غزة - خاص قدس الإخبارية: شكّل صمود الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والمواجهة البطولية لمقاومته أمام آلة القتل الصهيونية، العامل الحاسم في إفشال الأهداف الرئيسية والمعلنة لحرب الإبادة التي شنتها سلطات الاحتلال.
ومع ذلك، فإن توقف ضجيج المدافع لا يعني انتهاء الحرب ولا تعطل مفاعيلها. فالمعركة مستمرة بأشكال مختلفة، حيث يسعى الاحتلال وحلفاؤه بشكل محموم لاستكمال الأهداف الخفية لهذه الحرب، والتي تتصل جوهريًا بالمشروع الاستراتيجي لتصفية القضية الفلسطينية.
خطط التهجير، التي بدأت بشكل قسري عبر آلة الحرب والدمار، تطورت لتأخذ منحى جديدًا تحت عنوان "التهجير الطوعي"، الذي يُفرض على سكان القطاع من خلال التدمير الشامل والممنهج لكل أوجه الحياة.
يتم تغليف هذه المخططات بغلاف إنساني زائف، عبر الترويج لفكرة أن القطاع لم يعد صالحًا للحياة والسكن، في سياسة لا تعني فقط تفريغ القطاع من سكانه، بل تمثل تهديدًا مباشرًا لهوية الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية، وفي مواجهة هذه السياسات، يصبح من الضروري وضع خطة مواجهة شاملة تستكمل مشهد الصمود الذي أبداه الشعب الفلسطيني، وتعزز قدرته على مقاومة الأهداف التصفوية للقضية.
المهمة الأولى والملحة تتمثل في إعادة الحياة لقطاع غزة بكل أبعادها، من خلال خطط فعالة ومتكاملة لإعمار القطاع، وترميم الإنسان والحجر والأرض، وهذا الجهد يجب أن يشمل وقف محاولات تفكيك القطاع وإغراقه في الركام الناتج عن الحرب، بالإضافة إلى توفير الدعم اللازم لمواجهة التحديات الناتجة عن مخلفات الدمار والقنابل.
يتطلب ذلك تحركًا جادًا ومتكاملًا على الأصعدة الرسمية والشعبية، لإعادة بناء القطاع وحماية سكانه من سياسات الاحتلال الساعية لتفريغه، وترسيخ صمودهم على أرضهم في مواجهة مشاريع التهجير والتصفية.
الإغاثة الطارئة: استجابة عاجلة لتعزيز الصمود
من أبرز أهداف الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب الإبادة على قطاع غزة كان ترسيخ مبدأ إفراغ شمال القطاع من سكانه من خلال التهجير القسري والنزوح الجماعي، وصولًا إلى تحويله إلى منطقة عازلة خالية من السكان تمهيدًا لاستغلالها في مخططات الاستيطان وإعادة الاحتلال.
ومع ذلك، تمكنت المقاومة الفلسطينية من تحقيق اختراق كبير في هذه الاستراتيجية عبر التمسك بمبدأ عودة النازحين بالكامل من الجنوب إلى الشمال، ليعيدوا الالتحام مع من صمد في وجه آلة الدمار، مؤكدين على تمسكهم بأرضهم وحقهم في البقاء.
إلا أن مشهد عودة النازحين يتطلب بالضرورة جهودًا ملموسة لتحويله إلى واقع مستدام. فشمال القطاع، الذي تعرض لتدمير شامل طال المنازل والبنى التحتية والمرافق الحيوية، يحتاج إلى استجابة طارئة تُعزز قدرة السكان على البقاء.
الإغاثة العاجلة يجب أن تتجاوز تقديم المواد الغذائية والإمدادات الأولية لتشمل إزالة الركام، فتح الطرق، إعادة تشغيل شبكات المياه والكهرباء، وتجهيز المنازل المؤقتة والمخيمات، بما يضمن توفير احتياجات أساسية مثل المياه النظيفة والخدمات الصحية.
تأتي أهمية الإسراع في توفير الإغاثة الكاملة من كونها خطوة حاسمة لإفشال أهداف الاحتلال، التي تعتمد على إشاعة الدمار كوسيلة لدفع السكان إلى مغادرة مناطقهم بحثًا عن حياة أكثر استقرارًا. وهنا لابد من الإشارة أن الإغاثة الفاعلة ليست مجرد مساعدات عاجلة، بل هي أداة استراتيجية لتعزيز الصمود ومواجهة مشاريع "التهجير الطوعي."
