منذ أسابيع، تشهد المنطقة المتاخمة لخط التماس مع الاحتلال على الحدود الشرقية لقطاع غزة، تحركات لشبان تخللها مواجهات مع نقاط جيش الاحتلال وإشعال للإطارات المطاطية واستخدام أدوات ووسائل المقاومة الشعبية، في مشهد بدأ بتحريك مخيّمات العودة وصولاً لإعلان الهيئة العليا لمسيرات العودة إعادة تأهيل المخيّمات رسمياً بعد أكثر من 3 سنوات على إيقافها.
بالرغم من أنّ بيان الهيئة المقتضب حول إعادة تأهيل المخيّمات لم يحمل أي إشارات توضّح شكل التحرك المفترض أو الخطوة القادمة بعد تأهيل المخيّمات، إلا أنّ الإعلان والتحرك على الأرض بحد ذاتهما هما الرسالة الأوضح بأنّ ورقة مسيرات العودة باتت على الطاولة من جديد وأنّ هدوء حدود القطاع لن يدوم طويلا.
مسيرة لم تكتمل
شكّلت مسيرات العودة عنوان إجماع وزخم كبير حين انطلقت في 30 من آذار/ مارس 2018، عبر مسيرات متوجهة نحو السياج الفاصل بين القطاع والأراضي المحتلة، تلبية لدعوة وجّهتها الفصائل الفلسطينية وشخصيات ومؤسسات بمناسبة الذكرى الـ42 ليوم الأرض، واستمرت على مدار واحدٍ وعشرين شهراً في خمس نقاط حدودية تمّ تعريفها بمخيّمات العودة الخمس.
إلا أنّ العديد من الملاحظات برزت خلال عامين من التظاهر المستمر، سرعان ما حوّلت المسيرات إلى مادة للتجاذب في المجتمع الفلسطيني بقطاع غزة وخارجه، وفتحت نقاشاً واسعاً لتقييم تطورات وتفاعلات فعاليات المسيرة وفاتورة الدماء الكبيرة التي تكبّدها القطاع.
استُشهد خلال هذه الأشهر، بقمع الاحتلال فعاليات التظاهر الحدودية، نحو 215 فلسطينيا، وأُصيب نحو 19 ألفاً آخرين برصاص وقنابل الاحتلال، تعرّض العشرات منهم لبترٍ في أطرافهم جراء استهدافهم بالرصاص الحيّ والمتفجر.
هذه الفاتورة الكبيرة كان وقعها هائلاً على القطاع، إذ انبرت النخب فيه إلى نقاش جدوى طرح عنوان “كسر الحصار” دون آليات واضحة واتفاق وطني على شكل هذا “الكسر” وحدوده العليا والدنيا، وهو ما حوّل ملف “التسهيلات” التي توصلت إليها حركة حماس مع الوسيطين المصري والقطري إلى عنوان خلافي، إذ شملت التفاهمات في حينها العديد من التسهيلات الحياتية أبرزها تسهيلات في معبر رفح والمنحة القطرية للموظفين والعائلات الفقيرة، إضافة إلى ترتيبات لدخول عمال من قطاع غزة للعمل في الأراضي المحتلة.
شكّلت التسهيلات وربط التصعيد وخفض وتيرة الاشتباك بمدى الالتزام بها.. عنواناً خلافياً كبيرا، لم تُجمع عليه حتى الفصائل المنضوية في هيئة مسيرات العودة، في ما مثّل عنوان وحجم وأدوات ووتيرة الاشتباك، وقواعد الاشتباك في التعامل مع دموية وإجرام الاحتلال وكيف يجب أن تتعامل المقاومة معها، عناوين تجاذب أدت تدريجياً إلى خبو وتيرة المسيرات وصولاً لإيقافها دون تحقيق نتائج واضحة لكسر الحصار.
رسائل متعددة
يحمل خبر إعادة تأهيل مخيّمات العودة رسائل متعددة مرتبطة بدرجة أساسية بالتراجع المستمر لأوضاع قطاع غزة الاقتصادية وحالة الضغط الكبيرة التي يعاني منها أهالي القطاع بفعل اشتداد الحصار وضيق الأفق اللذين دفعا العديد من شباب القطاع للهجرة بأعداد كبيرة، إضافة لارتفاع معدلات الفقر والبطالة، والتقارير الدولية التي تكشف حجم الضغط النفسي الذي يعاني منه أهالي القطاع الذين بات أكثر من ثلثيهم يعاني من “الاكتئاب”.
تصاعدت الأزمات الحياتية في القطاع بالآونة الأخيرة ارتباطاً بتعمد الاحتلال إلى التنصل تدريجياً من التسهيلات التي أفضت إلى إيقاف المسيرات قبل ما يقارب الثلاث أعوام، إذ أُدخلت عدة تعديلات وتدخلات على شكل وطبيعة المنحة القطرية وطريقة وصولها للقطاع، والفحص في أسماء المستفيدين، وصولاً للحظة التي أصبحت المنحة مجتزأة وغير منتظمة مما ألقت بظلالها على قدرة الجهات الحكومية التي تديرها “حماس” في قطاع غزة على الإيفاء بالتزاماتها، وحتى بالحد الأدنى الحفاظ على ما نسبة ما تصرفه من رواتب موظفيها.
