شبكة قدس الإخبارية

قيود جديدة على حرية التعبير.. السلطة وقواعد اللعبة الجديدة

٢١٣

 

AFP_1WY9Q2.jpg
عمار جاموس

"إننا لن نسمح بالمساس برموز أية دولة عربية شقيقة أو صديقة أو قياداتها": قيود جديدة على حرية التعبير في فلسطين

لقد تم تغيير قواعد اللعبة!

١- بتاريخ ٩ أبريل ٢٠٢٥، هاجم الناطق باسم "الرئاسة" السيد نبيل أبو ردينة د. مصطفى البرغوثي، وذلك على خلفية تصريحات الأخير التي انتقد فيها موقف النظام الإماراتي من القضية الفلسطينية والتطبيع مع إسرائيل. في البيان الذي نشرته وكالة وفا الرسمية، وصف أبو ردينة أمين عام المبادرة الوطنية بالمدعو (وهو لفظ يستخدم عادة للتقليل من الاحترام)، وقال إنه لا يمثل الشعب الفلسطيني (بالرغم من أن البرغوثي انتخب في ٢٠٠٦ نائباً في المجلس التشريعي عن قائمة فلسطين المستقلة).

٢- لقد رأيت في تصريح السيد أبو ردينة -من بين جملة أمور أخرى- محاولة جديدة من قيادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير (المتحدث الرسمي باسم الفلسطينيين المعترف به، والتي ما زالت تحتفظ ببعض مظاهر الحكم والإدارة في مناطق من الضفة الغربية المحتلة)، لوضع قيود إضافية على حرية الكلام المحدودة أصلاً بالنسبة للفلسطينيين الخاضعين لسلطتها، تتصل هذه المرة بتحصين الزعماء العرب من النقد، بقوله بشكل خاص: "إننا (السلطة الوطنية الفلسطينية) لن نسمح بالمساس برموز أية دولة عربية شقيقة أو صديقة أو قياداتها".

٣- يبدو أن هذا التحذير الرسمي بدأ يشق طريقه على الأرض مع الحديث عن اعتقال الأجهزة الأمنية في الأيام القليلة الماضية لمواطنين في الضفة الغربية المحتلة بسبب انتقادات سياسية للسلطات الأردنية، من بينهم عزام أبو العدس من نابلس (بحسب العائلة). وقبل ذلك، قمعت السلطة وقفة سلمية على دوار المنارة في رام الله خرجت بالتزامن مع تشييع الأمين العام السابق لحزب الله اللبناني في ٢٣ فبراير ٢٠٢٥، وقبلها إغلاق مكاتب قناة الجزيرة الفضائية وحظرها (يناير ٢٠٢٥)، والذي جاء من وجهة نظري -ومن بين جملة أمور أخرى- على خلفية تمترس قيادة منظمة التحرير في تحالف إقليمي، تحظر معظم مكوناته قناة الجزيرة وتمنع مواطنيها من الظهور على شاشاتها أو الكتابة في مواقعها، وتمنع أيضاً من التضامن أو التأييد لمكونات محور إقليمي آخر -خصم التحالف الذي تنتمي إليه قيادة منظمة التحرير الحالية.

٤- على مر سنوات، عاقبت السلطات الفلسطينية المواطنين على آرائهم السياسية ومنعت المعارضة، إما باستخدام القوة العارية عبر توجيه التهديدات، وإطلاق النار  على البيوت والسيارات، والإيذاء البدني، وتشويه السمعة، والحملات الماسة بالشرف، وصولاً إلى القتل مثلما حصل مع المعارض السياسي نزار بنات ٢٠٢١... وإما باستخدامها القانون والمحاكم والسجون والفصل من الوظائف بشكل أساسي وواسع النطاق، والأخير هو استخدام حصري للسلطة دون وكلائها وإن كانت تستخدمه أحياناً بتحريض منهم. بينما القمع عبر القوة العارية قد يكون من السلطة أو من وكلائها أو ممن يتصرفون بعلمها أو المحسوبين عليها دون أن تمنعهم أو تحاسبهم.

