الجزء الأول
الأسرى والشهداء والجرحى بين الحق والمساومة
نشرت وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا) خبراً مفاده أن الرئيس محمود عباس - المنتهية ولايته الدستورية - أصدر مرسوماً رئاسياً في رام الله بتاريخ 10/2/2025 ينص على "إلغاء المواد الواردة في القوانين والأنظمة المتعلقة بنظام دفع المخصصات المالية لعائلات الأسرى، والشهداء، والجرحى، في قانون الأسرى واللوائح الصادرة عن مجلس الوزراء ومنظمة التحرير الفلسطينية".
كما ينص المرسوم المذكور على "نقل برنامج المساعدات النقدية المحوسب، وقاعدة بياناته، ومخصصاته المالية والمحلية والدولية من وزارة التنمية الاجتماعية إلى المؤسسة الوطنية الفلسطينية للتمكين الاقتصادي".
وجاء في المرسوم أنه بموجب هذه التعديلات:
1. "تخضع جميع الأسر التي كانت تستفيد من القوانين والتشريعات والنظم السابقة لنفس المعايير المطبقة دون تمييز على جميع الأسر المستفيدة من برامج الحماية والرعاية الاجتماعية، وفقًا لمعايير الشمولية والعدالة، والتي تنطبق شروطها على كافة الأسر التي تحتاج لمساعدة في المجتمع الفلسطيني".
2. "وبموجب هذه التعديلات، فقد أحيلت صلاحيات كافة برامج الحماية والرعاية الاجتماعية في فلسطين إلى مؤسسة التمكين الاقتصادي الفلسطيني، التي ستتولى مسؤولية تقديم برامج الحماية والرعاية الاجتماعية لجميع الأسر الفلسطينية المحتاجة، بدون تمييز".
لن نتوقف عند الصياغة الركيكة التي باتت نهجاً ثابتاً في التشريعات الاستثنائية التي ينفرد بها الرئيس عباس المنتهية ولايته الدستورية مع بعض المقربين، لا سيما بعد أن دخل عامه الـ 21 في الحُكم، رغم تأكيده ماضياً أنه لن يتجاوز المدة القانونية للرئاسة المحددة بأربعِ سنواتٍ في القانون الأساسي. وهو اليوم في عامه الـ 89، بعد أن أمضى نحو ربعِ قرنٍ في قيادتها، خلافاً للدستور الفلسطيني.
ورغم تجاوزه 20 عاماً في رئاسة السلطة الفلسطينية خلافًا للقانون الأساسي (الدستور) الذي يُحدد مدة الرئاسة بأربع سنوات، لم يكن مُفاجئاً مضمونُ هذا المرسوم الصادر عن رئيسٍ يبلغ من العمر 89 عاماً، وسيتحول إلى 90 عاماً في 15 نوفمبر 2025.
سننتقل مباشرة إلى تسليط الضوء على تشريعات الأسرى والشهداء والجرحى في مسار الحرية وتقرير المصير، ثم نتناول التشريعات الاستثنائية التي أصدرها السيد الرئيس العتيق، المنتهية ولايته الدستورية، بشأن المؤسسة الوطنية للتمكين الاقتصادي، مع التركيز على الجرائم الدستورية التي تضمنها هذا المرسوم الرئاسي المنعدم دستورياً (وُلد ميتاً)، وصولاً للخلاصة.
تشريعات الأسرى والشهداء: الحق لن يتحول إلى تسوُّل
من البديهي القول إنَّ المرسوم الرئاسي لا يقوى على القانون وفق أبجديات تدرُّج القاعدة القانونية من حيث القوة الإلزامية. فالقانون الأساسي (الدستور) هو الأعلى، يَليه القانون، ثم الأنظمة أو اللوائح التنفيذية الصادرة عن الحكومة لتوضيح القوانين دون مخالفتها، يَليها المراسيم (التنظيمية) والقرارات (الفردية)، وأخيراً التعليمات. ويُحظر على أيّ مستوى أدنى في الهرم التشريعي مخالفة المستوى الأعلى تحت طائلة البطلان.
فلا يجوز "للمراسيم" أن تُلغي "قوانين"، وهذا ما يجعل المرسوم الرئاسي المذكور في حُكم العَدَم، ومُستوجب للسَحب، وإنَّ سَحب المرسوم كاشفٌ وليس مُنشئاً، فالمرسوم المنعدم لا يُرتب أثراً.
نحن نتحدث هنا عن مرسوم رئاسي، مُنعدم، نشرته وكالة "وفا" الرسمية بتاريخ 10/02/2025. لكن، الأمر لا يقف عند حدود هذا المرسوم وحده. ففي الأجزاء القادمة من هذا المقال، سيتضح أن هناك "أربعة قرارات بقوانين وقراراً رئاسياً" منعدمة دستورياً لمخالفتها أحكام القانون الأساسي المعدل (الدستور)، علاوة على هذا المرسوم. جميعها صدرت بتواقيت مدروسة بعناية بالتزامن مع التعديل الأخير الذي جرى على قانون الخدمة في قوى الأمن الفلسطينية في ذات تاريخ المرسوم (10/2/2025).
لم تكن عملية عشوائية أبدأ، بل تم تمريرها بصمت، ضمن خطة أوسع، وتنطوي على تجريد الحكومة من كامل صلاحياتها، وإعادة هندسة السلطة عبر "مؤسسة مجدلاني"، التي تحولت عملياً إلى "حكومة ظل" تعمل خارج أي إطار رقابي أو مساءلة.
إنْ كان رئيس الوزراء يَعلم، فالمصيبة عظيمة، وإنْ كان يجهل، فالمصيبة أعظم.
لكن، هذا المرسوم الرئاسي ليس مُجرّد قرار إداري مُنعدم، أو وُلِد ميتاً، ولا يُرتب أي أثر من الناحية الدستورية بقوة أحكام القانون الأساسي الفلسطيني المعدل (الدستور)، شأنه شأن القرارات بقوانين والقرار الرئاسي بشأن "مؤسسة مجدلاني". بل هو جزء من مُخطط مُتكامل لتفريغ الحقوق الوطنية الفلسطينية من مضمونها، وإحكام السيطرة الكاملة على الموارد المالية، وإعادة ضبط موازين القوى داخل السلطة، بحيث يتحول الولاء السياسي إلى شرط أساسي للحصول على أبسط الحقوق.
