بعد الضربات الأخيرة التي تلقاها حزب الله، وخصوصًا اغتيال أمينه العام السيد نصر الله، وجزء مهم من قادته العسكريين، وعملية "البيجر"، واغتيال قادة كتيبة الرضوان، وأيضًا بعد أن نشر الإعلام العبري زيارة ما يُمسى وزير جيش الحرب "غالانت" لمنطقة جبهة الشمال في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2024، وما سبقها من زيارات أيضاً في إطار الحرب النفسية، بالإضافة إلى إدخال الصحفيين "الإسرائيليين" لمنطقة عمليات الشمال، من أجل لمحاولة الترويج لصورة نصر من خلال الشاشات "الإسرائيلية"، وأكثر الترويج لنجاح العملية البرية في جنوب لبنان؛ يتمكن حزب الله من توجيه ضربة تهز المؤسسة العسكرية والسياسية للكيان الصهيوني، وتأتي هذه الضربة لتُثبت أن حزب الله ما زال قادرًا على الضرب في العمق الصهيوني وبقوة كبيرة جدًا، ونوعية، بعد مرور عام من القتال.
هذه العملية تأتي في توقيت حساس على صعيد المعركة، فالاحتلال في الأسابيع الأخيرة على مستوى معركة الشمال يعيش حالة من نشوة الانتصار، ووسط هذه النشوة كان الاحتلال يتحدث عن تفكيك حزب الله وإضعافه، ولكن هذه العملية جاءت لتؤكد أن قدرات وإمكانيات الحزب على الصعيد الميداني ما زالت بخير، والأهم من جهة أخرة لتُعزز نظرية مدى ضعف الجيش "الإسرائيلي" على صعيد قدرة هذا الجيش على تحقيق أهداف الحرب، وتحديدًا النصر المطلق.
العملية ضربت فرقة "غولاني" وهم يتناولون العشاء بحسب الإعلام العبري جنوب حيفا في منطقة "بنايمن"، وهنا تحمل هذه العملية من حيث نوعها وحجمها رسالة مهمة، وهي أن الحزب لم يضرب أهدافا تحتوي "مدنيين"، وهذه رسالة تؤكد مدى قدرة الحزب رغم كل الضربات على الحفاظ على منظومة الردع، وقواعد الاشتباك، وأحد أهم هذه الرسائل، أن حزب الله قادر على الاستمرار بالمعركة، والتحكم في مجريات الميدان، والقيام بعمليات مركبة ونوعية، وتُصيب أهدافها داخل عمق الكيان، رغم كل تصريحات جيش الاحتلال بضرب منظومة التحكم والسيطرة لحزب الله.
وفي سياق ليس بعيد عما سبق تؤكد هذه العملية أن في جعبة حزب الله الكثير من الإمكانيات لتوجيه ضربات لجيش الاحتلال، والدليل هو وصول الطائرة المسيرة إلى قاعدة الجيش، وعدم قدرة الدفاعات الجوية على اكتشافها، وإسقاطها، وتقول هنا القناة الثانية عشر "العبرية" في تعليقها على العملية: "إن الطائرة المسيرة استطاعت الوصول إلى قاعة الطعام دون إسقاطها"، وفي هذا السياق يبقى السؤال الأهم: إذا كانت قاعدة تابعة لجيش الاحتلال تلقت ضربة نوعية بهذا الشكل، كيف سيكون الوضع الأمني بخصوص المستوطنات، ومدن الكيان؟
في سياق السؤال الأخير، تُطرح هنا أسئلة عديدة، وأهمها، ماذا لو كان نموذج هذه العملية يجري بشكلٍ مستمر داخل الكيان؟، وخصوصًا أمام مشهد أن الطائرة المسيرة قطعت ما يُقارب 70 كيلو ولم يتم اكتشافها ووصلت الهدف، بالإضافة إلى أن الإعلام العبري يتحدث على أن مثل هذه الطائرات تستطيع الوصول إلى مدى 250 كيلو، وأكثر أن العملية أصابت ذرة التاج لقوة النخبة وهي فرقة "غولاني"، وأربكت المستوى العسكري والسياسي في "إسرائيل"، والأهم ما قالته إذاعة جيش الاحتلال، أن حزب الله تمكن من خداع المنظومة الجوية، وفي سياق الخداع، يؤكد بيان جيش الاحتلال، أن الدفاعات الجوية رصدت الطائرة المسيرة، ولكنها اختفت بعد لحظات، وهذا التبرير يحمل في طياته الاعتراف بأن مسيرات حزب الله قادرة على اختراق منظومة الدفاع الجوية لجيش الاحتلال، أكثر مما يُثبت أن الجيش لديه منظومات قادرة على ردع مثل هذه المسيرات.
وبالعودة إلى سؤال تكرار العمليات، يمكن هنا القول إن عملية واحدة استطاعت أن تجعل الاحتلال يبدأ بالصراخ بشكلٍ هستيري، حتى وصل الأمر إلى درجة مطالبة وسائل الإعلام "الإسرائيلية" بحرق بيروت ردًا على العملية، والقصد هنا أن تكرار نموذج هذه العملية بهذا الحجم والنوع، والدقة، سيؤدي بطبيعة الحال إلى إدخال المنظومة الأمنية "الإسرائيلية" في حالة شديدة من الإرباك، وبطبيعة الحال ستؤثر مثل هذه العمليات على مجريات المعركة في شمال فلسطين المحتلة، إذا لم يكن على عموم الحرب الدائرة في المنطقة لصالح المقاومة.
أخيرًا وليس أخرًا، عملية واحدة كشفت مدى هشاشة رواية جيش الاحتلال التي حاول مؤخرًا تصديرها، وأكثر أكدت أن منظومة الأمن التابعة لجيش الاحتلال هي أوهن من بيت العنكبوت، بالإضافة إلى أنها أكدت ميدانيًا أن عمليات الاغتيال التي تحدثنا عنها في سياق هذا النص لم تؤثر على مجريات المعركة، حيثُ أن العملية جاءت في ظل غياب جزء من القادة العسكريين لحزب الله الذين تم اغتيالهم في سياق معركة "طوفان الأقصى"، وأيضًا غياب الأمين لحزب الله السيد نصر الله والذي تم اغتياله بسبب مواقفه الرصينة والثابتة تجاه مجريات هذه الحرب، بل على العكس تؤكد هذه العملية أن منظومة التحكم والسيطرة للحزب ما زالت فاعلة وقوية، وتؤكد هذه العملية أن حزب الله رغم كل الضربات ما زال يُمارس قواعد الوفاء لغزة رغم الثمن الذي يقوم بدفعه، وهذه التأكيدات هي بمثابة ضربة نفسية قاصمة للعمود الفقري لسياسة نتنياهو تحديدًا التي حاول الترويج لها في سياق هذه الحرب.