شبكة قدس الإخبارية

الانسحاب من خان يونس: السياقات والفشل الميداني

الانسحاب من خان يونس: السياقات والفشل الميداني
أحمد الطناني

بعد ستة أشهر من الغزو البري، أعلنت إذاعة جيش الاحتلال، الأحد 7 نيسان/أبريل، بأنه "للمرة الأولى منذ بداية المناورة البرية في غزة، غادرت جميع القوات الإسرائيلية قطاع غزة، إذ خرجت الفرقة "98" بألويتها الثلاثة من خان يونس بعد انتهاء العملية هناك بعد قتال دام أربعة أشهر"، وبذلك لم يتبقَّ سوى لواء "ناحال" الذي يفصل جنوبي قطاع غزة عن شماليه.

إن الانسحابَ، الذي أعلِن دون أي تمهيد سابق لا من متحدثين ولا من قادة عسكريين ولا من أعضاء في المستوى السياسي في دولة الاحتلال، فَتحَ البابَ أمام تساؤلات عدة حول السياقات والملابسات التي دفعت إلى اتخاذ مثل هذا القرار وبهذا الشكل، فيما شكَّل توقيتُه دافعًا مضاعَفًا لطرح التساؤلات ذاتها حول السياقات، مع فتح الأبواب مشرعةً على ما تحمله الفترة القادمة من مآلات يُشكِّل هذا القرارُ جزءًا رئيسيًّا منها.

السياقات التي رافقت عملية الانسحاب

إن الانسحاب المفاجئ من محافظة خان يونس، وسحب الفرقة الأخيرة التي كانت تعمل على الأرض، والإبقاء فقط على لواء "الناحال" الذي ينشط في قطاع غزة لتأمين المنطقة الفاصلة بين شمالي القطاع وجنوبيه، علمًا بأن عدد الألوية التي نشطت في غزة في ذروة المناورة البرية وصل إلى أكثر من عشرين لواءً، وفقًا لتقرير لصحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية، دَفعَ إلى تقدير الحيثيات والسياقات التي جاء في إطارها هذا القرار، والتي نلخص أهمها في التالي:

  • تصاعد وتيرة الانتقادات والضغوطات الدولية ضد دولة الاحتلال: إذ وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، حتى من دول حليفة للاحتلال، على خلفية الانتهاكات المستمرة وحرب الإبادة والمجازر والعمليات العدوانية الواسعة في قطاع غزة.
  • ارتفاع وتيرة الضغط الأمريكي الكبير وتصاعُده تدريجيًّا: وتقع في صلبه المطالبة بخفض وتيرة العمليات، وصولًا إلى العمل بنمط عمليات المرحلة الثالثة الذي شاركت الولايات المتحدة مشاركةً مباشرةً في صياغتها عبر نقل العمليات الواسعة إلى علميات مركَّزة ومحدَّدة، وقد جاء هذا القرار بعد مكالمة متوترة بين الرئيس الأمريكي، "جو بايدن"، ورئيس وزراء الاحتلال، "بنيامين نتنياهو"، تخلله طلب أمريكي واضح بضرورة وجود تغييرات جدية على الأرض، بما يشمل خفض وتيرة العمليات والسماح بدخول المساعدات، وصولًا إلى زيادة تفويض الوفد المفاوض للوصول إلى اتفاق تهدئة.
  • حالة الاستنزاف الكبيرة التي يعاني منها جيش الاحتلال وجنوده: خصوصًا بعد أربعة شهور ونصف من العمليات المستمرة في خان يونس تحديدًا، ومضي نصف عام على حرب الإبادة ضد قطاع غزة والمناورة البرية الأكبر للجيش الإسرائيلي في العقد الأخير، ما عزَّز الحاجة لتخفيف هذا الضغط عن قواته التي يُشكِّل بقاؤها على الأرض لفترات طويلة عاملَ خطر يحوِّلها إلى هدف مستمر لضربات المقاومين دون وجود أهداف عملياتية حقيقية على الأرض.
  • تصاعُد احتمالات اشتعال الجبهة الشمالية والحرب الإقليمية: يأتي سحب الفرقة "98" من قطاع غزة في وقت يعزِّز جيش الاحتلال فيه من قواته على الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة، إذ إن عددًا من ألوية النخبة التي سبق وسُحِبت من القطاع باتت تنشط في مناطق الشمال، تجهزًا لاحتمالات توسُّع المواجهة مع "حزب الله"، أو حتى توسُّع المواجهة في الإقليم، خصوصًا بعد استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق والرد الإيراني المتوقَّع عليه.
  • استباق مفاوضات التهدئة الحاسمة: يأتي قرار الحسم قبيل جولة المفاوضات التي انطلقت في القاهرة، والتي يُعوَّل بأنها ستكون جولة حاسمة لمستقبل المواجهة في قطاع غزة على الأقل في المدى القصير القادم، خصوصًا مع ضغط أمريكي كبير للوصول إلى اتفاق والحراك الكبير للوسطاء لجسر الهوة.