لماذا صدر هذا المرسوم الآن؟
لأن هناك أربعة قرارات بقوانين، وقراراً رئاسياً آخر، تمَّ إصدارها بالتزامن مع هذا المرسوم، بتواقيت زمنية مدروسة بعناية، وجميعها تصب في منح "مؤسسة مجدلاني" سلطات تتجاوز الصلاحيات الدستورية للحكومة نفسها وتُقصيها كلياً من المشهد. هذه ليست خطوات مُرتجلة، بل جزء من خطة واضحة لإعادة توزيع النفوذ والقوة بعيداً عن أي مساءلة أو رقابة حكومية.
ماذا يعني ذلك؟
يعني أن الأسرى والشهداء والجرحى لم يعودوا جزءاً من معادلة الحقوق الوطنية، بل باتوا مجرد أرقام خاضعة لمعادلات سياسية. من ينسجم مع السلطة يحصل على حقوقه، ومن يرفض الخضوع يجد نفسه خارج الحسابات. هذا ليس مجرد خرق دستوري، بل تفكيك ممنهج لمفهوم النضال الوطني الفلسطيني. لكن هذه الألعاب البهلوانية لم ولن تصمد في مواجهة الدستور.
كيف تُحكم السيطرة؟
1. تقييد الحقوق المالية للأسرى والشهداء والجرحى عبر مرسوم غير دستوري.
2. تمرير تعديلات على قانون الخدمة في قوى الأمن الفلسطينية بالتزامن مع المرسوم على نحو غير دستوري.
3. إصدار قرارات بقوانين تمنح مؤسسة مجدلاني سيطرة مالية مُطلقة على موارد "التمكين الاقتصادي" ومنعدمة دستورياً.
4. تجريد الحكومة من "كامل" صلاحياتها الدستورية، لصالح مؤسسة تتبع مباشرة للرئيس المنتهية ولايته، خلافاً للدستور.
النتيجة؟
مشروع مُتكامل في مسار إعادة هندسة السلطة بعد الغرق، حيث لا سلطة فعلية للحكومة، ولا رقابة، ولا شفافية، بل احتكار للقرار والثروة والسيطرة الأمنية، فيما يتم التلاعب بحقوق الأسرى والشهداء والجرحى كورقة ضغط سياسية.
ما نُواجهه ليس مجرد مرسوم عابر، بل إعادة صياغة كاملة لمعادلة الحكم والتحكم في فلسطين. وفي الأجزاء القادمة، سنتتبع كيف تم تمرير هذه الهندسة الجديدة، خطوة بخطوة، حتى لا يبقى شيء خارج دائرة السيطرة المطلقة.
هذا المرسوم الرئاسي ينتهك صراحة أحكام المادة (6) من القانون الأساسي المعدل (الدستور) تحت باب الحقوق والحريات العامة، التي تنص بوضوح على أن "مبدأ سيادة القانون أساس الحكم في فلسطين، وتخضع للقانون جميع السلطات والأجهزة والهيئات والمؤسسات والأشخاص". وبما أنَّ هذا المرسوم الرئاسي بشأن الأسرى والشهداء والجرحى قد خالف أحكام الدستور، فإنه مُنعدم ابتداءً (أي وُلِدَ ميتًا) ولا يُرتب أي أثر قانوني. كما أنَّ المادة (32) من القانون الأساسي تُشدد على أن أي اعتداء على الحقوق والحريات العامة يُعد جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية أو المدنية الناشئة عنها بالتقادم، مما يجعل هذا المرسوم أداة لجريمة دستورية موصوفة، لا تزول مع مرور الزمن، ولا يُسقط حق الشهداء والأسرى والجرحى بالتقادم؛ بقوة الدستور.
تشريعات منظمة التحرير الفلسطينية
بما أن هذا المرسوم الرئاسي قد أشار إلى منظمة التحرير الفلسطينية، فإنه من الضروري العودة إلى تشريعات المنظمة، التي لا تخوّل الرئيس منتهي الولاية الدستورية، حتى لو كان داخل الولاية، صلاحية إصدار هذا المرسوم الرئاسي. وذلك لأن المادة (2) من النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية تؤكد صراحة على أنَّ "تُباشر منظمة التحرير الفلسطينية مسؤولياتها وفق مبادئ الميثاق الوطني وأحكام هذا النظام الأساسي وما يصدر استناداً إليها من لوائح وأحكام وقرارات". ولا يوجد أيّ نص في الميثاق الوطني الفلسطيني بأكمله (33 مادة) ولا بالنظام الأساسي للمنظمة بأكمله (33 مادة) يمنح الرئيس هذا الاختصاص.
وفي المقابل، تؤكد المادة (24) من الميثاق الوطني الفلسطيني على الآتي "يؤمن الشعب العربي الفلسطيني بمبادئ العدل والحرية والسيادة وتقرير المصير والكرامة الإنسانية وحق الشعوب في ممارستها". وبذلك يتضح بأنَّ هذا المرسوم الرئاسي، بمضامينه، يُشكل انتهاكاً صارخاً لهذه المبادئ التي دفع الشهداء والأسرى والجرحى أثماناً باهظة وعظيمة في سبيلها، ولأجل حق تقرير المصير.
أمّا المادة (7) من النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، فتُشدد على أن "المجلس الوطني هو السلطة العليا لمنظمة التحرير، وهو الذي يضع سياسة المنظمة ومخططاتها وبرامجها". ولم يصدر عن المجلس الوطني أي قرار يُخوّل الرئيس هذه الصلاحية، مما يجعل استدعاء المنظمة في هذا السياق محاولة فاشلة لتبرير الانتهاك الفج لمبدأ سيادة القانون كأساس للحُكم.
ولطالما جرى استدعاء المنظمة، منذ نشوء السلطة، كغطاءٍ لانتهاك سيادة القانون، والحقوق والحريات، والكرامة الإنسانية، وأسس الحُكم الرشيد، في تَنكّرٍ صارخٍ لرسالتها الأصلية ودورها المفترض في تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والتحرر الوطني. إلى أن أُفرغت من مضمونها، وباتت مُجرّد بند صرف مالي صغير في موازنة السلطة الفلسطينية، تُردد شعارات الشرعية دون أن تَعرف الانتخاب منذ نشأتها عام 1964، أو تستند إلى تفويض شعبي، أو تُدرك أن الشرعية الحقيقية تنبع من الشعب وحده، فهو مصدر السلطات وأصل السيادة في أيّ حديث عن الشرعية، والهروب من المسؤولية والمساءلة.
