغم تصاعد الاستيطان والاعتداءات في الضفة، بل حتى مع الإبادة الواسعة في غزة لم نشهد مراجعةً أو توجهاً نحو استعادة الوحدة الوطنية”. وأردف: “الضفة الغربية تعيش حالة خنقٍ سياسيٍّ وأمنيٍّ منذ نهاية الانتفاضة الثانية، وقد جرى تفكيك معظم التشكيلات المسلحة وتهميش العمل الجماهيري، بينما تواصل سلطات الاحتلال المداهمات والاعتقالات اليومية”.
وختم عرابي بالقول إن “ردّ الفعل الشعبي في المدى القريب سيكون محدوداً بفعل الواقع الأمني والسياسي القائم، لكن الشعب الفلسطيني بطبيعته يعيد إنتاج إرادته الكفاحية في دوراتٍ نضاليةٍ متجددة، ومن المرجّح أن تظهر موجات مقاومةٍ جديدة في المدى المتوسط أو البعيد”.
وقال الكاتب والباحث في الشأن الإسرائيلي سليمان بشارات لـ”شبكة قدس” إن طرح مشروع قانون فرض السيادة على الضفة الغربية وضمّ مستوطنة “معاليه أدوميم” يعكس حالة الإجماع داخل المنظومة السياسية في “إسرائيل”، سواء لدى الائتلاف الحاكم أو ما يُسمّى بالمعارضة، على رفض إقامة دولةٍ فلسطينية، والاستمرار في تكريس الوقائع الاستيطانية على الأرض.
وأوضح بشارات أن اللافت في هذا القانون أن من تقدّم به هي أحزاب تُعَدّ من المعارضة داخل الكنيست، ما يؤكّد – بحسبه – أن الخلافات داخل الساحة الإسرائيلية لا تطال الجوهر السياسي المتعلق بحقوق الفلسطينيين، بل تقتصر على التفاصيل الحزبية والمصالح الانتخابية.
وأضاف أن تصاعد طرح هذه القوانين يأتي في سياق التحضيرات للانتخابات الإسرائيلية المقبلة المقرّرة مبدئياً في أكتوبر/تشرين الأول 2026، ما يدفع مختلف الأحزاب – بما فيها غير اليمينية – إلى مغازلة الشارع اليميني المتطرّف الذي يشكّل اليوم القاعدة الأوسع في المجتمع الإسرائيلي.
وأشار بشارات إلى أن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو تعامل بذكاءٍ مع هذا الملف، إذ أعلن رفضه للقانون علناً، لكنه سمح بتمريره داخل الكنيست بفارق صوتٍ واحد (25 مقابل 24)، في محاولةٍ لإظهار أن الخطوة لم تأتِ منه شخصياً، وإنما من داخل حزبه وجمهوره، وبذلك يحافظ على علاقاته مع واشنطن من جهة، ويستثمر الموقف داخلياً من جهةٍ أخرى.
ويرى بشارات أن هذه التحركات تحمل رسالةً مزدوجة، مفادها أن جميع التيارات السياسية في “إسرائيل” تتوحّد حول هدفٍ مركزيٍّ يتمثل في منع قيام دولةٍ فلسطينية، وهو ما يشكّل تحدياً ليس فقط للموقف الأمريكي والأوروبي الداعم لحلّ الدولتين، بل أيضاً للموقف العربي الساعي لربط التطبيع بوقف سياسات الضمّ.
وبيّن الباحث أن تقديم مشروعي قانونٍ متوازيين يتعلقان بضمّ “معاليه أدوميم” وفرض السيادة على الضفة يهدف إلى خلق معادلة مقايضة سياسية، بحيث تحصل “إسرائيل” على اعترافٍ دوليٍّ بضمّ “معاليه أدوميم” مقابل تجميدٍ مؤقتٍ لخطوات الضمّ الشامل للضفة، ما يعني – برأيه – تثبيت أحد المشروعين بموافقةٍ أمريكيةٍ ضمنية.
وختم بشارات حديثه بالقول إن “إسرائيل” تدخل اليوم مرحلة مواجهةٍ سياسيةٍ متصاعدة مع المجتمع الدولي، وأن المضي في هذه القوانين سيضعها أمام مأزقٍ استراتيجيٍّ عميق، إذ ستبدو كدولة فصلٍ عنصريٍّ معزولة، منتهكةٍ لسيادة دولةٍ أخرى معترفٍ بها دولياً، ما قد يفقدها تدريجياً الغطاء الأخلاقي والسياسي الذي لطالما اعتمدت عليه في الغرب.