تتداخل السياقات، لكن المحسوم في المشهد أن العمليات العدوانية في قطاع غزة باتت تنتقل تدريجيًّا إلى دوامة العمليات الروتينية التي تَستَنزِف كلَّ الأطراف دون وجود أفق حقيقي لتحقيق نتائج ملموسة أو الاقتراب من تحقيق أيٍّ من أهداف الاحتلال من الحرب، خصوصًا وأنها أهداف فضفاضة لا يمكن قياسها، وسط خلاف متصاعد بين المستويين السياسي والعسكري، فيما لا يمكن إغفال السياق المرتبط بوتيرة المفاوضات وشروط المقاومة المرتبطة بالانسحاب من أراضي القطاع، وسعي الاحتلال إلى ألَّا يَمنح هذا الأمرَ كإنجاز للمقاومة انتزعته في المفاوضات، بل تصويره في إطار الخطط العملياتية لجيش الاحتلال والانتقال بين المراحل.

المرحلة الثالثة وإفلاس بنك الاهداف

وفقًا لتصريحات قادة في جيش الاحتلال وتقارير عبرية متعددة، يعني الانسحابُ الحاليُّ من خان يونس انتقالَ كل العمليات البرية إلى نمط عمليات المرحلة الثالثة؛ أي سحب التواجد العسكري المباشر من الأماكن الحضرية إلى مواقع تمركُزٍ خارج المناطق المأهولة وفي محيط الشريط الفاصل بين قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.

جاء الانسحاب من خان يونس بعد أربعة شهور ونصف من العمليات العسكرية المعمقة داخل المحافظة، التي روج قادة الاحتلال كثيرًا لكونها مركز قيادة رئيسي للمقاومة ومكان تمركُز جزء أساسي من قادتها، إضافةً إلى التقديرات بوجود جزء من أسرى الاحتلال في المحافظة المستهدَفة. تعمَّق الجيش بما يكفي في أحياء المحافظة، من شرقيها إلى غربيها، وعلى مدار العملية في خان يونس لم تتوقف العمليات القتالية ولا ضربات المقاومة النوعية التي كبَّدت جيش الاحتلال خسائر كبيرة في الأرواح والآليات.

لم يتوانَ الاحتلال عن استخدام كل أنواع الإجرام والتدمير التي طالت غالبيةَ المباني والبنية التحتية في خان يونس، بما يشمل مسح أحياء كاملة عن وجه الأرض، وتدمير المشافي والمقدرات الحكومية والبلدية، وقد نفَّذ في خلال العملية العسكرية في المحافظة عددًا من العمليات الخاصة والمباغِتة، كان أبرزها ما استهدف مستشفى ناصر الطبي، وحي "مدينة حمد السكني"، إضافةً إلى عمليتَي إغارة على منطقة مواصي خان يونس على الشريط الساحلي للمحافظة، وسط تعويل متعدد على إمكانية انتزاع صورة نصر طالت كثيرًا أو نجاحه في الوصول إلى قادة المقاومة أو أيًّا من الأسرى.

حتى اللحظات الأخيرة من العملية العسكرية فيها، استمرت أجهزة الأمن والاستخبارات الصهيونية في التقدير المحسوم بوجود قادة الصف الأول للمقاومة في القطاع في خان يونس، إلا أن كل عمليات الجيش المعمقة في المحافظة لم تفلح في الوصول إليهم، على الرغم من الادعاءات المتكررة بنجاح الجيش في الوصول إلى أنفاق وغرف قيادة استخدمتها قيادة المقاومة، ما كان يأتي ضمن الحرب النفسية ضد المقاومة، وتقديم خطاب دعائي لجبهة الاحتلال الداخلية بوجود أفق لتحقيق إنجازات فعلية.