القانون الأساسي المعدل (الدستور)
بالعودة إلى أحكام القانون الأساسي الفلسطيني المعدل (الدستور)، نجد أن المادة (22) منه تنص على أن:
1. ينظم القانون خدمات التأمين الاجتماعي والصحي ومعاشات العجز والشيخوخة.
2. رعاية أسر الشهداء والأسرى ورعاية الجرحى والمتضررين والمعاقين واجبٌ يُنظم القانون أحكامه، وتكفل السلطة الوطنية لهم خدمات التعليم والتأمين الصحي والاجتماعي.
إنَّ المشرع الدستوري الفلسطيني لم يَخلط بين الخدمات الاجتماعية العامة التي يُنظمها القانون، وبين الواجب الدستوري تجاه الشهداء والأسرى والجرحى الذين خُصّوا بنص دستوري مُنفصل يُرتب التزاماً دستورياً صارماً على السلطة. وعليه، فإنَّ المرسوم الرئاسي قد خلط عمداً، أو عن جهل غير مبرر، بين هذين الأمرين المنفصلين بوضوح، في تجاوز فج لأحكام الدستور.
إنَّ إرادة المشرع الدستوري الفلسطيني واضحة في المادة (22) بفقرتيها الأولى والثانية: فقد ترك أمر تنظيم خدمات التأمين الاجتماعي العامة للقانون العام (الفقرة 1)، لكنه فرض التزاماً دستورياً قاطعاً وصارماً برعاية أسر الشهداء والأسرى والجرحى (الفقرة 2)، وأمَرَ السلطة بـ"كفالتهم"، أي ضمان حقوقهم كاملة. وهذا ما تجاهله مَن أصدر المرسوم، في تَحدٍّ صريح للدستور.
وحيث أن هذا المرسوم الرئاسي انتهك هذه الأحكام الدستورية في قانوننا الأساسي، فإنه يُشكّل أداة الجريمة الدستورية الثانية، التي لن تسقط بالتقادم، شأنها شأن حقوق الشهداء والأسرى والجرحى التي لا تسقط بالتقادم بقوة الدستور وإرادته العليا.
قوانين المجلس التشريعي وقراراته
على النهج الدستوري ذاته، سار المجلس التشريعي الفلسطيني (المشرّع الأصيل) حين أقرَّ قانون الأسرى والمحررين رقم (19) لسنة 2004، احترامًا للدستور والتزاماً بأحكامه التي تَعلو ولا يُعلى عليها. وينبغي الانتباه، جيداً، إلى التطابق التام بين نص المادة (22) فقرة (2) من الدستور وبين هذا القانون الأصيل، الذي لم يكتفِ بكفالة الحياة الكريمة للأسرى، بل وضع سداً منيعاً أمام أي محاولة للمساس بحقوقهم أو الانتقاص منها، تأكيداً على قُدسية التضحيات التي قدموها في مسيرة التحرر الوطني.
لذلك، جاءت المادة (2) من قانون الأسرى والمحررين رقم (19) لسنة 2004، المنشور في الجريدة الرسمية (الوقائع الفلسطينية) عدد (54) في أبريل 2005، بالنص التالي: "الأسرى والأسرى المحررون شريحة مُناضلة وجزءٌ لا يتجزأ من نسيج المجتمع العربي الفلسطيني، وتكفل أحكام هذا القانون حياة كريمة لهم ولأُسرهم".
ويعكس هذا النص التزاماً صريحاً بالمكانة الوطنية للأسرى والمحررين، وامتداداً طبيعياً للتكامل بين القانون الأساسي (الدستور)، والميثاق الوطني، والنظام الأساسي لمنظمة التحرير، في تأكيد الحق الأصيل لهذه الفئة التي قدّمت تضحياتها في مسيرة التحرر الوطني. إنه تطابقٌ تامٌ يعكس الانسجام التشريعي في صون كرامة الأسرى، على النقيض من مرسوم رئاسي يُجسد سلسلة من الجرائم الدستورية التي تتوالى وتتكشف، في محاولة هزيلة بائسة لتفكيك الحقوق الوطنية وإعادة تعريف النضال الوطني بمعايير تُفرّغه من جوهره وتنسف أسسه الدستورية.
وعلى هذا النهج، أيضاً، سارت "قرارات" المجلس التشريعي الفلسطيني الأول الخاصة بالأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، والتي جاءت امتداداً طبيعياً لمكانتهم الوطنية والدستورية. وعلى مدار ولاية برلمانية امتدت عشر سنوات، أصدر خلالها المجلس التشريعي الفلسطيني (1016) قراراً برلمانياً، في الفترة ما بين 1996 و2006، شملت قضايا الأسرى والشهداء والجرحى باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من منظومة الحقوق الوطنية. وهي مُتاحة لمن أصدر المرسوم لمراجعتها، إذا ما أراد، يائساً، رغم تقدُّمه في السن، البحث عن مخرج قانوني في مواجهة الدستور والتاريخ.
وللتسهيل على الرئيس العتيق، المنتهية ولايته، الذي اعتاد القفز فوق الدستور متى شاء، لكنه لا يُدرك أن الدستور لا يُقفز فوقه، بل يرتد بقوة تُعدم كلّ ما يُخالفه، سنعرض أحد القرارات البارزة الصادرة عن المجلس التشريعي الفلسطيني، والذي يُجسّد المكانة التي أولاها التشريعي للأسرى والشهداء، وهو القرار رقم (162/6/2)، الصادر في العام 1997، أي في بدايات المجلس التشريعي المنتخب عام 1996. هذا القرار، وغيره من القرارات التي أرساها التشريعي، لا تسقط بالتقادم، ولا تُمحى بمحاولات التلاعب السياسي، بل تبقى قائمة بقوة الدستور، تُحاصر كل مَن يُحاول الانقلاب على الحقوق الوطنية الثابتة.
