شبكة قدس الإخبارية

هدم المخيمات وإعادة تشكيلها هندسيا: التشويش على سردية اللجوء

٢١٣

 

photo_2025-03-29_22-27-01

خاص - شبكة قُدس: كشفت تقارير إسرائيلية عدة خلال الأيام الماضية أن قيادة المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال وضعت خطة لإعادة تشكيل الواقع الهندسي في مخيمات اللاجئين، وخاصة جنين وطولكرم ونور شمس. بعد تدمير المنازل، تغير شكل المخيمات.. الجديد في الأمر هو أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يعتزم منع الفلسطينيين من البناء في الأماكن التي تم تدميرها؛ لا طرق ولا منازل. هذه حالة غير عادية، ربما سابقة، حيث يحاول جيش الاحتلال الإسرائيلي هندسيًا تحويل المخيم إلى حي آخر في المدينة. تم تنفيذ شيء مشابه أيضًا في مخيم نور الشمس، ولكن على نطاق أصغر. هناك تم تدمير حوالي 30 منزلًا وتم فتح طرق بطول حوالي نصف كيلومتر. في طولكرم تم تدمير 15 منزلًا وتم فتح طريق بطول 200 متر إلى قلب المخيم. ورغم المزاعم الأمنية - على شكل ذرائع - التي ساقها جيش الاحتلال لمثل هذه التغييرات الهندسية، إلا أن تقريرا لصحيفة يديعوت أحرونوت العبرية في 26 مارس الجاري كشف أن أحد أهم الأهداف هو "التشويش على سردية اللجوء التي تؤثر على تشكيل مظاهر المقاومة". 

التشويش على سردية اللاجئين من خلال إعادة تشكيل المكان الذي تتركز فيه قضيتهم، هو أحد الأهداف للعملية الهندسية العسكرية الإسرائيلية في مخيمات اللاجئين. يعتقد الإسرائيليون، أن القضايا المركزية التي تغذي الصراع مع الاحتلال تتعلق بمواضيع مصيرية مثل تقرير المصير، الأراضي، الموارد الطبيعية، الأماكن المقدسة، والأمن. وفي الواقع، فإن حل هذا الصراع تتطلب التعامل مع أهداف ومصالح متضاربة في هذه المجالات المختلفة. ومع ذلك، يجب الأخذ في الاعتبار أن هناك قوى نفسية-اجتماعية قوية تغذي انعدام الثقة والعداء، مما يزيد من صعوبة حل هذه الخلافات. تشمل هذه القوى المعتقدات، والتصورات، والصور النمطية، والسرديات والذات الجماعية، والصراع بحد ذاته.

يعتقد الإسرائيليون أن المعتقدات والصور والأماكن جزءًا من السردية الوطنية للشعب الفلسطيني، وهذه السرديات تؤدي عدة وظائف عندما يتعلق الأمر في حشد الموارد البشرية والمادية التي يتطلبها الصراع. يتم نقل هذه السرديات على مدى سنوات عديدة من خلال قنوات الاتصال والمؤسسات المختلفة، بما في ذلك المكان. يعتبر الإسرائيليون أن هذه السرديات الجماعية تارسل خبر 120 ترك مجالًا ضيقًا للاعتراف بالاحتلال كأمر واقع وشرعي. لذلك، بينما تساعد هذه السرديات في استمرار المقاومة، فإنها قد تشكل عقبة كبيرة أمام تطبيع وجود الاحتلال. ولهذا يرى الإسرائيليون أن إنشاء واقع جديد، يتطلب تغيير هذه السرديات التي قد تفرضها استمرارية المكان برمزيته التاريخية والوطنية. 

تهدف هذه العملية العسكرية الهندسية أيضا لتشتيت "الذاكرة الجماعية" للاجئين الفلسطينيين. الذاكرة الجماعية هي مفهوم رمزي يشير إلى الذاكرة باعتبارها متجذرة في الحاضر ومتغيرة، وهي قوة تتجاوز المصالح الفردية وتمنح الجماعات إحساسًا بالالتزام بأهدافها النهائية، وفي حالة اللاجئين فإن الهدف هو حق العودة. تتناول العديد من الدراسات الديناميكية والانتقائية في عملية تشكيل السرديات الجماعية، ودور الذاكرة الجماعية في عكس الواقع وتشكيله وهو ما يولي له الإسرائيليون أهمية كبيرة؛ فهم يرون أن تشكيل الواقع داخل المخيم يتأثر بالذاكرة الجماعية والتي لها دور في صياغة السرد والهوية الجماعية وتعزيز الشعور بالانتماء للقضايا المشتركة.

أحد المكونات الأساسية في عملية تشكيل الذاكرة الجماعية هو تمريرها إلى الجمهور الواسع من خلال تثبيتها في الفضاء الجغرافي. هكذا يتم غرس الذاكرة في وجود الجماعة وتصبح جزءًا شبه طبيعي في عالم الأفراد. هناك وسائل تأثير قوية لنقل الذاكرة إلى الفضاء العام، وأهمها: الطقوس التي تهدف إلى مشاركة الجمهور في نشاطات الإحياء، وبالتالي تعميق ارتباطه العاطفي بالذاكرة الجماعية؛ إقامة مواقع إحياء ونُصُب تذكارية، التي تصبح جزءًا من فضاء الحياة اليومية؛ وكذلك تسمية الشوارع والمؤسسات، وفي الحالة الفلسطينية؛ المخيمات. المؤرخ الفرنسي بيير نورا سمى مجموعة وسائل الربط بين الماضي والحاضر "مواقع الذاكرة"، التي تشمل بحسب قوله أماكن مادية (المخيمات في السياق الفلسطيني تربط بين الحاضر والنكبة). 

النكبة هي الحدث المركزي الذي يقف في صميم التاريخ الفلسطيني الحديث. مكانة هذه الصدمة التأسيسية أهم من الذاكرات والرموز الأخرى التي ترسخت في الوعي الوطني الفلسطيني. هذه الذاكرة تمثل في الوقت ذاته تجسيدًا قويًا وملموسًا لحكاية ماضي الفلسطينيين، وتفسيرًا لوجودهم في الحاضر، وتعد بمثابة مسار سهم يشير إلى مسار تقدمهم في المستقبل وغاياتهم الجماعية بعيدة المدى. منذ 1948، مرت ذاكرة النكبة بتطورات عديدة، لكنها لم تُنسى أو تُخنق أو تُدفع إلى الهوامش؛  هذه هي الفكرة السائدة في السرد التاريخي الفلسطيني ظلت - بحسب الإسرائيليين - معملا لإنتاج ظواهر المقاومة. 

يعتقد الإسرائيليون أن ذاكرة الصدمة منذ 1948 حاضرة دائمًا وبقوة على المستوى الشعبي، خاصة في الخطاب العائلي والمجتمعي، وفي الإبداع الفني. على المستوى السياسي، عرفت ذاكرة النكبة تقلبات، لكنها لم تختفِ بالكامل. هكذا، بعد 1967، حاولت الحركة الوطنية الفلسطينية تشكيل المشاعر الجماعية الفلسطينية في شكل أهداف سياسية، ولتحقيق ذلك، صممت ذاكرة النكبة الزمان والمخيم المكان كوسيلة لتشجيع المقاومة المسلحة ولتحقيق حق العودة. هذا الفهم لدى الإسرائيليين يكشف عن حقيقة اهتمامهم بالمخيم كمكون من مكونات السردية التي ظلت تحافظ على استمرارية العمل المقاوم.