يتراوح تاريخ الصراع في فلسطين ما بين خيارين، فالخيار الأول ارتفاع وتيرة المقاومة في مرحلة ما، وعلى سبيل المثال لا الحصر، الانتفاضة الأولى عام 1987، أو الانتفاضة الثانية عام 2000، أما الخيار الثاني كان الجهود الدبلوماسية، وأيضاً على سبيل المثال لا الحصر الاتفاق المرحلي، والمعروف باتفاق اوسلوا، والذي تم توقيعه في عام 1993. ويعج بطبيعة الحال تاريخ الصراع بالكثير من المراحل المفصلية التي يمكن ذكرها في هذا المقام.
لكن هناك نقطة وجب التنويه لها، عند اندلاع أول شرارة مقاومة يقوم الاحتلال بالبدء بعملية تقديم الاغراءات لمن يقوم بإشعال الشرارة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، يذكر الشهيد "كمال عدوان" في كتابة "القتال.. هو الطريق"، أن هناك بعثة دبلوماسية يقودها "روجر فيشر"_ أستاذ القانون الدولي في جامعة هارفارد واختصاصي المنازعات الدولية، وصديق كيسنجر_ جاءت ما بين أيلول 1970، وتموز 1971 لتحاور القيادة الفلسطينية في أعقاب أحداث أيلول الخطيرة في تلك الحقبة، وكانت هذه البعثة تُريد أن تعلم ما هو الحد الذي يُمكن أن تقبل به الثورة الفلسطينية كبديل عن الكفاح المسلح.
لقد جاء فيشر بحسب عدوان ليقول للقيادة الفلسطينية آنذاك: "أنتم أيها الفلسطينيون تحيرون، في خيارتكم الحدية. لماذا تحشرون أنفسكم بين خيارين، فقط الثورة الشاملة Total Revolution، أو الاستسلام الكامل Total Surrender، بالتأكيد هناك خيارات أخرى كثيرة غير هذين الخيارين، يمكنكم بينهما أن تجدوا بدائل متعددة، لا تجعلكم تستلمون، ولا تجعلكم تنتحرون بالثورة".
يؤكد كمال عدوان، وهنا لب الحديث، أن بعثة فيشر جاءت من أجل إخراج العقل الفلسطيني من إطار الثورة، إلى إطار مربع البدائل، وأمام مشهد تعدد البدائل سيكون لكل مجموعة فلسطينية طموح وتصور ورأي، ويؤكد أيضاً عدوان، أن بسبب هذه البدائل يتفتت الموقف الفلسطيني، ويتحقق للذين خلف فيشر طموحهم في خروج الإنسان الفلسطيني من إطار الثورة، ويطرح عدوان تساؤل مهم في هذا السياق، يقول السؤال: هل حقيقة سيذهب الاحتلال، وينتهي بالتفاهم معه؟
في سياق مربع البدائل الذي يتحدث عنه الشهيد كمال عدوان، انقسمت القيادة الفلسطينية إلى قسمين، أحد تلك الأقسام هي القيادة التي خرجت بالفعل من مربع الثورة، ووقعت في مربع البدائل "الحلول الدبلوماسية"، وأما القسم الثاني كان القيادة التي مارست "الكفاح المسلح" كخيار استراتيجي في انهاء حالة الاستعمار عن أرض فلسطين، وما بين الاثنين، ومنذ زيارة روجر فيشر بالحد الأدنى، ما زال الشارع الفلسطيني يعيش أمام صورتين، فالصورة الأولى هي مشهد القائد الذي يبحث الجهود السياسية ذات البعد الناعم، والصورة الثانية هي صورة القائد الذي يرفع لواء المقاومة، وما بين الصورتين يعيش المشهد الفلسطيني بين التقاء عنف الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، وما بين الجمود السياسي، ولكن يبقى السؤال هنا: هل التقاء صورة العنف من طرف الاحتلال، وحالة والجمود السياسي لهم دور في صناعة القائد الفلسطيني؟
في سياق الإجابة، إن الصراع المندلع ما بين المشهدين يؤكد على مدار التاريخ الفلسطيني أن القائد الفلسطيني لم يجعل أي واحدة من الصور تعيش مأزق الفراغ، فمنذ الدخول في المشروع السياسي يتبنى الكثير من القيادات الفلسطينية هذا المشروع ولم يتوقف يوماً منذ انطلاقة حتى أصبح أقصى طموح القائد الفلسطيني هو البدائل، وتحويل العمل السياسي إلى الهدف بحد ذاته، وأما على صعيد مشروع المقاومة، يتبنى الكثير من القيادات الفلسطينية هذا النهج، واعتبار المقاومة هدفاً لتحقيق الإنجاز السياسي المتمثل في الدولة الفلسطينية على كامل التراب الفلسطيني، ولكن السؤال هنا، ومن جديد، ولكن بصورة مختلفة: هل التقاء صورة عنف الاحتلال الممنهج، والجمود السياسي، والتي أدت للظهور القائد الفلسطيني، قادرة من جديد أن تقوم على إظهار قيادة جديدة، وهنا خصوصاً نتحدث عن قيادة المقاومة التي تم اغتيالها ما بعد طوفان الأقصى؟
السؤال هنا برسم الإجابة، حيثُ عنف الاحتلال الممنهج على الشعب الفلسطيني، وحالة التعنت والجمود السياسي، أو مربع البدائل الذي تحدث عنه الشهيد/ القائد كمال عدوان، قد ساعدت حتماً في خلق قيادة فلسطينية تمكنت من القاء الحجارة في المياه الراكدة، وهي ذات القيادة التي وقعت تحت عنف الاحتلال، وعايشت حالة الجمود الدبلوماسي، وتمكنت من القيام بعملية "طوفان الأقصى"، وهي ذاتها التي تم اغتاليها بسبب هذه العملية، ولذلك إن التقاء حالة العنف الممنهج، والجمود السياسي هي ذاتها التي أدت إلى ظهور قائد كالسنوار، ونصر الله، وإسماعيل هنية، وفؤاد شكر...، ومن قبلهم أبو علي مصطفى، وفتحي الشقاقي، والرنتيسي، واحمد ياسين، وخليل الوزير، وكمال عدوان، وغسان كنفاني.
أخيراً وليس أخراً، لدى الاحتلال طموحات أكبر من تصفية القيادة، وهذا هو المأزق الذي يعيش فيه الكثير من القيادات الفلسطينيةالتي تعتقد أن الأمر مرتبط فقط في التصفية الجسدية، وبسبب هذا المأزق يعيشون داخل صندوق البدائل، ومن جديد لدى الاحتلال أحلام تتجاوز اغتيال قائد هنا، واغتيال قائد هناك، والأهم في ظل استمرار حالة الصراع، وممارسة العنف البنيوي الممنهج على الشعب الفلسطيني من طرف الاحتلال، وصناعة حالة الجمود السياسي المقصودة حتماً، ستؤدي إلى ظهور قيادة جديدة من المقاومة الفلسطينية، وهذا هو درس التاريخ الذي لا مفر منه.