٥- ومع ذلك، فقد كانت هنالك غالباً قواعد عرفية غير مكتوبة لما يمكن تسميته هنا "اللعبة"، من هذه القواعد ما يتعلق بشخص المتكلم ومضمون الكلام وسياقه ومدى انتشاره، ففي الغالب لم يكن شخصاً مثل الدكتور مصطفى أو قدورة فارس عرضة للملاحقة من أي نوع بسبب آرائهم (بما في ذلك عبر الإدانة من مسؤول مهم، أو الفصل من الوظيفة)، ولم تكن لتغلق قناة مثل الجزيرة وتحجب مواقعها على الانترنت، وبينما كان يمكن التسامح مع بعض الانتقادات ضد رئيس الحكومة أو الوزراء، فإن الهامش كان يضيق كلما اقتربت من الأجهزة الأمنية، ويضيق أكثر عند الاقتراب من قادة هذه الأجهزة، أو من مواضيع الفساد والتنسيق الأمني مع إسرائيل -دولة الاحتلال، وكان الرئيس دائماً خطاً أحمر، حيث توجد جريمة في القانون المطبق في الضفة الغربية المحتلة تسمى "إطالة اللسان على الملك" - فسرتها السلطة بأنها تشمل أيضاً إطالة اللسان على الرئيس... هذا لا يعني أنني أوافق على القمع في حدود أو ضمن قواعد اللعبة ولكن أصف الواقع كما هو.

٦- الآن هذا تَغير -لقد تم تغيير قواعد اللعبة، ولم تعد هنالك حدود، وأصبح الجميع عرضة للملاحقة وعن أي كلام وفي أي سياق ولأي مدى. وتريد السلطة الآن تحديث قائمة المحظور من الكلام بما يشمل تحصين رؤساء وملوك الدول العربية أو أولياء العهد أو المسؤولين السياسيين والأمنيين فيها. وقد تستخدم القانون والمحاكم لمعاقبة الفلسطينيين الغاضبين على أولئك الزعماء بسبب موقفهم مما يجري في غزة الذي لم يرتق إلى مستوى التطلعات أو الذي بدا كمن يراهن على إنجاز إسرائيل للمهمة (على الأقل). بالطبع، تحتاج السلطة لإنفاذ هذه الغاية إلى تفسير النصوص الجنائية في قانون العقوبات بما يتعارض بالنتيجة مع القانون الأساسي المعدل (الدستور) والقانون الدولي لحقوق الإنسان الملزم للسلطة الوطنية، واللذان يكفلان حرية التعبير ويحظران معاقبة الناس بسبب تعبيرهم عن آرائهم في الشؤون العامة، لكنها لا تبالي بالوسيلة إذا كانت تحقق الغاية.

٧- متى حصل هذا الانعطاف (تجاوز الحد) من وجهة نظري؟ لقد أدركت منذ انتشار فيديوهات أفراد وضباط قوى الأمن التي يوثقون فيها ممارستهم التعذيب والتنكيل بالمعتقلين العزل أواخر العام المنصرم ٢٠٢٤، ولاحقاً مرور هذه الفيديوهات على رؤسائهم دون اتخاذ إجراءات لمحاسبتهم، أدركت عندئذٍ أننا دخلنا مرحلة جديدة، ولم تعد ثمة حدود أو قواعد (مثلاً السلطات في السابق كانت تنكر التعذيب أو تجادل فيه أو تقول إنها ممارسات فردية مرفوضة: الآن يتم توثيقه بلا أدنى قلق من العواقب القانونية !!). ثم جاء قرار حظر قناة الجزيرة الفضائية في بداية هذا العام، ولاحقاً حجب مواقعها على الإنترنت وإزالتها عن التلفزيونات التفاعلية، دون أدنى احترام للإجراءات القانونية الواجبة وأصول التقاضي المتبعة أمام المحاكم ولا للالتزامات القانونية لشركات الإنترنت أمام عملائها، وكذلك بالنسبة لمنع المحللين السياسيين من الظهور على شاشة القناة المحظورة، والمنع من السفر بالجملة لشخصيات أكاديمية مستقلة كانت تهم بالسفر للمشاركة في مؤتمر سياسي معارض في الدوحة (١٧ فبراير ٢٠٢٥). ثم جاءت قرارات تعديل القوانين الناظمة لحقوق الأسرى والمحررين وأسر الشهداء (١٠ فبراير ٢٠٢٥)، والباب على الجرار.

