شبكة قدس الإخبارية

رصاص وسرقة تحت حماية الطائرات: من يحرِّك الفوضى في غزة؟

٢١٣

 

رصاص وسرقة تحت حماية الطائرات: من يحرِّك الفوضى في غزة؟
أحمد الطناني

غزة - قدس الإخبارية: شهدت الأيام الأخيرة تصاعدًا لافتًا في عمليات السطو على مخازن المساعدات والمنشآت الخدمية، تزامنًا مع حالة الحصار والتجويع المفروض على قطاع غزة منذ شهور. وعلى الرغم من أن هذه الأفعال ظهرت بمظهر العفوية –كما لو أنها نتيجة طبيعية للجوع والانهيار– فإن نمطها، وتوقيتها، واتساعها، أوحى بعكس ذلك تمامًا.

إن المجتمع الغزِّي، الذي صمد تحت أقسى ظروف القصف والحصار، لم يُعرَف يومًا بانزلاقه نحو هذه الأشكال من البلطجة المنظَّمة، ولا عبَّر عن وجعه بتمرد عشوائي ضد مقدراته. ومن هنا، فإن ما جرى يبدو جزءًا من محاولة مدروسة لإغراق غزة في فوضى داخلية مُدارة، تُستخدَم كسلاح موازٍ للحرب المباشرة، وتُنفَّذ عبر أدوات محلية مخترقة أو متواطئة.

تؤكد طبيعةُ الأحداث الميدانية وتسلسلها إلى أن هذه السلوكيات لم تكن تعبيرًا عن الجوع، بل كانت تجسيدًا لتحرُّكٍ موجَّهٍ تقف خلفه أجهزة استخباراتية تسعى إلى ضرب البنية الاجتماعية، وتهيئة الأرض لتفكيك البنية الوطنية التي نجت من محاولات الاحتلال العسكرية. 

فالهدف لم يَعُد فقط كسر المقاومة بالسلاح، بل تفكيك الحاضنة الاجتماعية، واستبدالها بحالة من الفوضى، أو إنتاج قيادات بديلة مشوَّهة تَخدِم أجندةَ الاحتلال، تحت غطاء "الحكم المحلي" أو "الإغاثة البديلة".

وبذلك، فإن ما يجري يعكس مزيجًا في استراتيجية الاحتلال: ما بين الحسم العسكري إلى الهندسة الداخلية للمجتمع الفلسطيني، عبر دفعه إلى التفكك الذاتي، تحت وطأة الحصار، والتجويع، والانهيار المؤسساتي.

عمل منظم مُغلَّف بالفوضى

مع دخول الحصار المفروض على قطاع غزة شهرَه الثاني، والنضوب المستمر في الإمدادات الغذائية، عادت ظاهرة السرقات المنظَّمة إلى واجهة المشهد الأمني في القطاع، مترافقة مع المجاعة المتصاعدة وانهيار شبكة الإمداد الغذائي، وسط صمت دولي خانق. 

في خلال الأسبوع الماضي وحده، سُجِّلت عشرات حوادث السطو على مخازن ومؤسسات إغاثية واقتصادية حيوية، كان لافتًا فيها حجم التنسيق، ونمط التنفيذ، وتكرار الاستهداف لنقاط إمداد مركزية.

تُذكِّر هذه الهجمات بموجة سابقة شهدتها مناطق خان يونس ورفح في خلال الأشهر الأولى للحرب، حين تكدَّس النازحون في ظل الاستهداف المكثَّف للبنية الأمنية، فكانت النتيجة تفجُّر عمليات سطو واعتداء ممنهج على المساعدات الإنسانية، بما فيها مناطق كانت خاضعة آنذاك لسيطرة جيش الاحتلال. ومن اللافت أن الاعتداءات في تلك الفترة استهدفت شاحنات تابعة لمؤسسات أممية استهدافًا مباشرًا، في رسالة واضحة بأن الهدف الرئيسي للفوضى هو تدمير مقومات الصمود والدفع بمشروع تفتيت غزة من الداخل.

في الوقائع الأخيرة، توزعت الهجمات على مخازن لتكايا تطعم الآلاف من المواطنين، ثم طالت منشآتٍ دولية، بينها المقر الرئيسي لـ"أونروا" في مدينة غزة، على الرغم من أنه لا يُستخدَم كوحدة تخزين. نمط الهجمات وتسلسلها، وحجم التسليح المستخدَم، يكشفان أن ما يجري ليس انفلاتًا عشوائيًّا ناتجًا عن الجوع، بل عمليات موجَّهة تنفِّذها تشكيلات عصابية مسلحة شبه منظَّمة، تتخفى خلف حشود نازحة لتبدو كأنها حالات غضب شعبي، فيما هي في حقيقتها جزء من "الفوضى المُدارة".

وتؤكد شهادات ميدانية أن هذه المجموعات تتحرك وفق أوامر مباشرة من جهات أمنية مرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي، وتنفِّذ عملياتِها تحت غطاء جوي تُوفره طائرات الاحتلال المسيَّرة، التي تحلِّق بكثافة فوق المناطق المستهدَفة بالتزامن مع الهجمات. هذا التزامن المتكرر يَطرَح تساؤلاتٍ جديةً حول دور الاحتلال في إسناد هذه العصابات وتهيئة الأرض ميدانيًّا لنشاطها.