إضافة إلى الجهود الميدانية، يتطلب نجاح الإغاثة الطارئة تنسيقًا عالي المستوى بين المؤسسات المحلية والدولية، مما يتطلب إنشاء لجان مشتركة تعمل على تجاوز العراقيل التي يفرضها الاحتلال، وضمان تدفق المساعدات بسرعة وفعالية. كما أن التحرك السريع يساهم في تقليص الفجوة الزمنية بين عودة النازحين وتوفير بيئة قادرة على دعم بقائهم.
وفي ذات الإطار يجب أن تُرفق الجهود الإغاثية بضغط سياسي ودبلوماسي على الاحتلال لضمان عدم استخدام المساعدات كأداة ابتزاز أو وسيلة لإعادة إنتاج المعاناة والعدوان، وهو ما يتطلب فتح المعابر بشكل غير مشروط، وضمان وصول المساعدات دون تدخل أو تأخير، وكلاهما يشكلان شرطين أساسيين لنجاح عملية الإغاثة وتحقيق استدامة عودة النازحين، مما يُفشل المخططات التي تستهدف إفراغ القطاع من سكانه.
خطط الإعمار الفعالة
كما ثبّت الاحتلال سياسة التدمير الشامل كجزء من عدوانه المستمر حتى بعد توقف المدافع وأزيز الطائرات، فإن معركة الإعمار في قطاع غزة تمثل اختبارًا كبيرًا لإرادات المجتمع الفلسطيني والدول العربية والإسلامية، في مواجهة استراتيجية الاحتلال التي تستغل عملية الإعمار كأداة ابتزاز وإخضاع سياسي.
وهنا من المهم الإشارة أن الإعمار ليس مجرد عملية فنية لإعادة بناء ما تم تدميره، بل هو معركة طويلة تتطلب استجابة جادة وملموسة من جميع أصدقاء الشعب الفلسطيني، لتجنب الوقوع في فخ الابتزاز الذي يمكن أن يمارسه الاحتلال الإسرائيلي.
لطالما استخدم الاحتلال آليات الإعمار كوسيلة لإطالة معاناة السكان وإعاقة جهود التعافي، كما حدث بعد عدوان 2014. إذ فرض الاحتلال آنذاك نظامًا يقوم على المماطلة والسيطرة المباشرة على إدخال مواد البناء، مما أدى إلى إعادة إعمار بطيئة للغاية.
وقد وصفها خبير الأمم المتحدة بالاكريشنان راجاجوبال بأنها نموذج للتحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني، حيث سمحت الآلية التي فرضها الاحتلال ببناء أقل من ألف منزل سنويًا، في حين بلغت المنازل المدمرة في عدوان 2014 أكثر من 20 ألف وحدة.
ومع حجم الدمار الحالي الذي يتجاوز 170 ألف وحدة سكنية مدمرة بشكل كلي، فإن استمرار هذا النهج قد يعني أن إعادة الإعمار ستستغرق عقودًا طويلة، تُكرس المعاناة وتدفع السكان إلى البحث عن خيارات أخرى خارج أرضهم.
إضافة إلى ذلك، يُستغل حجم الدمار الكبير كذريعة لتمرير مشاريع تصفوية. فقد قدم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، المنسجم مع أطروحات قادة الاحتلال واليمين الصهيوني، فكرة إفراغ قطاع غزة من سكانه تحت مبرر استحالة تنفيذ عملية الإعمار بوجود السكان. في خطاب يُظهر بوضوح أن الإعمار ليس مجرد تحدٍ تنموي، بل هو جزء من معركة وجود تهدف إلى تعزيز صمود الفلسطينيين على أرضهم.
لمواجهة هذا الواقع، يجب وضع خطط إعمار فعالة ترتكز على عدة محاور أساسية:
تحرر الإعمار من ابتزاز الاحتلال الاسرائيلي:
- رفض أي آليات تعطي الاحتلال السيطرة على عملية الإعمار أو تضع قيودًا على تدفق مواد البناء.
- تشكيل لجان فلسطينية ودولية مستقلة للإشراف على عملية الإعمار بشكل مباشر.
التوسع في الشراكات مع الدول العربية والإسلامية:
- إطلاق مشاريع اعمار عربية وإسلامية ضخمة تُحرر الشعب الفلسطيني من القيود الأمريكية وهندسة الاحتلال.