"المجلس التشريعي الفلسطيني في دورته الثانية – الفترة الأولى في جلسته السادسة المنعقدة في مدينة رام الله يومي الأربعاء والخميس الموافق 23 – 24/4/1997. آخذاً بعين الاعتبار: التقارير التي قُدّمت للمجلس من لجنة الأسرى والمعتقلين التابعة للمجلس التشريعي ... ومداخلات ومقترحات الإخوة الأعضاء، يُقرر:
أولاً: التأكيد على قرارات المجلس التشريعي الفلسطيني السابقة والتي تُعالج قضايا الأسرى والمعتقلين ومطالبة السلطة التنفيذية العمل على تنفيذها وخاصة فيما يتعلق بتحسين المستوى المعيشي لأُسرهم وذلك بصرف راتب جندي لكل أسير كحد أدنى.
ثانياً: الطلب إلى السلطة التنفيذية بالتنسيق مع جميع الجهات الحكومية وغير الحكومية المختصة وضع خطة وطنية شاملة لموضوع الأسرى بكل أبعادها السياسية والنضالية والاجتماعية، وفي مقدمتها قضية الإفراج الفوري عنهم وتحريرهم بمن فيهم معتقلو مدينة القدس وإلزام الجانب الإسرائيلي بتنفيذ الاتفاقيات الموقعة معه بهذا الشأن.
ثالثاً: تكليف اللجنة القانونية ولجنة الأسرى والمعتقلين في المجلس التشريعي الفلسطيني بتقديم مشروع قانون خاص بالأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية يضمن العيش الكريم لأُسرهم وتأمين العمل المناسب لها بما في ذلك الضمانات الصحية والاجتماعية اللازمة.
رابعاً: يؤكد المجلس التشريعي وحدة الحركة الأسيرة ويرفض المحاولات الإسرائيلية للفصل بين الأسرى الفلسطينيين من الداخل أو القدس وبين الأسرى الفلسطينيين من المناطق الفلسطينية الأخرى، ويطالب السلطة التنفيذية والوفد المفاوض بالإصرار على أن الاتفاقيات الموقعة بشأن الأسرى أو أية ترتيبات بشأن الأسرى يتم الاتفاق عليها مستقبلاً، تشمل الأسرى كافة دون استثناء سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة أو القدس أو داخل ما يُسمى بالخط الأخضر.
خامساً: يطالب المجلس التشريعي السلطة التنفيذية إعطاء اهتمام خاص لأسرى الدوريات أو الأسرى من رعايا الدول الأخرى والإصرار على إطلاق سراحهم أسوة بالمعتقلين كافة.
سادساً: الطلب إلى السلطة التنفيذية إعطاء الأولوية في التوظيف للأسرى وذويهم من القرابة الأولى.
سابعاً: الطلب إلى السلطة التنفيذية المباشرة الفورية لتنفيذ قرار مجلس الوزراء لتطبيق مشروع الطابع البريدي الخاص لدعم الأسرى وعائلاتهم.
ثامناً: الطلب إلى السلطة التنفيذية تخصيص نسبة من مجمل الضرائب التي تُجبى لتكون لصالح قضية أسر الشهداء والأسرى بما لا يقل عن 1%.
تاسعاً: الطلب إلى السلطة التنفيذية دراسة إمكانية تبني مشروع إسكان شعبي خاص لأُسر الشهداء والأسرى بتسهيلات مُيسّرة تماماً".
تشريعات الرئيس المنتهية ولايته
بالرجوع إلى المرسوم الرئاسي رقم (16) لسنة 2014 بشأن "إنشاء هيئة شؤون الأسرى والمحررين" المنشور في الجريدة الرسمية (الوقائع الفلسطينية) في العدد رقم (109) بتاريخ 29/10/2014 فقد نص في المادة (2) فقرة (1) على ما يلي "تنشأ بموجب أحكام هذا المرسوم هيئة تُسمى "هيئة شؤون الأسرى والمحررين" تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري والأهلية القانونية لمباشرة جميع الأعمال والتصرفات لتحقيق أهدافها، بما في ذلك تملك الأموال المنقولة وغير المنقولة، تتبع منظمة التحرير الفلسطينية". ونص في المادة (3) فقرة (3) على أن "تُحدد آلية عمل الهيئة بموجب نظام يصدر عن الرئيس". ونص في المادة (5) فقرة (1) على أن "يكون للهيئة رئيس يدير كافة شؤونها، يصدر قرار من الرئيس بتعيينه وتحديد درجته".
أكد القانون الأساسي الفلسطيني المعدل (الدستور) في المادة (69) فقرة (9) على أن إنشاء الهيئات والمؤسسات والسلطات أو ما في حكمها من وحدات الجهاز الإداري الذي يشملها الجهاز التنفيذي هو من اختصاص "مجلس الوزراء" وعلى أن تعيين رؤساء الهيئات والمؤسسات المشار إليها هو من اختصاص مجلس الوزراء، وعلى أن يتم تنظيمها بقانون. وحيث أن إنشاء هيئة شؤون الأسرى والمحررين تمَّ "بمرسوم رئاسي" مَنَحَ فيه الرئيس المنتهية ولايته الدستورية، نفسه، صلاحية إنشاء هيئة شؤون الأسرى والمحررين، ومَنَحَ نفسه صلاحية تعيين رئيسها، ومَنَحَ نفسه صلاحية تنظيمها "بنظام" خلافاً للدستور الذي ينص على وجوب تنظيمها "بقانون" وليس بنظام من جهة غير مختصة دستورياً، فإنَّ هذا المرسوم الرئاسي "مُنعدم دستورياً" لانتهاكه أحكام الدستور الفلسطيني، كما هو الحال بشأن المرسوم المتعلق بالأسرى والشهداء والجرحى، وتغدو تلك المراسيم واجبة السَحب، ونكون أمام "جرائم دستورية " إضافية تتمثل بانتهاك سيادة القانون (مادة 6) والحقوق الدستورية للشهداء والأسرى والجرحى (مادة 22 فقرة 2) وانتهاك للقُسَم الدستوري للرئيس باحترام النظام الدستوري والقانون (مادة 35) وغيرها من أحكام الدستور. إنَّ معرفة أو عدم معرفة أو الجهل، بتاريخ وحاضر ومستقبل، القانون الأساسي الفلسطيني المعدل (الدستور)، يؤدي بالنتيجة إلى زيادة الجرائم الدستورية الموصوفة، التي ارتُكبت لا محالة، ومن بينها الجرائم التي أنتجها هذا المرسوم الأخير.
