يواصل الاحتلال الإسرائيلي مشاريع الشرعنة لبؤر استيطانية التي كان اعتبرها سابقا تصرفات فردية يقوم بها المستوطنون وأنها مؤقتة ولن يتم دعمها، وجعلوا مئات الفلسطينيين من أصحاب الأراضي المسيطر عليها بالقوة من قبل المستوطنين في حالة ترقب وتداول في المحاكم الإسرائيلية التي اضطرتهم لدفع عشرات آلاف الدولارات للمحامين، لتكون الخطوة التالية شرعنة اغتصاب حقوقهم من حكومة احتلال لا شرعية أصلا له حسب القانون الدولي على الأرض المحتلة عام 1967.
تتلاقى مشاريع الاستيطان مع عمليات الجيش العسكرية في الضفة الغربية مع القرارات السياسية التي تنعكس مباشرة بالتطبيق الفوري؛ من مصادرة الأراضي بحجة الأمن والجدار العنصري تارة أو للمحميات الطبيعية وأخرى لمناطق تدريب عسكري ورابعة لشوارع التفافية وخامسة وسادسة وسابعة.
تكثر الحجج ولكن الثابت هو تصاعد الاستيطان وتلاشي التواصل الجغرافي للمدن الفلسطينية في الضفة الغربية والذي منذ توقيع اتفاقية اوسلو 1993 أخذ منحىً متسارعا متسترا بعملية السلام الوهمية ومدعوما من التطبيع الذي شق طريقه للدول العربية والذي فتح أمام إسرائيل أفق التسهيلات والممرات والعلاقات الاقتصادية وغيرها، ما جعل كثيرا من المخططات الاستيطانية تبصر النور على حساب ظلم وقهر دخل فيه الفلسطيني دون التفات عربي ودولي لما يجري.
السم اللذيذ
هكذا كانت اللعبة الإعلامية التي سوقت لها إسرائيل في تعريفها لسرطان وسموم اغتصاب الأرض وقتل الإنسان، فبينما القانون الدولي يعطي دولة مستقلة للشعب الفلسطيني بحدود وسيادة وموارد طبيعية جاءت اتفاقية السلام الوهمي ليستغلها الإسرائيلي مباشرة بجعلها جسرا لاستيطانه الذي أطلق عليه مسميات لتجميله في الساحة الدولية.
فبات يستخدم مصطلح التوسع الطبيعي للمستوطنات والبناء الإضافي الأساسي والحاجة للشارع، كذلك استخدم مصطلحات للتواصل الجغرافي والاستيطان الشرعي والبؤر غير الشرعية والمستوطنات الدينية وأخرى الزراعية والمزارع والمنشآت، وهذه كلها تصنيفات لتشتيت الرأي العام الدولي والعبث بمصطلح الاستيطان وتقسيمه ليصعب حل القضية على أساس القوانين الدولية وإلزام الأطراف للدخول في مفاوضات حول هذه الملفات، وهذا بحد ذاته بات سما لذيذا تناولته الكثير من الأطراف في الساحة الدولية، وأصبح بعضهم مؤمنا بتلاشي الدولة الفلسطينية وضرورة تقسيم الفلسطينيين لتجمعات سكانية، ولذلك يدخل الاستيطان اليوم مراحل خطيرة.
استيطان مطور
في ظل موجة الشرعنة للمستوطنات التي انتشرت بشكل كبير على تلال الضفة الغربية يأتي مصطلح جديد للواجهة ليتم السيطرة على السهول والأودية وينابيع المياه بما يسمى "الاستيطان الرعوي"، حيث تم تشريد أكثر من 30 تجمعا بدويا وحصر عشرات القرى والبلدات الفلسطينية داخل حدود العمران فيها، وحرم مزارعوها من الرعي أو الفلاحة أو دخول أراضيها في جنوب نابلس وشرق رام الله ومسافر يطا جنوب الخليل وطوباس شمالا والأغوار وأريحا بجوارها وصولا لشرق القدس وعديد المناطق.
كل هذا يندرج تحت إطار مناطق رعوية يسيطر عليها المستوطنون ويمنعون الحياة الفلسطينية ضمن منظومة الضغط والتنكيل والترهيب لطردهم طوعيا وقسريا، وهذه سياسة يدعمهم فيها الجيش الإسرائيلي مباشرة، ومؤخرا ألغى وزير الحرب الإسرائيلي كاتس أوامر الاعتقال الإداري بحق المستوطنين الذين يهاجمون الفلسطينيين، وسبق ذلك إلغاء الإدارة الأمريكية الجديدة للعقوبات على أربعة من المستوطنين في الضفة الغربية الذين يمارسون الإرهاب ليلا ونهارا.
