بينما يستعد العالم للاحتفالات بمناسبة رأس السنة، لا زال الشعب الفلسطيني في قطاع غزة يتعرّض لأبشع حرب إبادة وسط تواطؤ دولي غير مسبوق، وبمشاركة أمريكية- بريطانية- فرنسية مباشرة، وسط تعرّض 365 كلم للكمية الأكثر كثافة من المتفجرات بمختلف الأنواع والأحجام على بقعة بهذا الحجم.
شكّلت الحرب العدوانية على قطاع غزة الحدث الأبرز في عامٍ ازدحمت فيه الأحداث خصوصاً على صعيد القضية الفلسطينية، شمل خلالها 365 يوماً من الاعتداءات الصهيونية المستمرة على الشعب الفلسطيني، كان لاعبها الرئيسي الحكومة الفاشية للاحتلال بقيادة بنيامين نتنياهو وشراكةً مع زعماء الصهيونية الدينية: إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموترتيش، ملتحقاً بهم في ما بعد ضمن مجلس الحرب كلا من الجنرالات أيزنكوت وغانتس.
ثلاثة أشهر من عدوان لم يتوقف بعد..
خلال ما يقارب الـ85 يوماً من الحرب المستمرة ضد القطاع المُحاصر، دمر الاحتلال أكثر من %60 من المساكن والمنشآت داخل القطاع، وأصاب وقتل أكثر من 100 ألف، شكّل الأطفال النسبة الأكبر بينهم، في ما لم يتوانَ عن تجويع وتشريد أكثر من 2 مليون فلسطيني من بقعة إلى أخرى داخل القطاع، وفصل شماله عن جنوبه، ومن ثم جنوبه عن وسطه، وتدمير ممنهج لكل مقومات الحياة والبنية التحتية وإغراق القطاع بأزمات تحتاج لعشرات السنين للخروج منها.
85 يوماً من الحرب الاقتلاعية والتصفوية الهادفة إلى تحويل قطاع غزة من سجن جماعي إلى مقبرة جماعية، هدفها الرئيسي القضاء على المقاومة وتصفيتها، والقضاء على حاضنتها الشعبية، قطاع غزة المقاوم، فالاحتلال لا يستهدف المقاومين حصرا، بل يستهدف كل القطاع في أكبر عملية عقاب جماعي شهدتها العقود الأخيرة، لمجتمع يعاديه قادة الاحتلال منذ احتلال فلسطين.
85 يوماً ولم تتوقف المقاومة أو تتراجع، بل أعطت فيها دروساً للعالم أجمع في الصمود، والقتال بلا تراجع، في عقيدة القتال حتى الموت، وتكتيكات حروب الاستنزاف، وكيف يمكن تحويل بقعة محاصرة ومراقبة على مدار الساحة، بلا عمق جغرافي ولا تضاريس ولا إمكانيات ولا خطوط إمداد، إلى بقعة عمليات من الأصعب في العالم، يغرق فيها الجيش الأعلى تدريباً في المنطقة، وتنسحب وحدات نخبته بعد سحقها أمام عزيمة ومتانة المقاوم الفلسطيني، بينما لم تتوقف رشقات الصواريخ يوماً واحداً منطلقة من شمال القطاع ووسطه وجنوبه، مستهدفة كل بقعة من الأراضي المحتلة.
“طوفان الأقصى”: ما وجب قد كان
لم يكن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر حدثاً منفصلا، وإن كان الإعداد له ليس وليد يوم أو أسابيع وأشهر أو حتى عام، بل أعوام من العمل والإعداد والتخطيط والخداع الاستراتيجي، إلا أنّ القرار الكبير بإطلاق “الطوفان” انطلق من سياق أساسي، وهو حماية القضية الفلسطينية وملفاتها الكبرى من التصفية التي عملت عليها حكومة “الحسم” الصهيونية.