أصدر الرئيس المنتهية ولايته القرار بقانون رقم (7) لسنة 2018 ونُشر في الجريدة الرسمية (الوقائع الفلسطينية) في العدد (142) بتاريخ 22/4/2018، ونص هذا القرار بقانون في المادة (1) فقرة (1) على أن "تنشأ بمقتضى أحكام هذا القرار بقانون هيئة تُسمى "هيئة شؤون الأسرى والمحررين"، تتمتع بالشخصية الاعتبارية، والاستقلال المالي والإداري، والأهلية القانونية لمباشرة جميع الأعمال والتصرفات لتحقيق أهدافها، بما في ذلك تملك الأموال المنقولة وغير المنقولة، وتتبع مجلس الوزراء".
هنالك حالة من "الفوضى التشريعية" تُرافق التشريعات الاستثنائية، التي ينفرد بها الرئيس المنتهية ولايته مع بعض المقربين، خلال مرحلة الانقسام الممتدة سنوات، بعد قيامه بتغييب المجلس التشريعي وإفشال محاولات انعقاده إلى أن قامت المحكمة الدستورية التي انفرد الرئيس بتشكيل قُضاتها في ظل حالة الانقسام الممتدة بحل المجلس التشريعي (السلطة التشريعية) بتاريخ 12/12/2018 في انتهاك سافر وغير مسبوق لأحكام القانون الأساسي الفلسطيني المعدل التي تحظر حل المجلس التشريعي بشكل مُطلق. حيث نجد أن القرار بقانون بشأن الأسرى والمحررين لسنة 2018 يُعيد، مُجدداً إنشاء "هيئة شؤون الأسرى والمحررين" التي أنشأها، الرئيس ذاته، بموجب المرسوم الرئاسي رقم (16) لسنة 2014 الذي يستند إليه في إصدار هذا القرار بقانون. كما أنه يُحيل بموجب القرار بقانون تبعية هيئة شؤون الأسرى والمحررين من "منظمة التحرير الفلسطينية" إلى "مجلس الوزراء" وفق ما يَظهر في القرار بقانون. ومع ذلك، نجد أن الرئيس صادق على "الهيكل التنظيمي لهيئة شؤون الأسرى والمحررين" بموجب القرار الرئاسي رقم (182) لسنة 2016 المنشور في الوقائع الفلسطينية في العدد (128) بتاريخ 14/1/2017.
ورغم أن القرار بقانون رقم (7) لسنة 2018 الصادر عن الرئيس محمود عباس المنتهية ولايته الدستورية ينص بوضوح في المادة (1) فقرة (1) على أن تتبع الهيئة "مجلس الوزراء"، إلا أنه عاد مُجدداً وأصدر القرار بقانون رقم (8 لسنة 2019 بتعديل القرار بقانون رقم (7) لسنة 2018 بشأن هيئة شؤون الأسرى والمحررين؛ ونص على تعديل المادة (2) من القانون الأصلي لتُصبح "يتولى إدارة شؤون الهيئة رئيس يصدر قرار بتعيينه من رئيس الدولة لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة". ومن ثم أصدر القرار الرئاسي رقم (44) لسنة 2023 المنشور في الوقائع الفلسطينية في العدد (205) بتاريخ 28/08/2023 بتعيين رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين. مما، يعني، أن تلك التشريعات تستمر بانتهاك أحكام الدستور، بشكل فج، كون تعيين رؤساء الهيئات والمؤسسات اختصاص دستوري لمجلس الوزراء بموجب أحكام المادة (69) فقرة (9) من القانون الأساسي الفلسطيني المعدل.
صَرّح رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين في المؤتمر الصحفي الذي عقده بمقر الهيئة بتاريخ 11/2/2025 تعقيباً على المرسوم الرئاسي الذي صدر عن الرئيس بتاريخ 10/2/2025 بشأن الأسرى والشهداء والجرحى "فوجئنا أمس بمرسوم رئاسي يقضي بإلغاء مستحقات الأسرى والشهداء. موضوع بهذا الحجم كان يستدعي انعقاد المجلس الوطني لاتخاذ قرار بشأنه". وأضاف: "هيئة شؤون الأسرى ترفض مرسوم الرئيس وتُطالب بسَحبه". وإنَّ المرسوم الرئاسي "يمس شرائح واسعة من الشعب الفلسطيني". وتابَع بالقول: "المؤسسة الوطنية للتمكين الاقتصادي التي نقل إليها إدارة البرنامج وقاعدة بياناته هي مؤسسة أهلية، وهذه المؤسسة ستُرسل طواقم للتأكد من صعوبة الحالة المادية لهذه العائلات قبل صرف 700 شيكل (نحو 200 دولار) وهذا غير مقبول". مُشدداً على أنه "لا يُمكن القبول بهذا الإجراء". سنأتي بالتفصيل على المؤسسة الوطنية للتمكين الاقتصادي.
إنَّ هذا النموذج، كغيره من عشرات النماذج التشريعية، يُدلل بوضوح على أن الفوضى التشريعية "نهج" في تشريعات الإنقسام التي ينفرد بها الرئيس عباس المنتهية ولايته مع بعض المقربين، في غياب الشفافية والحَوكمة، إلى جانب الانتهاكات الدستورية.
سقوط إمبراطورية الرئاسة: الدستور سينتصر
من الناحية الدستورية، لا وجود لمصطلح "مؤسسة الرئاسة". ووفقاً لأحكام الباب الثالث من القانون الأساسي المعدل (الدستور)، فإنَّ الرئيس ليس كياناً مستقلاً، بل مجرد منصب بصلاحيات تنفيذية محدودة وهامشية.
ولهذا السبب، لم يأتِ القانون الأساسي على ذكر "مؤسسة الرئاسة" في جميع نصوصه وأحكامه (121 مادة). بل أكد صراحة أنَّ المنصب يُعرف فقط بصفته "رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية". حيث كانت السلطة التنفيذية تعني في القانون الأساسي الصادر عام 2002 الرئيس والوزراء ولم يكن هناك منصب رئيس الوزراء، ولكن بعد التعديلات الجوهرية التي جرت على القانون الأساسي في العام 2003 بات الباب الثالث تحت عنون " رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية" ثم الباب الرابع تحت عنوان "السلطة التشريعية" ثم الباب الخامس تحت عنوان "السلطة التنفيذية" والتي تعني بوضوح مجلس الوزراء (الحكومة) بصلاحيات واسعة مقابل صلاحيات هامشية ومحددة حصراً للرئيس في نصوص القانون الأساسي.