أوضاع القطاع المتردية، والتنصل التدريجي من تفاهمات وتسهيلات مسيرات العودة، وعدم وجود تحرك جدي من الوسطاء لضمان استمرار التسهيلات، بل وجزئياً التراجع حتى من الوسطاء وبشكل خاص القطري عن التزاماته وخضوعه للإملاءات الإسرائيلية بتقنين المنحة وتجزئتها، دفع حركة حماس إلى التلويح بورقة مسيرات العودة من جديد للتأكيد على جديتها في تفعيل كل الأوراق اللازمة لتحصيل ما تمّ تحقيقه من خلال المسيرات، والحفاظ على منجزات تخفيف الحصار.
استثمار أمثل للحظة الراهنة
لم تتحرك حركة حماس، والفصائل في قطاع غزة بملف مسيرات العودة في توقيت عشوائي، بل من تقدير أنّ اللحظة الراهنة هي لحظة مثلى لممارسة الضغط الميداني على الاحتلال، حيث أنّ تفعيل مسيرات العودة سيعني استنفاراً أوسع لجيش الاحتلال، وبالتالي، حشد كتائب جديدة من جيش الاحتلال على حدود القطاع، وهو ما يعني زيادة للاستنزاف الحالي للجيش الواقع في قلب أزمة الاحتلال الداخلية، وتصاعد حالات رفض الخدمة.
تتكامل التحركات على حدود القطاع، مع تحركات مشابهة يخوضها حزب الله منذ أشهر على الحدود مع الأراضي الفلسطينية المحتلة، مفعلاً بهذه التحركات ملف “قرية الغجر” ومزارع شبعا، ومعكراً صفو محاولات الاحتلال فرض وقائع جديدة على الأرض.
يعي كل من حزب الله وحركة حماس أنّ تحركاتهم في هذا التوقيت ستشكّل عاملاً ضاغطاً بشكل كبير على جيش الاحتلال الذي ينشط أكثر من ثلثي قواته النظامية على الأرض في الضفة الغربية، ويعاني من أزمة في قوات الاحتياط، ويعيش حالة من المواجهة غير المُعلنة مع قادة الصهيونية الدينية، وكلها أسباب تؤثر على قدراته العملياتية وكفاءته، وتعطل العديد من برامجه التطويرية ومناوراته التدريبية، وهو ما يجعل هيئة الأركان تدفع باتجاه تجنب زيادة الاحتكاكات الحدودية والوصول لصيغ تفاهم سلمية.
خلط الأوراق
إلى جانب ما سبق، لا يمكن الفصل بين تحريك ملف مسيرات العودة، والتهديدات المستمرة للاحتلال بحقّ قطاع غزة، خصوصاً بعد تصاعد العمليات الفدائية في الضفة الغربية والاتهامات لقيادة المقاومة في القطاع بتحريك جزء أساسي من هذه العمليات.
بكل تأكيد، فإنّ تجهيز الاحتلال لخطط عملياتية للغدر في قطاع غزة وشن عدوان يستهدف قيادة المقاومة لن يبقى على حاله في ضوء معطيات ميدانية جديدة ستشكّلها مسيرات العودة، إلى جانب الاستنفار الكبير لفصائل المقاومة وحالة الاحتياط الأمني غير المسبوقة على أكثر من مستوى.
تحريك ملف مسيرات العودة في هذا التوقيت بالذات خطوة لها ما بعدها، دون التفصيل الواضح للشكل المنوي الوصول إليه بالخطوة القادمة بعد تأهيل المخيّمات، وبغالب التقدير فإنّ المسيرات بشكلها السابق لن تعود بالمنظور القريب، إلا أنّ تفعيل المخيّمات وتأهيلها يفتح الباب واسعاً أمام العديد من أشكال التحرك دون الوصول للمسيرات الكبرى، فقد شهدت فترة مسيرات العودة استحداث العديد من الأدوات الشعبية التي وُصفت بالـ”خشنة” وشكّلت استنزافاً كبيراً لجيش الاحتلال، خصوصاً البالونات الحارقة والإرباك الليلي، ومجموعات الشباب الثائر التي تهاجم دشم وتحصينات الجنود على الحدود وتحرقها.
بالرغم من أنّ مسيرات العودة لم تعد عنواناً للإجماع، إلا أنّ حركة حماس ستعمل على استثمار ورقة التلويح بها، بل وحتى تفعيل بعض أدواتها في تحريك العديد من الملفات المجمّدة وإلقاء صخرة كبيرة في المياه الراكدة للعودة للتسهيلات الإنسانية، وتحقيق أقصى استثمار ممكن للحظة الراهنة وخلط العديد من الأوراق لتحقيق مكاسب تخفف من الأزمة الخانقة في القطاع، وتقيها من احتمالات الانفجار المجتمعي في ضوء عدم قدرتها على تلبية احتياجات الحد الأدنى لسكان القطاع، إضافة لحاجتها لتجاوز العديد من التحديات الأمنية التي تحملها تهديدات الاحتلال.