شبكة قدس الإخبارية

تفكيك نيتساريم ..غزة تُنهي مشروع النصر الزائف والاستيطان

٢١٣

 

تفكيك نيتساريم ..غزة تُنهي مشروع النصر الزائف والاستيطان
أحمد الطناني

غزة - خاص قدس الإخبارية: مع صبيحة التاسع من فبراير/شباط 2025، فكك جيش الاحتلال الإسرائيلي مواقعه وتحصيناته التي أقامها على أراضي أحياء المغراقة والزهراء والشيخ عجلين وسط قطاع غزة، وهو المحور الذي اصطلح على تسميته بـ"محور نيتساريم"، نسبة إلى مستوطنة نيتساريم التي فككها الاحتلال عام 2005.

لطالما اعتُبر محور نيتساريم رمزًا للمستقبل المظلم الذي قد يواجهه قطاع غزة في حال إعادة الاحتلال الإسرائيلي للقطاع. فالمحور يُعد نقطة استراتيجية تقسم القطاع إلى جنوب وشمال، وهو المحطة الأولى التي كان يُفترض أن يُعاد عبرها الاستيطان الإسرائيلي إلى غزة. 

ورغم دخول التهدئة حيز التنفيذ في 20 يناير/كانون الثاني، شكك العديد من المراقبين في جدية الاحتلال بشأن الانسحاب من المحور، نظرًا لأهميته العملياتية والرمزية، وكذلك بسبب الأصوات الإسرائيلية التي أكدت على ضرورة الاحتفاظ به كأصل استراتيجي ومنشأة عسكرية استثمر جيش الاحتلال في تجهيزها على مدار 15 شهرًا من الحرب.

مع ذلك، شكّل تفكيك المحور رمزية كبيرة، إذ عكس فشل خطط الاحتلال في غزة، وبدء انحسار مفاعيل حرب الإبادة التي استهدفت القطاع، مقابل الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني. 

الأصول الاستراتيجية تتفكك

حتى اجتياح رفح في مايو/أيار 2024، كان محور نيتساريم هو المحور الوحيد الذي عمل الاحتلال على تعزيز سيطرته فيه بشكل كبير، بما في ذلك إنشاء تحصينات متقدمة وتجهيزات لوجستية عميقة. 

في ذلك الوقت، كانت المقاومة الفلسطينية ترى أن أي اتفاق مستقبلي يجب أن يتضمن انسحابًا كاملًا للاحتلال من جميع أراضي قطاع غزة، بما في ذلك تفكيك كل ما أنشأه جيش الاحتلال في محور نيتساريم. هذا المطلب كان في صلب "عرض بايدن" الذي وافقت عليه حركة حماس، والذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي آنذاك.

ردًّا على هذه الموافقة، شن الاحتلال الإسرائيلي عملية عسكرية واسعة على مدينة رفح، واعتبرها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو "خطوة أساسية لتفكيك حركة حماس"، مضيفًا: "دخول رفح يخدم هدفين رئيسيين من أهداف الحرب، هما عودة مختطفينا والقضاء على حركة حماس". ومترافقًا مع ذلك، رفض نتنياهو العرض الذي وافقت عليه حماس، مشيرًا إلى أن "اقتراحها بعيد كل البعد عن المتطلبات الضرورية"، وفق وصفه.

في إطار سعيه لتعقيد المفاوضات وخفض سقف مطالب المقاومة الفلسطينية، عمد نتنياهو إلى إضافة السيطرة على "محور فيلادلفيا" ومعبر رفح كبُعد جديد في المعادلة، كان الهدف هو توظيف الضغط العسكري لتحقيق اختراقات في استراتيجية المقاومة التفاوضية. وأكد في أغسطس/آب 2024، أن بقاء السيطرة على محوري فيلادلفيا ونيتساريم يمثل "أصولًا استراتيجية وعسكرية لا يمكن التخلي عنها تحت أي ظرف".

