كان اللاجئ ابن المخيم مجد زيدان يأمل بأن لا ينقضي به العمر قبل العودة لأرض هُجّر أهله منها. كان يراهن فقط على عمره الفتي الذي لم يتجاوز الـ 16 عاما. فلا يعقل من وجهة نظر أمله وخياله أن يموت قبل تحقيق هذا الحلم. لكن رصاصة من بندقية يُمسك بها فلسطيني، مرّت من كل معابر "إسرائيل" وتحت عينها ورعايتها، أنهت الحلم وقتلت مجد في مخيم جنين. في كل قوانين الحرب، وفي كل أعراف العالم، مجد هو طفل محمي بموجب القانون. أما السلطة التي قتلته، فقد جعلت منه تارة "شيعيا" خارجا عن مذهب القوم، وتارة داعشيا يهدد أمن وسلامة المجتمع، وخارجا عن القانون يجب القصاص منه. هكذا صوّرت مجموعات تابعة للسلطة وحركة فتح مجد عبر منشوراتها ومشاركاتها. رواية تخجل منها حتى "إسرائيل".
تقول أمه التي وقفت تودعه على شرفة بيتها "حذاؤك برأس الرئيس"، عبارة تختزل العالم العربي بأكمله؛ زعماء وسياسة وكيانات وقهر مجتمعات وشعوب. ثم تمضي الجنازة قليلة الحضور خشية استهداف القناصة وقذائف السلطة نحو المقبرة التي فيها مئات "الخارجين عن القانون" ممن قضوا على يد "إسرائيل" في السنتين الأخيرتين فقط. رأس مجد الذي أيقظت فيه الرصاصة كابوس أن يقتل الفلسطيني فلسطينيا، مثقل بهموم اللاجئ الفقير، الذي يمتد ثأره مع "إسرائيل" منذ عام 1948 إلى اليوم. وفي مشهد أصبح فيه الغريب مألوفا، كان الاستثنائي الذي لا يصدقه العقل كيف تتهم سلطة أطفال شعبها بالداعشية، وتقدّم لإسرائيل والعالم مبرر جاهز التسويق للإبادة والاستهداف. كيف يصبح هدف منظومة إعلامية ضخمة يتقاضى موظفوها رواتبهم من جيوبنا هو استهداف براءة مجد وأمثاله.
ثم في اليوم التالي لاستهداف مجد. تُخرِج حركة فتح والسلطة وبعض شركات القطاع الخاص مثل شركة الجنيدي، مئات إلى الشوارع يهتفون بحياة الرئيس ويلعنون رأس مجد ويجلدون المخيم الفقير وآلاف المهجرين اللاجئين. يلعنون السلاح الذي يستشهد صاحبه في أي لحظة، ويهتفون للسلاح الذي لا يمسّ "إسرائيل". يطالبون باستمرار العملية التي تشرف عليها القيادة المركزية لجيش الاحتلال وجنرال أمريكي، ويدينون تمسك عشرات المقاومين بسلاحهم دفاعا عن أنفسهم وإزعاجا لمشروع "إسرائيل". هذه المئات، لم تخرج يوما من أجل شعبها الذي يباد في غزة، ولم تتحرك نصرة لعشرات آلاف الشهداء هناك. لكنها قررت اليوم، أن عدوّها الحقيقي بضع عشرات في مخيم لا تتجاوز مساحته الكيلومتر المربع.
وعلى وقع الموسيقى الصاخبة في الشوارع، وهتافات المناصرين، اختار قناص آخر أن ينهي حياة اللاجئ أحمد أبو لبدة أمام أعين زوجته. في خلفية مشهد دم أحمد الذي أغرق وجهه، كان الناطق باسم أجهزة أمن السلطة أنور رجب يصرخ مؤكدا أنه لا تفاوض ولا حلول ولا تسويات مع المخيم. بينما يجلس رئيسه في المقاطعة منذ 20 عاما كرئيس للسلطة، ومنذ 31 عاما كمنظّر لمشروع عنوانه الرئيسي "لا سبيل للتعامل مع الإسرائيليين إلا بالمفاوضات والتسويات". وفيما يشدد رجب على أن الكلمة للميدان في مواجهة المقاومين في جنين، تخلي أجهزته الأمنية الميدان عشرات المرات يوميا عند دخول الجنود الإسرائيليين. وفي خضم حديثه عن الميدان كان جيب عسكري إسرائيلي يتجول أمام مقاطعة طولكرم، يرقبه عناصر الأمن من النوافذ، بينما انتشر "الخارجون عن القانون" في الشوارع يصدّونه ويشتبكون معه بأجسادهم وسلاحهم الخفيف.
يقفل المشهد ولا ينهيه، عنصر من أجهزة أمن السلطة يرفع علم فلسطين على أحد منازل المخيم، وكأنه حرر أرضا محتلة. يرفرف العلم بهواء ملوث بدخان مصانع المستوطنات، التي لا يراها هذا العنصر. إنه يخطط لرفع العلم على منزل جديد، قد يكون صاحبه شهيد. تحرر السلطة المخيم من أهله وتاريخه وإرثه وملحميته وملاحمه، تريد أن تكسر حلقة الذاكرة، وتشوش ما اجتمع عليه الناس هناك: ألا إن العدو هو "إسرائيل". غدا قد يقتل القناص طفلا آخر من رفاق مجد. "مجد الداعشي" الوصف الذي يطرب الجالسون في "الكرياه" الذين يراقبون عبر الكاميرات ومن السماء ما تقوم به السلطة لأجلهم. إنهم يتجهزون لمجزرة جديدة في غزة، بينما تمضي المجزرة بأيدي بعضنا في جنين.