ورغم محاولات الرئيس فك "الحصار الدستوري" الفولاذي من خلال تمرير مشروع قانون معدِّل للقانون الأساسي المعدَّل لسنة 2003 قُبيل انتهاء مدة ولاية المجلس التشريعي الأول؛ وتحديداً في الدورة البرلمانية العاشرة – الفترة الأولى في الجلسة الأولى/الاجتماع الثالث والعشرين في 8/1/2006 وحمل المشروع الرقم (192/2005/ل) إلاّ أنها فشلت فشلاً ذريعاً. وبات انهيار مؤسسة الرئاسة، على المستوى الدستوري، حقيقة دستورية راسخة.
لكن الحقيقة الدستورية لم تكن كافية أمام نزعة السلطة المطلقة، حيث جرى التلاعب بهذا المصطلح على مدار سنوات، بهدف خلق وهمٍ سلطويٍ مُضلّل، والإيحاء بأن للرئيس مركزية تنفيذية، رغم أنَّ الصلاحيات الفعلية باتت منذ عام 2003 بيد الحكومة، وفقاً للتعديلات الدستورية التي أسست لنظام برلماني يمنح مجلس الوزراء (الحكومة) السلطة التنفيذية الحقيقية.
نظام سياسي جديد: التعديلات الدستورية أنهت وَهم الرئاسة
شهد عام 2003 تحولات دستورية جوهرية، استُحدث خلالها منصب رئيس الوزراء بصلاحيات تنفيذية واسعة، بينما تم تقليص سلطات الرئيس إلى مهام رمزية محددة. لم يكن ذلك مجرد تعديل، بل انقلابٌ دستوريٌ على إرث الحكم المطلق، إذ باتت الحكومة هي الجهة التنفيذية العليا، ولم يَعُد بإمكان الرئيس ممارسة أي سلطة خارج الإطار المحدد له في القانون الأساسي المعدل. ومع نشر التعديلات الدستورية في الجريدة الرسمية، انهارت "إمبراطورية الرئاسة"، ولم يَعُد الرئيس سوى صاحب صلاحيات محدودة لا يمكن توسيعها إلا عبر تعديلٍ دستوري يتطلب موافقة ثلثي أعضاء المجلس التشريعي، وفقاً للمادة (120) من القانون الأساسي.
حكومة الرئيس: بدعة غير دستورية
خلال سنوات الانقسام، برز مصطلح آخر تم التلاعب به سياسياً، وهو "حكومة الرئيس"، والذي استُخدم مراراً من قبل رئيس الحكومة، ورؤساء الحكومات السابقة، التي لم تنل ثقة المجلس التشريعي الفلسطيني، خلافاً للدستور. رغم أنَّ الباب الخامس من القانون الأساسي المعدل، الذي يُحدد صلاحيات مجلس الوزراء، واضحٌ تماماً في تأكيده أن الحكومة هي "حكومة رئيس الوزراء"، ولا وجود لنصٍ دستوري واحد يقرُّ بأنَّ الحكومة هي حكومة الرئيس في القانون الأساسي المعدل بأكمله. هذا المصطلح (حكومة الرئيس!) انتهى دستورياً مع التعديلات الحاسِمة التي جرت على القانون الأساسي عام 2003 والتحول نحو النظام البرلماني. عام 2003، نُقلت السلطة التنفيذية الفعلية إلى مجلس الوزراء، بينما أصبحت صلاحيات الرئيس هامشية محدودة.
صلاحيات رمزية: رئيس بلا سلطة فعلية
التعديلات الدستورية في العام 2003 أفرغت الصلاحيات التنفيذية للرئيس بشكل كامل، وعزلته تماماً في الباب الثالث الخاص به، عن الباب الخامس في الدستور الخاص بالسلطة التنفيذية (مجلس الوزراء/ الحكومة). وبينهما الباب الرابع الخاص بالمجلس التشريعي الفلسطيني. إنه تحولٌ هائلٌ نحو النظام البرلماني، الذي نصت عليه صراحة وثيقة إعلان الاستقلال، وقد باتت صلاحيات الرئيس منذ نشر القانون الأساسي المعدل في الجريدة الرسمية عام 2003 كصلاحيات ملك بريطانيا ليس إلا.
أصبح دور الرئيس شكلياً، وهو ما يُمكن استيضاحه من خلال المادة (39) من القانون الأساسي المعدل (الدستور)، التي تنص على أن "رئيس السلطة الوطنية هو القائد الأعلى للقوات الفلسطينية". غير أن هذا النص لا يُرتّب له أي سلطة تنفيذية مباشرة على الأجهزة الأمنية، بل يقتصر دوره على الجانب الرمزي والبروتوكولي، تماماً كما هو الحال في الأنظمة البرلمانية. فكما لا يَملك ملك بريطانيا "تشارلز الثالث" أي سلطة فعلية على القوات المسلحة البريطانية رغم حمله لقب القائد الأعلى للقوات المسلحة، فإنَّ رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية لا يملك أيَّ صلاحيات تنفيذية على الأجهزة الأمنية، التي تُدار دستورياً من قِبل الحكومة.
السلطة التنفيذية الحقيقية: الحكومة تملك القرار
وفقاً للمادة (69) فقرة (7) من القانون الأساسي المعدل (الدستور)، فإنَّ "مجلس الوزراء (الحكومة) يختص بمسؤولية حفظ النظام العام والأمن الداخلي". وعليه، فإن أيّ تدخل مباشر من الرئيس في شؤون الأجهزة الأمنية، كما يفعل الرئيس المنتهية ولايته، يُعدُّ تجاوزاً دستورياً صارخاً، وانتهاكاً لمبدأ الفصل بين السلطات، واغتصاباً للصلاحيات الدستورية التنفيذية للحكومة. الأمر نفسه ينطبق على إدارة الشأن العام، فالسلطة التنفيذية الفعلية مناطة برئيس الوزراء ومجلس الوزراء، وليس بالرئيس.