في الشهر ذاته، حاول نتنياهو تعزيز سيطرة الاحتلال على محور نيتساريم من خلال طرح شروط جديدة في المفاوضات، وكان أحد أبرز هذه الشروط إقامة خنادق مجهزة بأجهزة تصوير وكشف للأشخاص، على أن يمر النازحون من جنوب القطاع إلى شماله مشيًا على الأقدام داخل هذه الخنادق.

في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، قام نتنياهو بزيارة ميدانية إلى محور نيتساريم برفقة وزير الحرب يسرائيل كاتس، ورئيس الأركان هرتسي هاليفي، ورئيس الشاباك رونين بار. خلال الزيارة، استعرض نتنياهو خططًا وصورًا للمشاريع التي زعمت دولة الاحتلال أنها ستقيمها لتعزيز سيطرتها على المحور، معيدًا التكرار أن "المحور" يمثل رمزًا استراتيجيًا لا يمكن التفريط فيه.

مع وصول محادثات التهدئة إلى مراحل جدية غير مسبوقة في مطلع عام 2025، استمر نتنياهو في إطلاق تصريحات تؤكد رفض عودة النازحين إلى شمال قطاع غزة، وتشدد على ضرورة إبقاء محور نيتساريم تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية. في التصريحات تعكس تمسكه بأهمية المحور كخط فاصل بين شمال القطاع وجنوبه.

اللافت في هذا السياق أن الاتفاق الذي توصل إليه الوسطاء منتصف يناير/كانون الثاني 2025 كان في جوهره ذات الاتفاق الذي أعلن الشهيد إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الموافقة عليه قبيل اجتياح رفح. 

إلا أن النسخة النهائية من الاتفاق تضمنت إضافة شرط المقاومة الأساسي، وهو الانسحاب الإسرائيلي من معبر رفح كبداية، يليه الانسحاب من محور فيلادلفيا، في نهاية المطاف، قبل نتنياهو، ومعه الوفد الإسرائيلي المفاوض، بتفكيك "أصوله الاستراتيجية"، التي كان يعتبرها رموزًا لسيطرة الاحتلال وأهدافه طويلة الأمد.

طموحات الاستيطان تتبدد

كانت نيتساريم أولى المستوطنات الإسرائيلية التي تأسست في قطاع غزة عام 1972، جنوبي مدينة غزة، ضمن مشروع استيطاني توسّع في السبعينيات والثمانينيات ليشمل مناطق أخرى في القطاع، إلا أن هذا المشروع تلقى ضربات قاسية خلال انتفاضة الأقصى، حيث تصاعدت عمليات المقاومة بشكل كبير، مما أدى إلى استنزاف المستوطنات وجعلها عبئًا أمنيًا وعسكريًا على جيش الاحتلال. 

بحلول عام 2005، قرر الاحتلال تفكيك جميع المستوطنات في غزة ضمن خطة الانفصال أحادي الجانب، التي جاءت نتيجة لتكاليف الحماية المرتفعة وتعاظم الخسائر الأمنية والبشرية.

مع تعديل قانون "فك الارتباط" في عهد حكومة الاحتلال الاسرائيلي الحالية، التي تضم أحزاب الصهيونية الدينية كجزء رئيسي منها، اتخذ الكنيست في 21 مارس/آذار 2023 قرارًا بإلغاء قانون فك الارتباط شمالي الضفة الغربية. 

وقد اعتبرت وزيرة البعثات، أوريت ستروك، من حزب الصهيونية الدينية، هذا القرار خطوة نحو إعادة السيطرة على قطاع غزة وإحياء مشروع الاستيطان فيه. وقالت في حينه: "ستؤدي العودة إلى قطاع غزة إلى سقوط العديد من الضحايا، تمامًا كما أدى الخروج منه إلى سقوط العديد من الضحايا، لكنه في النهاية جزء من أرض إسرائيل، وسيأتي يوم نعود إليه".