لقد دفع الاستنزافُ المستمرُّ لجيش الاحتلال وآلياته، وبقاؤه على الأرض دون بنك أهداف فعلي، وسط ضربات مستمرة من المقاومة، جيشَ الاحتلال إلى تفضيل الانتقال إلى عمليات المرحلة الثالثة، وسحب القوات من داخل المدينة وأحيائها، والسعي إلى تثبيت نمط عمليات الإغارة حسب الحاجة في حال توفرت معلومات استخباراتية "ذهبية".

الميدان الحاسم الأبرز

كانت أربعة شهور ونصف كافيةً ليحسم جيش الاحتلال النتيجة حول عجز بنك أهدافه وإفلاسه عن إمكانية تحقيق نتائج ميدانية فعلية، على الرغم من حجم التعويل الكبير على كون عملية خان يونس مفصليةً في الضغط على المقاومة لانتزاع تنازلات جوهرية في عملية التفاوض، إلا أن هذا الإفلاس قَلبَ السحرَ على الساحر وحوَّل فشل عملية خان يونس إلى محفِّز للمقاومة للمزيد من الصمود والتمترس حول مطالبها، وسط تحوُّل نوعي في الميزان التفاوضي لصالح المقاومة.

ميدانيًّا، حوَّلت المقاومةُ كلَّ ساعةٍ من بقاء قوات الاحتلال عل الأرض إلى معادلات مستمرة من الاستنزاف لتلك القوات وآلياتها، واللافت تمكُّن المقاومة من توجيه ضربات نوعية في مواضع التقدم والتعمق التي يعمل فيها جيش الاحتلال منذ اليوم الأول للعملية العسكرية في خان يونس، مثل النجاح في توجيه ضربات وكمائن في مناطق عبسان والقرارة وشارع 5، إلا أن الضربة الأبرز والأكثر نوعية من حيث حجمها ومكانها وتوقيتها كانت "كمين الزنة" الذي حَسمَت فيه المقاومةُ كلَّ ادعاءات الاحتلال بتفكيك البنية التحتية للمقاومة في خان يونس وتفكيك ألوية المقاومة الناشطة فيها، إذ إن منطقة الزنة منطقة حدودية مسحها الاحتلال عن وجه الأرض، وتفصلها مسافات كبيرة جدًّا عن أية منطقة مأهولة وفيها حركة سكان، ويعكس نجاحُ المقاومةِ في تنفيذ كمين محكم تلته مهاجمة قوات الإسناد، وسط مواكبة إعلامية لحظة للعملية، تلاها نشر لتصويرها، دلالاتٍ مهمةً بشأن سلامة خطوط الاتصال وتواصُل غرف القيادة والسيطرة وإدارة العمليات مع الميدان، حتى في أكثر المناطق صعوبة وملاصقة للحدود.

كخلاصة.. من الواضح أن الحرب العدوانية على القطاع تدخل منعطفًا جديدًا، جوهره الرئيس استمرار بحث الاحتلال عن صورة الإنجاز، وسط سعي جيشه إلى خفض استنزافه في الميدان وسط المماطلة الواضحة من المستوى السياسي -ومن "نتنياهو" تحديدًا- في حسم مصير الحرب التي بات واضحًا، بعد نصف عام من العمليات العداونية غير المسبوقة، أنه لا أفق لتحقيق أي جزء من أهدافها الطموحة، لا على صعيد تفكيك قدرات المقاومة والقضاء عليها، ولا حتى على صعيد تجاوز نظام الحكم القائم، وبالتأكيد عدم تحرير الأسرى بالقوة.

جولاتُ المفاوضات الحالية جولاتٌ حاسمة، فإما أن تنجح في الوصول إلى نتيجة فعلية واتفاق على مراحل من الهدوء والتبادل قد تتطور إلى مسار جدي لإنهاء العدوان، أو الدخول في نفق طويل من العمليات الروتينية لجيش الاحتلال والتصدي المستمر من المقاومة، إلى أن يحدث ما يغيِّر المعادلة ويدفع إلى إنهاء الحرب التي باتت ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمستقبل "نتنياهو" السياسي لا بأهداف عملياتية حقيقية على الأرض.