وهذا ما أكدته المادة (38) الواردة تحت الباب الثالث من القانون الأساسي المعدل (رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية) التي جرى استحداثها في التعديلات الجوهرية التي جرت على القانون الأساسي في العام 2003 (القانون الأساسي المعدل) وشددت على وجوب أن يُمارس رئيس السلطة الوطنية سلطاته ومهامه التنفيذية على الوجه المُبين في "هذا القانون الأساسي". فيما أكدت المادة (63) الواردة تحت الباب الخامس من القانون الأساسي المعدل (السلطة التنفيذية) على ما يلي "مجلس الوزراء (الحكومة) هو الأداة التنفيذية والإدارية العليا التي تضطلع بمسؤولية وضع البرنامج الذي تُقره السلطة التشريعية موضع التنفيذ، وفيما عدا ما لرئيس السلطة الوطنية من اختصاصات تنفيذية يُحددها القانون الأساسي، تكون الصلاحيات التنفيذية والإدارية من اختصاص مجلس الوزراء".
وبذلك، يُشدد القانون الأساسي الفلسطيني (المعدل) "مرتين" على الصلاحيات "المبينة والمحددة" للرئيس بموجب القانون الأساسي المعدل وهي صلاحيات هامشية في الدستور. ويؤكد النص الدستوري (مادة 63) صراحة على أنه في حال لم تكن هناك صلاحية "محددة" في الدستور فهي من الاختصاص مجلس الوزراء.
إنَّ أي محاولة من الرئيس - المنتهية ولايته الدستورية منذ سنوات - لاغتصاب الصلاحيات التنفيذية تُشكل خروجاً صارخاً على النظام الدستوري الفلسطيني، وانتهاكاً لمبدأ الفصل بين السلطات، وانتهاكاً للقَسَم الدستوري، وهي جرائم دستورية موصوفة.
لا تعديل على الصلاحيات إلا بموافقة المجلس التشريعي
إنَّ المادة (46) من القانون الأساسي المعدل، التي تنص على أن "يساعد مجلس الوزراء الرئيس في أداء مهامه وممارسة سلطاته على الوجه المبين في هذا القانون الأساسي"، تؤكد بوضوح أن المساعدة "مقيدة" بما هو "مُبين" في الدستور. أي وفقاً للصلاحيات الدستورية الواسعة لرئيس الوزراء ومجلس الوزراء، مقابل الصلاحيات المحدودة والهامشية لرئيس السلطة الفلسطينية.
لا يُمكن لأيّ قانون، أو قرار بقانون، أو مرسوم أو غيره، أن يُضيف أي صلاحية جديدة للرئيس خارج الإطار الدستوري المحدد، إلا بتعديل دستوري يتطلب موافقة أغلبية ثلثي المجلس التشريعي وفقاً لأحكام المادة (120) من القانون الأساسي المعدل؛ وهذا نصُّها:" لا تُعدّل أحكام هذا القانون الأساسي المعدل إلا بموافقة أغلبية ثلثي أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني".
وثيقة إعلان الاستقلال: النظام البرلماني هو الأصل
لم يكن هذا التحول في النظام السياسي الفلسطيني أمراً مفاجئاً، بل هو امتدادٌ طبيعيٌ لما نصَّت عليه وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني، الصادرة عن المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر عام 1988، والتي أكدت بوضوح أن النظام السياسي الفلسطيني "نظام ديمقراطي برلماني" يرتكز على الإرادة الشعبية، وسيادة القانون، والفصل بين السلطات، والتداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات الحرة. الشعارات، والاستعراضات، بالتمثيل الشرعي والوحيد، أعجز مِن أن تؤثر في التحولات الكبرى.
شدَّدت وثيقة إعلان الاستقلال على أن: "دولة فلسطين هي للفلسطينيين أينما كانوا، فيها يطورون هويتهم الوطنية والثقافية، ويتمتعون بالمساواة الكاملة في الحقوق، وتصان فيها معتقداتهم الدينية والسياسية وكرامتهم الإنسانية، في ظل نظام ديمقراطي برلماني يقوم على أساس حرية الرأي، وحرية تكوين الأحزاب، ورعاية الأغلبية حقوق الأقلية، واحترام الأقلية قرارات الأغلبية، وعلى العدل الاجتماعي والمساواة، وعدم التمييز في الحقوق العامة على أساس العرق أو الدين أو اللون أو بين المرأة والرجل، في ظل دستور يؤمن بسيادة القانون، والقضاء المستقل، وعلى أساس الوفاء الكامل لتراث فلسطين الروحي والحضاري".
وأكدت وثيقة إعلان الاستقلال الفلسطيني في أحد أكثر نصوصها بلاغة: "وفي هذا اليوم الخالد، في الخامس عشر من نوفمبر 1988، ونحن نقف على عتبة عهد جديد، ننحني إجلالاً وخشوعاً أمام أرواح شهدائنا، وشهداء الأمة العربية، الذين أضاءوا بدمائهم الطاهرة شعلة هذا الفجر العنيد، واستشهدوا من أجل أن يحيا الوطن ...".
انتهاك صارخ للنظام السياسي الفلسطيني
إنَّ أيّ محاولة للالتفاف على التعديلات الدستورية لعام 2003، أو إعادة إحياء "إمبراطورية الرئاسة"، تُعدُّ انقلاباً على النظام الدستوري الفلسطيني، وخرقاً لمبادئ الحكم الديمقراطي البرلماني، وانتهاكاً صارخاً لوثيقة إعلان الاستقلال. إنَّ ما يحدث ليس مجرد خرق دستوري، بل محاولة لإعادة صياغة النظام السياسي الفلسطيني بشكل يتناقض مع أسس الشرعية الوطنية. إنَّ الحقوق الوطنية الفلسطينية لا تُصادر بمرسوم، ولا تُمسح بقرار إداري، ولن تُفرض بإرادة فردية.
ترديد شعارات "الممثل الشرعي والوحيد" للهروب من المساءلة واستحضار هياكل لم تُجرى فيها انتخابات منذ أكثر من (60) عاماً مُجرد محاولات هزيلة، عجوز، لن يُكتب لها النجاح، ومصيرها السقوط في نهاية المطاف. الدستور وحده مَن يقرر، والشرعية لا تُؤخذ إلا مِن الشعب.
الدستور الفلسطيني فوق الجميع
إنَّ ما يحدث اليوم، وعلى امتداد السنوات الماضية، ليس مجرد تجاوزات لأحكام دستورنا الشامخ، بل إعادة هندسة قسرية للنظام السياسي الفلسطيني، بهدف فرض واقع يتناقض مع أسس الشرعية الوطنية. إنَّ الحقوق الوطنية الفلسطينية لا تُلغى بمرسوم، ولا تُمسح بقرار إداري، ولا تُفرض بإرادة فردية، فالدستور وحده مَن يقرر، والشرعية لا تُؤخذ إلا من الشعب.