في مايو/أيار 2023، صرّح بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية والوزير في وزارة الحرب، في مقابلة مع قناة "14" العبرية: "قد يأتي وقت العودة إلى غزة وتفكيك حماس وتجريد غزة من السلاح. أعتقد أنه سيأتي الوقت الذي لن يكون فيه خيار آخر سوى إعادة احتلال غزة". وأضاف أن ذلك سيكون "الحل الوحيد" للاشتباكات المستمرة مع الفصائل الفلسطينية في القطاع.

مع فرض الاحتلال سيطرته على أراضي محور نيتساريم خلال الحرب، رأت جماعات الاستيطان في تلك الأراضي فرصة لإعادة مشروعها. اعتُبرت نيتساريم النقطة الأولى التي يمكن أن يُعاد عبرها الاستيطان إلى غزة، وعلى أثر ذلك بدأت جماعات مثل "ناحالا" بتنظيم مؤتمرات وتدريبات تهدف إلى تحقيق هذا الحلم وتحويله إلى أمر واقع.

في أكتوبر/تشرين الأول 2024، صرحت دانييلا فايس، زعيمة حركة "ناحالا" الاستيطانية، خلال مؤتمر لها، بأنها شكلت عدة "مجموعات استيطانية" تضم نحو 700 عائلة مستعدة لدخول غزة بمجرد أن تسمح الظروف بذلك. وقالت فايس: "إذا دخل 300 شخص في وقت واحد، سيكون من الصعب على الجيش الإسرائيلي إخلائهم". وأكدت أن المستوطنين جاهزون للاستقرار في القطاع متى أتيحت لهم الفرصة.

وفقًا لتقرير نشرته قناة "كان" الإسرائيلية، قامت فايس بجولة استكشافية في الأراضي المحاذية للقطاع في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، برفقة مجموعة من النشطاء المؤيدين لإعادة الاستيطان في غزة. هدفت الجولة إلى استكشاف مواقع محتملة لإنشاء مستوطنات داخل القطاع. 

كما كشفت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أن فايس ومرافقيها زاروا منطقة نيتساريم وسط غزة للبحث عن طرق لتنفيذ خططهم الاستيطانية، مع الإشارة إلى أن جنودًا من جيش الاحتلال أعربوا عن استعدادهم لتسهيل إنشاء هذه البؤر، حتى لو كان ذلك يتطلب تجاوز التسلسل القيادي.

رأت جماعات الاستيطان في انسحاب جيش الاحتلال من نيتساريم تبديدًا للأمل الأكبر الذي طمحوا إليه منذ انسحاب عام 2005. بالنسبة لهم، كان هذا الأمل مرتبطًا بـ "إصلاح الخطأ التاريخي" الذي ارتكبه رئيس الوزراء الأسبق أرئيل شارون بتنفيذه خطة الانفصال، إلا أن انسحاب الاحتلال من المحور وتفكيك أصوله العسكرية جاء ليبدد أحلام الاستيطان من جديد، ويعمّق حالة الإحباط بين صفوف المستوطنين الذين كانوا يعوّلون على إعادة ترسيخ وجودهم في القطاع.

أضحوكة الشرق الأوسط

أثارت مشاهد انسحاب جيش الاحتلال من محور نيتساريم موجة واسعة من الامتعاض داخل أوساط اليمين الصهيوني وحتى بين جنود الاحتلال أنفسهم، الذين ظهرت لهم مقاطع مصورة وهم يحرقون المعدات والتجهيزات التي تركوها وراءهم، في محاولة لعدم ترك أي شيء يعود بالنفع على سكان قطاع غزة. هذه المشاهد عكست حالة الإحباط العميق التي خيمت على الاحتلال عقب فشله في تحقيق أهدافه المعلنة من الحرب.

وزير الأمن القومي المستقيل ورئيس حزب "عوتسما يهوديت" إيتمار بن غفير، علق على الانسحاب بلهجة غاضبة قائلًا: "لقد أصبحنا أضحوكة الشرق الأوسط، ولست متأكدًا من أننا نفهم ذلك الآن"، تصريحات بن غفير تعكس ليس فقط استياءه من القرار، بل أيضًا حالة الانقسام داخل الطبقة السياسية في اليمين الصهيوني بشأن إدارة الحرب ونتائجها.