٨- هذا التسارع في التحلل من القواعد وتجاوز الحدود المتعارف عليها، لم يأت من فراغ، إنما هو نتاج تغيرات في أزمة الشرعية التي خلقتها غزة للكافة -للنظام العالمي الذي تسامح مع إبادة الأطفال، وحاجة سلطات الدول مع هذا الحال إلى استخدام فائض من القوة والعنف لتعويض شرعيات متآكلة (تماماً مثلما حصل في الثورات المضادة للربيع العربي)، إضافة إلى سيادة منطق القوة الغاشمة على العلاقات بين الدول وبين السلطة السياسية والشعب أيضاً. فضلاً عن مسألة استغلال الفرصة، فالإبادة أم الجرائم تغطي على غيرها من الأحداث والجرائم وتشكل للسلطة فرصة سانحة لاستخراج قرارات درج لم تكن لتبصر النور في الأوضاع العادية. إضافة إلى تغاضي الفاعلين/ الضاغطين الرئيسيين وخاصة المانحين عن ملف حقوق الإنسان، فالمهم عندهم الآن التزام السلطة بالتنسيق الأمني مع دولة الاحتلال والمحافظة على الهدوء في أماكن سيطرتها- أي شيء آخر غير ضروري.

٩- بالتأكيد، لم نصل إلى هذا فجأة، فعلى مر العقد الماضي أو أكثر بقليل (بالتزامن مع الثورات المضادة للربيع العربي) قوضت السلطات الفلسطينية سيادة القانون والديمقراطية وحرية التعبير عبر سلسلة من الإجراءات والقرارات، وكانت دائماً القواعد تتغير لمصلحة السلطات على حساب الناس، فهي بالنهاية لم تجد من يلجمها من النخبة المحلية أو المانحين، لا توجد رقابة حقيقية، فكان طبيعي الوصول إلى هذه اللحظة، خاصة عندما سنحت الفرصة بفعل الإبادة، ومن أبرز تلك التراكمات التي دفعت باتجاه هذه اللحظة من وجهة نظري: إلغاء الانتخابات العامة ٢٠٢١، قتل المعارض السياسي نزار بنات ٢٠٢١، حل السلطة القضائية وإضعاف استقلال القضاء بتعديل قانون السلطة القضائية وعزل القضاة بالجملة (٢٠١٩)، حل المجلس التشريعي ٢٠١٨، ورفع الحصانة البرلمانية عن أعضاء التشريعي بقرارات رئاسية ٢٠١٦، تشكيل محكمة دستورية عليا ٢٠١٦ بقرار منفرد، إساءة استعمال الحبس الاحتياطي والتوقيف على مر سنوات حتى ضد المتهمين بالجرائم المدنية وليس السياسية فقط.

إن الشعور بأن سلطة سياسية ما حتى لو كانت تحظى بشرعية كاملة، تتصرف بلا حدود أو قواعد، هو سبب يجب أن يدفع الجميع للقلق حتى لو لم يكن من المعارضة. إضافة إلى أننا في فلسطين المحتلة لسنا كالدول العربية، فما زلنا تحت الاحتلال ونسعى إلى الحرية وتقرير المصير، وهذا يتطلب إبراز مظاهر الحرية وسيادة القانون في تعاملاتنا، اتساقاً في الخطاب والموقف، فالاتساق وعدم التناقض يقوي الحجج ويجلب مزيداً من الحلفاء الذين يشتركون معنا في القيم المتصلة بالحرية والتحرر من الاستعمار، وهذا مهم في الضغط لحل القضية حلاً عادلاً والوفاء للتضحيات التي بذلت من أجلها وأملاً في مستقبل أفضل للأجيال القادمة.