- ضرورة تفعيل دور الصناديق الإغاثية والتنموية في دعم مشاريع إعادة الإعمار.
- تقديم برامج تمويل استراتيجية مستدامة تُخصص لإعادة بناء القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية.
الاستفادة من النماذج العالمية: استلهام تجارب دول نجحت في إعادة الإعمار بعد الكوارث، مثل إعادة الإعمار في تركيا بعد الزلزال في عام 2023.
الإسراع في التنفيذ: ضمان سرعة توفير المواد اللازمة وبدء العمل على إعادة بناء المنازل والبنية التحتية بأسرع وقت ممكن، لتجنب تراكم المعاناة واستغلالها في مشاريع تهجيرية.
إن تعزيز صمود الشعب الفلسطيني يتطلب تكامل الجهود الرسمية والشعبية والدولية، والتأكيد على أن إعادة الإعمار ليست مجرد أولوية محلية، بل قضية استراتيجية تمس الأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها، على قاعدة أن المسارعة في تنفيذ خطط إعمار فعالة هي السلاح الأقوى لإفشال مشاريع الاحتلال الساعية إلى تفريغ قطاع غزة من سكانه، وترسيخ الحق الفلسطيني في الأرض والبقاء.
اقرأ أيضًا: |
أولوية كسر الحصار
كمسار أساسي ومكمل لحيوية ملفي الإغاثة وإعادة الإعمار، يُعد كسر الحصار عن قطاع غزة المدخل الرئيسي لتحرير الشعب الفلسطيني من ابتزاز الاحتلال وتحكمه في تلبية احتياجاتهم الأساسية والتعامل مع آثار العدوان. استمرار الحصار يجعل القطاع ضحية للخنق المستمر، ويُتيح لدولة الاحتلال إعادة قولبة سياساته بشكل أكثر تشددًا وإجرامًا، مما يضاعف المعاناة الإنسانية ويعرقل كل جهود التعافي.
الفتح غير المشروط لمعابر قطاع غزة هو الخطوة الأولى والأساسية لضمان إمداد القطاع بما يلزم لتحقيق عملية تعافي شاملة ومستدامة. هذه الخطوة تشمل إمداد القطاعات المتضررة بشكل مباشر، وفي مقدمتها القطاع الصحي، الذي بات بحاجة ماسة إلى إعادة ترميم وبناء شامل، بالإضافة إلى قطاعي الاتصالات والكهرباء، إلى جانب إعادة تأهيل البنية التحتية التي دُمرت بشكل منهجي خلال العدوان.
دور مصر في هذا السياق محوري وأساسي، حيث إن إعادة فتح معبر رفح أمام الشاحنات والبضائع والمساعدات الإغاثية دون شروط أو ارتباط بالآلية الإسرائيلية تُعد ضرورة استراتيجية. هذه الخطوة ستُحرم الاحتلال من القدرة على تعطيل أو تقنين دخول المساعدات والمستلزمات الأساسية، مما يُسهم في تسريع وتيرة التعافي وتحقيق استقرار أولي للقطاع.
بالإضافة إلى ذلك، فإن إعادة تنشيط قوافل كسر الحصار بمشاركة أوسع وأكثر كثافة من أحرار العالم وأصدقاء الشعب الفلسطيني تُعد خطوة حيوية لإعادة إحياء الجهود الدولية لكسر الحصار عن غزة. هذه القوافل تمثل ضغطًا سياسيًا وأخلاقيًا على الاحتلال، وتسهم في تعزيز التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني ودعم حقوقه في الحرية والحياة الكريمة.
إن كسر الحصار ليس فقط ضرورة إنسانية، بل هو أيضًا شرط أساسي لضمان استدامة عمليات الإغاثة وإعادة الإعمار، وإفشال أهداف الاحتلال الرامية إلى إبقاء غزة في دائرة التبعية والدمار. تحقيق هذا الهدف يتطلب تضافر الجهود الرسمية والشعبية والدولية لضمان استعادة القطاع لحياته الطبيعية وصموده أمام سياسات الاحتلال العدوانية.
اتجاهات التمويل ودور المجتمع المدني: نحو خطة صمود شاملة
فرضت الحرب على قطاع غزة واقعًا جديدًا يتطلب من المجتمع المدني الفلسطيني والعربي إعادة ترتيب الأولويات وتوجيه الجهود نحو تخفيف معاناة الشعب الفلسطيني وتعزيز صموده في مواجهة مخططات "التهجير الطوعي".