أمّا استدعاء شعارات "الممثل الشرعي والوحيد" للهروب من المساءلة، وإحياء هياكل لم تُجرَ فيها انتخابات منذ أكثر من 60 عاماً، فليست سوى محاولات هزيلة، مُسنَدة إلى شرعية مُترهّلة، عجوز، لن يُكتب لها النجاح، ومصيرها السقوط المحتوم.
القوة الحقيقية ليست في المراسيم، بل في الدستور... والشرعية تُصنع في صناديق الاقتراع، لا في الدائرة السوداء المغلقة.
الحَوكمة لا تتجزأ
إذا كان السيد محمود عباس، المنتهية ولايته الدستورية منذ سنوات طويلة، قد استند إلى شعارات الحَوكمة الرشيدة وسيادة القانون لإصدار مرسومه الفاقد للشرعية والمثير للجدل قانونياً وسياسياً بحق مخصصات الشهداء والأسرى والجرحى، فإنَّ المنطق ذاته يُحتم عليه تقديم كشف مالي مُفصَّل للناس عن مخصصاته المالية، امتثالاً لمبادئ الشفافية والمساءلة التي أكّدها صراحةً في كتاب التكليف الصادر عنه بتاريخ 14/03/2024 للحكومة الفلسطينية التاسعة عشرة. فإعمال الكلام أولى من إهماله، والحَوكمة لا تتجزأ، إلا إذا كانت مجرد غطاء لإعادة هندسة المشهد السياسي وفق معايير الولاء المطلق.
إنَّ هذا الكشف المالي لا يقتصر على التزام أخلاقي أو إجراء شكلي، بل هو ضرورة قانونية، لا بل دستورية مؤكدة في المادة (44) التي نصت على أن "تُحدد بقانون مخصصات رئيس السلطة الوطنية وتعويضاته". وتستند إلى قانون مخصصات وتعويضات رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية رقم (18) لسنة 2005، الذي يُحدد المخصصات الرئاسية، وينص في مادته (2) على أن "يتقاضى رئيس السلطة مخصصاً شهرياً مقطوعاً قدره عشرة آلاف دولار أمريكي (10,000) أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانونًا، وتُدفع له عن الفترة ما بين اليوم التالي لحلف اليمين الدستورية وحتى انتهاء فترة رئاسته أو شغور مركزه أيهما أقرب".
وعليه، فإنَّ انتهاء الولاية الدستورية يعني، وفقاً للنصوص الدستورية والقانونية، انتهاء الحق في هذه المخصصات. وهذا ما تُؤكده المادة (3)، التي تحدد أن "يستحق رئيس السلطة بعد تركه منصبه مكافأة شهرية تساوي (80%) من المبلغ الإجمالي المحدد للمخصص الشهري مربوطاً بجدول غلاء المعيشة، وفي حال وفاته يُصرف كمعاش لأسرته وفقاً لأحكام قانون التقاعد".
وجاءت المادة (5) من قانون مخصصات وتعويضات الرئيس قاطعة وصريحة: " لا يجوز لرئيس السلطة الجمع بين المخصص الشهري وأي راتب أو مكافأة أو مخصص تقاعدي آخر". فإذا كان الرئيس مُنتهي الولاية يُلغي بمرسوم غير دستوري مُستحقات الأسرى والشهداء والجرحى الذين ضحوا بأرواحهم وحريتهم، فمن باب أولى أن يُسحب هذا المرسوم نفسه على مخصصات وتعويضات الرئيس، وأن تتم مراجعة وإعادة النظر في أي أموال صُرفت خلافاً لأحكام القانون بعد انتهاء الولاية الدستورية، استناداً إلى المادة (36) من القانون الأساسي المعدل، التي تُحدد مدة ولاية الرئيس بأربع سنوات فقط، تنتهي بانتخابات عامة.
المال العام ليس امتيازاً شخصياً
وفقاً للقانون ذاته، فإنَّ المخصصات الرئاسية تُصرف فقط خلال فترة الولاية القانونية، مما يعني أن أي أموال تم تحصيلها بعد انتهاء المدة الدستورية للرئاسة، دون وجود انتخابات جديدة، تُعتبر تحصيلاً بلا مسوغ قانوني، ويجب إعادتها إلى الخزينة العامة. فالتعامل مع المال العام لا يُمكن أن يكون بازدواجية المعايير؛ فإذا كان هناك حديث عن تقليص أو إعادة هيكلة المخصصات المالية، فليبدأ الرئيس بنفسه، وليُعيد ما ليس له حق فيه، قبل أن يَفرض المعايير على الفئات الأكثر استحقاقاً.
لكن هذا ليس سوى جزء صغير من مشهد أكثر تعقيداً. على المستوى الدستوري، فإنَّ القرارات بقوانين والمراسيم الرئاسية الصادرة بعد انتهاء الولاية، ليست فقط غير مشروعة، بل مُنعدمة دستورياً، لا ترتب أثراً، ولا تمنح صلاحيات، ولا يمكن أن تكون أداة لتعديل الحقائق الدستورية الثابتة. ومخصصات الشهداء والأسرى والجرحى ليست مِنّة من أحد، ولا هي تفضُّلٌ رئاسي، بل حقٌّ أصيلٌ ومُلزمٌ بحكم الدستور والقانون.
لكن، كيف يُمكن للسلطة أن تُمعن في تجاوز الخطوط الحمراء، وتُحكم قبضتها على الموارد دون مساءلة؟
إنَّ هذا الملف لا ينفصل عن "الدائرة السوداء المغلقة" التي تتكامل حلقاتها، حيث لا يُمكن النظر إلى المرسوم بشأن مخصصات الشهداء والأسرى والجرحى، بمعزل عن القرارات بقوانين التي صدرت لإحكام السيطرة المالية عبر "مؤسسة مجدلاني".
وفي الجزء القادم، نكشف الحقائق، ونفكك الشيفرة الكاملة لعملية إعادة توزيع النفوذ داخل السلطة تحت العنوان التالي:
"مؤسسة مجدلاني: تشريع خاص لخدمة الحلقة الضيقة".