يَحمل المهاجمون أسلحةً خفيفةً وأدواتٍ حادة، ويُرهبون السكانَ بإطلاق نار كثيف قبل اقتحام المواقع، ما يؤدي إلى بث الذعر بين العائلات، والاعتداء على المارة، وسرقة ممتلكاتهم. لكن الأخطر من كل ذلك أن هذه العمليات تستهدف شلَّ عمل التكايا والمطابخ الجماعية ومراكز الإغاثة استهدافًا مباشرًا، لتوسيع نطاق الجوع وإحكام خنق المجتمع الفلسطيني في غزة.

تتفق هذه الممارسات مع مقارَبة إسرائيلية تُعرَّف في العقيدة الأمنية بـ"الفوضى البنَّاءة"، أي الدفع بمجتمعات العدو نحو التفكك الذاتي عبر تآكل داخلي ممنهج، يسمح بإعادة تشكيل النظام الاجتماعي وفق مصالح الاحتلال. وبهذا، لا تكون الفوضى مجرد نتيجة جانبية للحرب، بل أداة مركزية في إدارة "اليوم التالي" لغزة.

تغطية على أهداف أمنية: الفوضى كقناع للعمل الاستخباري

يتضح يومًا بعد آخر أن الفوضى المنتشرة في قطاع غزة ليست مجرد انعكاس لحالة انهيار معيشي، بل أداة فعَّالة تُدار بوعي أمني وتُسنَد بتخطيط استخباراتي.

ففي إحدى أبرز الشواهد الميدانية على هذا التورط، قصفت طائرات الاحتلال المسيَّرة عناصرَ شرطيةً ولجانًا شعبيةً في أثناء مهمَّةٍ لملاحَقة عصابة نفَّذت عمليةَ سطو في شارع الثورة بمدينة غزة، ما أسفر عن استشهاد عدد من أفراد الأمن وإصابة آخرين. فيما كانت المفارَقة الصادمة أن اللصوص عادوا إلى نفس الموقع بعد الغارة، ما يؤكد أن الغطاء الجوي كان جزءًا من المهمة وليس تدخّلًا عارضًا.

لم يكن هذا الحدث استثناءً، بل كان امتدادًا لنهجٍ متصاعدٍ يَستهدِف تفكيكَ الأجهزة الأمنية وتحييدها في اللحظة التي يكون وجودها فيها أكثر أهمية. فمنذ عودة العدوان في مارس/آذار الماضي، كثَّف الاحتلالُ ضرباته ضد مقار الشرطة وقادة الأجهزة الأمنية. وبين أبرز محطاته اغتيال اللواء محمود أبو وطفة، وكيل وزارة الداخلية، ثم قصف مركزين للشرطة، أحدهما في دير البلح مطلع أبريل والآخر في سوق جباليا في 24 من الشهر ذاته، بالتزامن مع مطاردة الأمن لعصابات السطو.

وحسب إحصائيات حكومية، اغتال الاحتلال في خلال الحرب أكثر من 750 عنصرًا من الشرطة وحماية المساعدات، في مؤشر يكشف عن محاولة ممنهجة لشطب قدرة المجتمع على ضبط الأمن، ودفعه إلى الانهيار الذاتي.

كانت مصادر أمنية قد كشفت لـ"شبكة قدس" أن تحقيقات مع عناصر متورطة في عمليات سطو أظهرت صلاتٍ مباشرةً بأجهزة مخابرات إسرائيلية وعربية. وقد اعترف بعضهم بتلقِّي توجيهات من جهاز "الشاباك" لسرقة مساعدات غذائية أو معدات تقنية، على أن يُقصَف الموقع بعد الانتهاء من العملية، كما حصل في إحدى الحالات التي رُصِدَت فيها طائرات "كواد كابتر" تُرافِق اللصوص.

في واحدة من الشهادات الصادمة، أفاد أحد المتخابرين أن مهمته كانت جمع معلومات عن تحركات قوى الأمن وتمركزها، عبر افتعال أعمال نهب مدفوعة بالجوع، ثم تتبع ردِّ فعل الشرطة، ما يكشف أن هدف "الفوضى المصنوعة" يتجاوز البُعد الإنساني أو الفوضوي، ليُصبح أداةً لاختراق البنية الأمنية وكشف نقاط ضعفها، تمهيدًا لاستهدافها عسكريًّا.

وتُدلِّل هذه المعطيات على أن الفوضى في قطاع غزة لم تُترَك تنمو بطبيعتها، بل صُنعَت بوصفها جزءًا من استراتيجية أمنية تَدمج العمل الاستخباري بالمشهد الإغاثي والمجتمعي، لخلق أدوات "حرب ناعمة" داخلية تتكامل مع آلة القتل الإسرائيلية في الخارج. وهذا ما يؤكد أنها حرب على الوعي والثقة، بقدر ما هي حرب على الخبز والأمن.