ورغم أن العقوبات شملت فقط أربعة مستوطنين من بين آلاف هم أعضاء في مجموعات العربدة كما مجموعة "فتية التلال" و"تدفيع الثمن" إلا أن الإدارة الأمريكية ألغت حتى هذه العقوبات التي رآها المراقبون أصلا من البداية شكلية وتجميلا للدور الأمريكي وتشتيتا للمتابعين لدوره في الإبادة الجماعية المرتكبة في غزة.
مظلات
اليوم يُغطى المشروع والخطط الاستيطانية في الضفة بثلاث مظلات كفيلة بأن تكون دولة المستوطنين "يهودا والسامرة" قائمة فعليا خلال خمسة أعوام، وهذه المظلات هي:
* الدعم السياسي والمالي المطلق من الإدارة الأمريكية الجديدة والتي أعلن الرئيس دونالد ترامب بوضوح وكرر ذلك أنه يرغب في توسيع إسرائيل تزامنا مع إطلاق خطة الضم التي تقوض الحلم الفلسطيني بالدولة المستقلة بل وتجعل المنطقة العربية تحت رحمة مزاج الأمن القومي والديني الإسرائيلي، وهذا الدعم تبعه تطبيع مطلق تجاوز حده باستقبال قادة المستوطنات في الضفة الغربية في إحدى العواصم العربية وناقشوا مشاريع تطوير فيها، وهذا بات ضربا في الحائط لكل الأخلاق والقوانين ناهيك عن النخوة العربية الواجبة.
* العقلية الإسرائيلية التي تبنى على عقيدة الردع والاستيطان باتت هي الجهة الحاكمة فعليا في إسرائيل، وهي التي يتم توجيهها من أهم وزراء الحرب والمالية والأمن القومي، وهؤلاء يسكنون المستوطنات في الضفة الغربية، لذلك باتت لديهم الآن مظلة شرعنة واسعة للخطط العالقة، وهذا يعني أن المصادرة للأرض تقوم بها الحكومة، بينما السيطرة بالقوة ينفذها الجيش، والاستيطان ينفذه المستوطنون المدعومون من هذه الحكومة.
* الضعف والتشتت العربي وصولا للانقسام الفلسطيني الذي سببته اتفاقية اوسلو المجحفة والمذلة للفلسطينيين، والمشهد الذي بني عليها جعل فرصة الإغراء للسيطرة الإسرائيلية أكثر، فهذا الضغف والتشتت والأحقاد جعلت بعض الأطراف العربية ترى في إسرائيل صديقا للتخلص من طرف عربي آخر؟ وكذلك بعضهم تخلص من عبء الخطيئة التاريخية بحجة أن هناك سلطة فلسطينية وقرارا فلسطينيا مستقلا، وبالتالي كان هذا مظلة مهمة للمستوطنين بتحييد العمق العربي واللعب على وتر فرق تسد تارة؛ ووتر القرار الفلسطيني المستقل تارة أخرى.
اليوم ومع هذه المظلات والسم المتناثر في الأجواء العربية وانشغال دولي بملفات اقتصادية وأخرى أمنية؛ يرى الإسرائيلي أنها الفرصة التاريخية للتوسع ولجعل المخططات واقعا يسمى دولة "يهودا والسامرة"، وهذا يعني أن قادم الأيام إن لم يكن أسوأها سيكون السيء في الميدان دون أفق سياسي أو رادع للجنون الذي سيغير خريطة الشرق الأوسط ويقلب موازين كانت في الأمس تسمى استقرارا وسلاما في المنطقة.
وفي الإشارة إلى التطورات الإقليمية وتغيير خريطة الشرق الأوسط التي قال نتنياهو عنها "مشروع الشرق الأوسط الجديد"؛ يبدو أن ملامح التجاوزات الجغرافية بشكل فعلي بدأت في الضفة الغربية؛ حيث مؤخرا تمت مصادرة آلاف الدونمات في مناطق الأغوار وشرق الضفة والتمهيد لمخططات بناء منطقة عازلة بجوار الجدار العنصري لمسافة لا تقل عن كيلو متر واحد، ما يعني أن التواصل الجغرافي بين المستوطنات يتسارع في مقابل تفكيك الوضع الفلسطيني.
والمدهش الغريب في المشهد أن الدول العربية منشغلة في الإدانة والمجتمع الدولي في الصمت، بينما المتحرك الفعلي على أرض الواقع هو مخططات إسرائيل التي يرى عديد حاخامتهم (رجال دينهم) أنها لن تقف عند ريف دمشق والنيل والفرات والليطاني اللبناني، وليس الضفة الغربية فقط.