متابعة - شبكة قُدس: تتسارع مظاهر المجاعة في قطاع غزة، في ظل حصار إسرائيلي يدخل أسبوعه التاسع، ما أدى إلى نفاد المساعدات الإنسانية وغياب شبه كامل للغذاء والرعاية الصحية. دفعت هذه الظروف آلاف العائلات إلى طحن الحبوب والبقوليات كبدائل للخبز، بعد نفاد الطحين بنسبة تقارب 95%.
وقد دخلت المجاعة طورًا كارثيًا، لا سيما في شمال القطاع ومدينة رفح، وسط تحذيرات متكررة من الأمم المتحدة لم تلقَ أي استجابة جدية. وفي مقابل هذا التدهور الإنساني، يخيّم صمت دولي ثقيل، يُنظر إليه من سكان القطاع ومؤسساته الحقوقية كغطاء غير معلن لسياسة ممنهجة من الإبادة بالتجويع.
من جهتها، أعلنت منظمة الصحة العالمية عن أرقام مقلقة تشير إلى إصابة نحو 10 آلاف طفل بسوء تغذية منذ بداية العام، من بينهم ما يقرب من 1,400 طفل يعانون من حالات حادة تستوجب علاجًا طبيًا عاجلًا. إلا أن واقع النزوح وصعوبة الوصول للمراكز العلاجية—والتي لا يتجاوز عددها ثلاثة—يعني أن طفلًا واحدًا من بين كل خمسة لا يستكمل علاجه.
كما حذرت المنظمة من تفشي الإسهال المائي الحاد، والذي بات يمثل تهديدًا مباشرًا على حياة الأطفال الذين يعانون أصلًا من نقص التغذية، في ظل انهيار شبه كامل في البنية التحتية للمياه والصرف الصحي.
وفي تطور مثير للقلق، قدم الاحتلال الإسرائيلي مقترحًا لتوزيع المساعدات الإنسانية عبر مراكز تشرف عليها قواته، وهو ما أثار مخاوف واسعة من تسييس الإغاثة واستخدامها كورقة ضغط سياسي، خاصة وأن منع إدخال الغذاء والدواء والوقود يُعدّ شكلًا ممنهجًا من العقاب الجماعي، يرقى إلى مستوى جريمة حرب بموجب القانون الدولي.
ومع نفاد الطحين، لجأ السكان لاستخدام العدس والحمص والذرة والمعكرونة المطحونة لصنع الخبز. إلا أن هذه الحلول البدائية لا تفي بالحد الأدنى من احتياجات الما يعأهالي، مّق من مأساة الجوع المتفاقم في القطاع.
ورغم هذه الكارثة، لم تصدر عن القوى الدولية أي مواقف فعالة أو ضاغطة لفتح المعابر أو فرض ممر إنساني دائم. ما يُنظر إليه كمؤشر إضافي على تواطؤ دولي، يُضفي شرعية ضمنية على استخدام التجويع كسلاح حرب ضد المدنيين.
وبينما تتسع رقعة المجاعة وتتزايد معدلات الوفيات الناتجة عن سوء التغذية والأمراض المرتبطة بها، تُطرح تساؤلات أخلاقية وسياسية جوهرية حول جدوى النظام الإنساني الدولي، وسبب عجزه عن إنقاذ شعب يُباد أمام أعين العالم، وحتى اللحظة، لا تلوح في الأفق مؤشرات على تغير التجاهل الدولي الذي يندرج في إطار التواطؤ، ما يترك غزة وحدها في مواجهة آلة التجويع، ببنية مدمرة، وبطون خاوية وحصار خانق.
ومنذ اندلاع حرب الإبادة على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، تواصل سلطات الاحتلال الإسرائيلي فرض سياسات تجويع ممنهجة ضد أكثر من مليوني فلسطيني، في ما يبدو أنه نهج مقصود في محاولة لإجبار الفلسطينيين على الهجرة وترك أرضهم تحت وطأة الجوع واليأس، وهو ما يصنف كجريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية وفق القانون الدولي.
ومنذ الأيام الأولى للهجوم الإسرائيلي على غزة، فرض الاحتلال حصارًا خانقًا تمثل في منع دخول الغذاء والماء والدواء والوقود بشكل شبه كامل. وصرّح وزير الحرب الإسرائيلي في حينه في 9 أكتوبر 2023، وقال: "نحن نفرض حصارًا كاملاً. لا كهرباء، لا طعام، لا وقود. كل شيء مغلق. نقاتل حيوانات بشرية وسنتصرف وفقًا لذلك".
وطالب الوزير الإسرائيلي، أميحاي إلياهو، بقصف مخازن الطعام وتجويع السكان في قطاع غزة لإجبارهم على الرحيل.
وشدد على أنه "يجب أن نوقف المساعدات الإنسانية. ما دمنا نسمح بدخول المساعدات فإننا نؤذي أسرانا وجنودنا الذين يجبرون على العودة للقتال، زاعما أن "الفلسطينيين في غزة يساعدون حماس بالفعل، ولذلك يجب ممارسة ضغوط مباشرة عليهم".
وقال: "مواطنو غزة هم من دعموا حماس في سبت أكتوبر، هم من يدعمون حماس. ما إن يمر المواطنون بمحنة، حتى تمر حماس بمحنة أخرى"، مشددا على أنه "لا توجد مشكلة في قصف مخزون الطعام الخاص بحماس".
وأضاف: "يجب أن يتضوروا جوعا. وإذا كان هناك مدنيون يخشون على حياتهم فعليهم اتباع برنامج الهجرة الذي ينبغي للحكومة الإسرائيلية الترويج له والذي تنفذه بتكاسل"، داعيا إلى قيادة تحرك عسكري حاسم ضد "حماس"، وتجنب وقف إطلاق النار أو التسويات السياسية.
ولم تكن سياسة التجويع معزولة عن سياق أوسع من التهجير القسري؛ فقد مارست "إسرائيل" منذ بدء الحرب ضغوطاً هائلة لإرغام الأهالي، خصوصاً في شمال القطاع، على "النزوح" جنوباً. ثم بدأت لاحقاً باستهداف جنوب غزة، وتحديداً مدينة رفح، التي أصبحت آخر ملاذ لأكثر من 1.5 مليون نازح.
وفقًا للقانون الدولي الإنساني، فإن استخدام التجويع كأداة حرب محظور بموجب المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، والمادة 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، التي تعتبره جريمة حرب.
وتجويع سكان غزة ليس نتيجة جانبية للحرب، بل سلاح متعمد ضمن سياسة إبادة وتطهير عرقي ممنهجة، تهدف لدفع الفلسطينيين إلى خيار واحد: مغادرة وطنهم أو الموت فيه. وبينما يصمت العالم الرسمي أو يكتفي بالإدانة، تمضي "إسرائيل" في تنفيذ سياسات طالما اعتُبرت خطوطًا حمراء في القانون الدولي.