انسجام وظيفي مع خطط الاحتلال: الفوضى كأداة هندسة اجتماعية

تتماهى موجة الفوضى التي تشهدها غزة مع سياق أوسع من السياسات الإسرائيلية التي تَستهدِف تفكيكَ المجتمع من الداخل، ليس فقط عبر التجويع والقصف، بل من خلال ضرب نسيج التماسك الأهلي وإضعاف بنى التكافل التي حافظت على صمود الغزيين طوال 19 شهرًا من حرب الإبادة.

وبالتالي، فإن التحركات الأخيرة لعصابات السطو المدعومة بغطاء جوي ليست حوادث عابرة، بل هي جزء من خطة ممنهجة تتكامل مع تشديد الحصار وتجفيف الموارد، وتهدف إلى خلق فراغات أمنية واجتماعية، تُبرِّر لاحقًا التدخل المباشر في إدارة المساعدات والملف المدني في القطاع.

إذ يسعى الاحتلال حثيثًا إلى فرض "آلية جديدة" تُقصي المنظومةَ الوطنيةَ والمؤسساتِ الإغاثيةَ القائمة، بما فيها حتى بعض الأذرع الأممية غير المنسجمة مع أجنداته، لصالح بنية هجينة تتضمن:

  • مخازن مركزية للمساعدات داخل مناطق يُسيطر عليها الاحتلال.
  • إدارة التوزيع عبر مؤسسات دولية متعاونة.
  • تنفيذ ميداني عبر شركات أمنية خاصة تضم مرتزقة غربيين.

ولتحقيق ذلك، بات واضحًا أن المطلوب أولًا هو تفكيك البنية المجتمعية، وإشاعة مناخ من الرعب وعدم الأمان، بما يُفقِد الناسَ ثقتهم بالمؤسسات القائمة، ويدفعهم إلى البحث عن "خلاص فردي"، ولو عبر القبول بخيارات مشوَّهة تُقدَّم لاحقًا كبدائل محلية "آمنة" لكنها في حقيقتها إدارات وظيفية تتقاطع مع مصالح الاحتلال.

في هذا السياق، تُشير المعطيات إلى أن جهات مخابراتية إسرائيلية وعربية تلعب دورًا مباشرًا في توسيع دائرة الفوضى، بما يشمل توفير الغطاء اللوجستي للعصابات، وتهيئة البيئة لظهور أشكال جديدة من "القيادات المجتمعية"، التي تُدار خلف الكواليس ضمن خطط "اليوم التالي" التي لم ينجح الاحتلال في فرضها عسكريًّا.

ويمكن الجزم بأن الهدف النهائي من هذا المسار ليس ضرب الأمن الداخلي فحسب، بل كسر إرادة البقاء، وتفكيك أحد أبرز مقومات الصمود في قطاع غزة: التكافل الأهلي والشبكات المجتمعية الوطنية.

فالاحتلال يدرك أن تدمير البنية المادية وحده لا يكفي، بل يجب أن تُستكمَل الحرب بسحق المعنويات، وإغراق الناس في الفوضى واليأس، تمهيدًا لإعادة إنتاج الواقع وفق رؤيته.

كما لا يمكن إغفال أنه في جوهر هذه الرؤية يبرز هدف مركزي ظلَّ حاضرًا في خطاب قادة الاحتلال منذ الأيام الأولى للحرب: تفريغ غزة من سكانها، لا عبر التهجير المباشر فحسب، بل بدفع الناس إلى الهروب من جحيم الفوضى، وغياب الأمن، وتحطُّم الأمل في عودة الحياة.

وعي المجتمع هو خط الدفاع الأخير

في خضم هذا المشهد المضطرب، يبرز الموقف الوطني والمجتمعي بوصفه خط الدفاع الحقيقي في وجه محاولات التفكيك والفوضى. ولقد عبَّرت القوى المجتمعية والعشائرية في قطاع غزة بوضوح لا لبس فيه عن رفضها القاطع لكل أشكال البلطجة والسطو والتخريب، مؤكدة أن الانتماء الوطني العميق والتكافل الأهلي المتجذر ما يزالان صمام الأمان الأول أمام مشاريع الاحتلال وأدواته.

وكان للموقف العشائري دور مركزي في هذا السياق، إذ شكَّل عنوانًا صلبًا في رفع الغطاء عن المتورطين، وتجريدهم من أية صفة وطنية، وتأكيد أن من ينسجم مع مخططات الاحتلال أو يتماهى مع أدواته الاستخبارية –محلية كانت أو إقليمية– لا يمكن إلا أن يُعامَل على أنه أداةً في مشروع مُعادٍ يَستهدِف بنيةَ المجتمع وثوابته.

وبمقدار ما تكتسب المعالجات الأمنية الميدانية المسنودة باللجان الشعبية أهمية في ضبط الحالة، فإن العامل الحاسم في المعادلة يبقى وعي المجتمع وصلابته، ورفضه أن يكون ساحة عبور لأهداف الاحتلال الخفية، فحين يتحول الوعي الجمعي إلى درع واقٍ، تُصبح أدوات التفتيت بلا جدوى، وتَفشل الفوضى في تحقيق ما عجزت عنه الحرب.