خطوات تصعيدية لم تتوقف دشنتها حكومات الاحتلال على مدار أعوام، ورفعت وتيرتها بشكل كبير جداً حكومة اليمين الفاشي الحالية في الكيان الصهيوني، وصلت حد التهويد غير المسبوق للمدينة المقدسة، وتوسيع ابتلاع الاستيطان للأراضي الفلسطينية، وجرائم يومية ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية، وحصار مطبق على قطاع غزة، وإطلاق يد عصابات المستوطنين لحرق وقتل وتهجير الآمنين في قرى ومدن الضفة، وسط صمت وتواطؤ دولي عن حكومة تدعو علانية لتصفية القضية الفلسطينية، ومسح قرى فلسطينية بأكلمها عن الخارطة، واستعادة خطاب الترانسفير والتهجير، كل هذا إلى جانب استمرار سياسات القتل البطيء للآلاف من الأسرى، بل وحتى محاولة تمرير قانون إعدام الأسرى لتسريع عملية التصفية الجسدية لمناضلي الشعب الفلسطيني.
لم يكن أمام المقاومة سبيل إن لم تضرب ضربتها الكبرى لصميم المشروع الصهيوني في هذا التوقيت الأكثر حساسية، خصوصاً وسط التجاهل الدولي المستمر للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، والتواطؤ العربي الرسمي، الذي تخللته هرولة دول عربية كبرى للالتحاق بقطار التطبيع ومحاربة كل الأصوات الوطنية وتقليص هوامش حتى التضامن مع الشعب الفلسطيني. لحظة تاريخية أعد الاحتلال فيها لتوجيه ضربة هدفها الإجهاز على المقاومة لتهيئة الأجواء لمخططات الحسم والتصفية للقضية الفلسطينية، وهو ما شكّل ساعة الصفر للطوفان، والدفاع الفدائي عن الحقّ الفلسطيني في الحرية والاستقلال، وإجبار العالم أجمع على الاستماع للصوت الفلسطيني، وعودة الزخم للقضية الفلسطينية، ناهيك عن إطلاق سراح الآلاف من الأسرى القابعين في السجون من عشرات السنين ويقضون أحكاماً بالمؤبدات في أسوأ الظروف وأصعبها.
حقّق “طوفان الأقصى” النصر -بالمعنى الاستراتيجي- منذ نجاح الضربة الكبرى للمقاومة في السابع من أكتوبر، وتهشيم كل أساطير الجيش الذي لا يُقهر، وكشف هشاشة الاحتلال أمام عزيمة المقاوم الفلسطيني، وتبديد أوهام بعض الأنظمة حول كون التحالف مع الاحتلال يحقّق لها أمناً زائفاً في وجه عداوات مصطنعة لإغراق المنطقة العربية بالأزمات. فمن كان يبحث عن أمنه بالتحالف مع الاحتلال أيقن تماماً أنّ بيت العنكبوت عاجز عن حماية نفسه أمام عزيمة مقاومي قطاع غزة، فما بالك في المعادلات الأكبر بالمنطقة.
أعادت “طوفان الأقصى” للقضية الفلسطينية زخمها، وأعادتها لصدارة كل المحافل الدولية، وبالرغم من حجم العدوان الإجرامي بحقّ قطاع غزة ومقاومته، واتفاق الإمبريالية العالمية على ضرورة تصفية المقاومة الفلسطينية وتسخير كل القدرات للقضاء على من مسّ قاعدتهم المتقدّمة في الشرق الأوسط في جوهرها ودشّن مرحلة الخطر الوجودي الحقيقي على المشروع الصهيوني، إلا أنّ الصمود الأسطوري لأهالي القطاع ومقاومته سيكللون ما تحقّق في السابع من أكتوبر، بنصر حاول الاحتلال جاهداً دفنه تحت أطنان الأنقاض في غزة في محاولة بائسة للهروب من مصير محتوم دشّنته معركة طوفان الأقصى.
اليوم التالي للحرب
منذ بدأ الاحتلال حربه الإجرامية ضد قطاع غزة، تشتعل الأوساط السياسية في العالم والإقليم للمسارعة في بحث سيناريوهات اليوم التالي للحرب في قطاع غزة، وسط أطروحات بدأت طموحة بالتفكير الأمريكي- الإسرائيلي والرسمي العربي في إزاحة المقاومة من المشهد الفلسطيني بشكل نهائي، وإعادة هندسة قيادة فلسطينية جديدة تتلاءم مع مقاييس يحددها الاحتلال لإدارة شؤون “السكان الفلسطينيين”.