هذه المرحلة الحرجة تستدعي صياغة خطط استجابة متكاملة تهدف إلى معالجة الآثار الكارثية للحرب على القطاعات الحيوية، خصوصًا الصحية والتعليمية والاجتماعية. ومع العجز الكبير الذي يعانيه القطاع الحكومي نتيجة الدمار الشامل، يصبح دور المجتمع المدني ومؤسساته الأهلية حيويًا في تشكيل جبهة إسناد فعالة تسد هذه الفجوة.
أحد أهم التحديات التي تواجه المجتمع المدني الفلسطيني هو اشتراطات التمويل الغربي، خصوصًا التمويل الأمريكي والأوروبي، الذي يهدف إلى تحييد المجتمع المدني عن دوره الوطني وتوجيهه نحو مشاريع تخدم أجندات الممول على حساب الأولويات الفلسطينية.
هذه الاشتراطات تسعى بشكل ممنهج لتقويض أي جهود وطنية، وفرض أولويات تتناقض مع احتياجات الشعب الفلسطيني، في وقت يتعرض فيه إلى تهديد وجودي.
لذلك، يتحتم على المجتمع المدني التحرر من هذه الاشتراطات والعمل على بناء شراكات بديلة، تعتمد على صناديق الإغاثة العربية والإسلامية والدول الصديقة للشعب الفلسطيني. بحيث يعمل من خلالها على تمويل مشاريع استراتيجية مستدامة، تُركز على إعادة بناء القطاعات الحيوية، مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية، بما يعزز صمود الفلسطينيين على أرضهم.
لتعزيز هذا التحول في التمويل، يجب أن يُعاد توجيه الخطاب إلى الدول العربية والإسلامية والمؤسسات الدولية الصديقة يُركز على حجم المعاناة التي يعانيها قطاع غزة، والآثار المدمرة للحصار والعدوان على حياة الفلسطينيين اليومية.
كما يجب أن يؤكد على أن أي تمويل لا يقتصر دوره على تقديم الإغاثة العاجلة فقط، بل يجب أن يُوجه نحو بناء مشاريع تنموية تُحقق استدامة طويلة الأمد وتُساهم في تعزيز مقومات البقاء للسكان.
يجب أن يتضمن الخطاب دعوة صريحة إلى:
- تخصيص صناديق عربية وإسلامية لدعم برامج استراتيجية تُركز على إعادة إعمار القطاع الصحي والتعليمي والخدمات الأساسية.
- وضع آليات واضحة وشفافة لتوجيه التمويل بما يخدم الأولويات الفلسطينية، بعيدًا عن أجندات الممولين الغربيين.
- التأكيد على أن الاستثمار في صمود الشعب الفلسطيني هو جزء من حماية الأمن الإقليمي واستقرار الشرق الأوسط.
يتطلب الواقع الحالي أن يتحرك المجتمع المدني الفلسطيني بشكل جماعي ومنظم، لتشكيل جبهة مقاومة تنموية تواجه محاولات الاحتلال لتقويض الحياة في القطاع. وبالتالي فإن المبادرات المحلية يجب أن تُنسق مع جهود أوسع على المستويين الإقليمي والدولي، لضمان تكامل الجهود وخلق تأثير فعال.
إن تعزيز التمويل المستقل والهادف، المدعوم بخطاب مؤثر وموجه، سيُسهم بشكل مباشر في تثبيت الشعب الفلسطيني على أرضه، وإفشال مخططات الاحتلال التي تستهدف تهجيره وتفريغ القطاع من سكانه. هذا التوجه لا يُعد مجرد أولوية محلية، بل هو جزء من معركة استراتيجية لحماية حقوق الشعب الفلسطيني وهويته الوطنية.
ختامًا، يبقى الشعب الفلسطيني في قطاع غزة عنوانًا للصمود والمقاومة رغم كل محاولات الاحتلال لتفريغ الأرض وتهجير السكان. إن بناء استراتيجية شاملة ومتعددة الأبعاد لمواجهة هذه التحديات ليس فقط ضرورة وطنية، بل هو واجب إنساني وأخلاقي على المجتمع الدولي والعربي. من خلال الإغاثة والإعمار وكسر الحصار، يمكن للشعب الفلسطيني أن يُثبت مرة أخرى أن إرادة البقاء أقوى من كل محاولات الاقتلاع والتهجير.