من جانبه، قال المحلل العسكري للقناة 14 العبرية، نوعم أمير، في تعقيبه على الحدث: "لقد خسرنا الإنجاز في الحرب كاملًا بعد الانسحاب من نيتساريم. وهذا يعني أننا نخسر بشكل نهائي إنجاز الحرب في تطهير شمال قطاع غزة، مما يتيح لحماس الحركة بحرية مرة أخرى بأي طريقة تختارها".

في تصريحات لخصت الشعور بالهزيمة الذي يسيطر على الأوساط العسكرية الإسرائيلية بعد فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه الاستراتيجية.وفي سياق متصل، علقت عضو الكنيست ميخال ميريام فولديغير على الحدث بقولها: "مع انتشار صور الانسحاب من محور نيتساريم، يذكرنا هذا بالجنود الذين قُتلوا من أجل السيطرة عليه"، ما عكس اتساع نطاق خيبة الأمل لدى سياسيي الاحتلال، وتعيد فتح الجدل حول جدوى الحرب التي استنزفت الأرواح والموارد دون نتائج تُذكر.

أوهام الانتصار المُطلق تتهاوى

منذ اتفاق التهدئة، بدأ الجميع يلمس التهاوي المستمر لأوهام "الانتصار المطلق" الذي طالما سعى وراءه بنيامين نتنياهو. ورغم أن مجريات المواجهة الميدانية والاستبسال البطولي للمقاومة على الأرض كانا التعبير الأوضح عن أن صورة "النصر المُطلق" لنتنياهو كانت مجرد طموحات وأضغاث أحلام، فإن استمرار المعركة ميدانيًا أبقى "خيط الأمل" حاضرًا لدى الاحتلال ومناصريه.

على الأرض، لم تهدر غزة أي لحظة منذ ساعات التهدئة الأولى، فأرسلت رسالة واضحة للعالم بأن القطاع لن يكون إلا لأهله وشعبه ومقاومته. ومنذ الصورة الأولى لخروج أهالي القطاع إلى الشوارع مع المقاومين والطواقم الأمنية ولجان الطوارئ والبلديات، بدا المشهد وكأنه إعلان حيّ لصمود القطاع. 

وبلغت هذه الرسالة ذروتها في المشهد المهيب لجموع النازحين المتكدسين على "تبة النويري" في مدخل مخيم النصيرات الغربي، منتظرين عبور شارع الرشيد سيرًا على الأقدام من جنوب القطاع إلى شماله. 

بهذا، حوّل السكان ما كان الاحتلال يسعى إلى فرضه كعقاب جماعي إلى أوسع تظاهرة عودة جماعية، أجهضت طموحات التهجير وأفشلت محاولات تأليب الحاضنة الشعبية ضد مقاومتها وقيمها الوطنية.

أما مشهد الانسحاب من "نيتساريم"، فقد مثّل تفكيكًا واضحًا لكل صور "الانتصار" التي حاول نتنياهو ترسيخها. وأكد هذا المشهد استحالة أن تحقق الحرب الأطول في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي أهدافها، على الرغم من كل أشكال القتل والإجرام الممنهج الذي مارسه الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني.

تمسك الفلسطينيون بأرضهم، وقادتهم مقاومتهم التي حرصت على جعل كل دقيقة من وجود الاحتلال في قطاع غزة عنوانًا للاشتباك الدائم، ومع انسحاب الاحتلال من "نيتساريم"، استعادت أراضي المغراقة والزهراء والشيخ عجلين أصحابها.

نجحت المقاومة، عبر مواجهاتها المستمرة، في تكبيد جيش الاحتلال خسائر فادحة، إذ قُتل أكثر من 30 جنديًا حتى أغسطس الماضي في تلك المناطق وحدها. وكان هذا النموذج الحي دليلاً واضحًا لقادة جيش الاحتلال على أن أي وجود طويل الأمد على الأرض سيبقى مكلفًا ومستنزفًا وأن الأجدى الرحيل عن هذه الأرض.