شكّل الصمود الكبير لأهالي القطاع، والقتال الباسل لمقاومته على مدار ما يقارب الثلاثة أشهر دون أية ملامح تقهقر أو هزيمة، وفشل رهانات الاحتلال على انهيار كبير للمقاومة أو هزيمة سريعة لتشكيلاتها الرئيسية، وفشل رهانات حلفاء الاحتلال على قوة حليفهم وقدراته العسكرية والاستخباراتية التي أسندوها بمشاركة مباشرة في تحقيق أي نتيجة تُذكر، العوامل الأهم تمثّل بتراجع كبير في الطموحات الواهمة لهذه الأطروحات الخيالية عن إمكانية فرض قيادة على الشعب الفلسطيني تحملها دبابات الاحتلال وتتقدّم على أنقاض البيوت المدمرة وجثامين آلاف الشهداء.
في الواقع، انكسر الموقف الهادف لهندسة اليوم التالي للحرب وفق المقاييس الأمريكية- الإسرائيلية، حتى وصلت الرسائل الضمنية إلى القبول بواقع أنّ المقاومة ستبقى حاضرة وموجودة، ولا يمكن لأي مشهد قادم أن يتشكّل بدونها وبدون موافقتها، ولن يحكم الشعب الفلسطيني إلا من تتوافق عليه قواه، وينتخبه ويقبله الشعب، وأنّ الإرادة الفلسطينية ليست رهينة بيد الإدارة الأمريكية، ولا وكيلها الإسرائيلي، وليست ملف تقرر فيه الأنظمة العربية، بل الشعب الفلسطيني وقواه هم أصحاب القرار الأول والأخير، وهو ما باتت تتضمنه الأوراق الحالية التي يقدّمها الوسطاء للمقاومة للوصول لأرضية قد تُشكّل بداية النهاية للحرب.
لكنّ السؤال الأهم الذي لا يطرحه أحد: ما هي سيناريوهات اليوم التالي للحرب في كيان الاحتلال، الذي غرق جيشه في وحل قطاع غزة، وتتسع الخلافات في مجلس الحرب فيه، وائتلافه اليميني الحاكم يقف على قشة؟، وأي نهاية للحرب ستكون نهاية لهذا الائتلاف، لأنّ أي صيغة تنتهي بها الحرب لن تكون مُرضية لزعماء اليمين الصهيوني الباحثين عن تصفية كاملة للقضية الفلسطينية وتهجير أهالي القطاع وعودة الاستيطان لأراضيه؟.
اليوم التالي في كيان الاحتلال هو دوامة من الأزمات التي لا تنتهي، بدءاً من الاقتراب من الانهيار الإقتصادي، وتراكمات الحرب وأثرها على صورة “جيش الشعب” في عقلية الجمهور الصهيوني، وليس انتهاءً بالتأثير الاستراتيجي على معادلات الردع والأمن والتفوق الاستخباراتي للكيان، إضافة لتدشين عهد تكون فيه “إسرائيل” محدودة القدرة عسكرياً وغير قادرة على حسم أي معركة مع خصومها الذين تتنامى قدراتهم يوماً بعد يوم، في ما يُشكّل مستقبل نتنياهو وتمسّكه بالحكم حد المخاطرة بضرب كل مقومات تماسك مؤسسات الكيان مقابل ضمان استمراره في قيادة حكومات الاحتلال والتربع على عرش السياسية الإسرائيلية.
ستنتهي الحرب بلا شك، ولكن ما بعد “طوفان الأقصى” لن يكون كما قبله، لا على الصعيد الفلسطيني، ولا على صورة الكيان المأزوم، واليوم التالي للحرب، سيكون بداية عهد جديد يستعيد فيه شعبنا الفلسطيني عافيته ويرمم جراحه ويعيد الزخم لمشروعه الوطني، في ما سيكون بداية عهد جديد من الأزمات في كيان الاحتلال، ستزيد وتتسع كلما طال أمد الحرب، وهي أزمات ذات أبعاد آنية، وتأثيرات استراتيجية تحمل في طياتها بداية عهد الانهيار، وملاحقة كابوس العقد الثامن لقادة الاحتلال.