عرضت وزارة الخارجية الصينية على كلٍ من السلطة الفلسطينية والحكومة الصهيونية أن ترعى مصالحة بين الطرفين، أو إيجاد حل بينهما لقضية الصراع المستحكمة.
جاء العرض مفاجأة لم تكن متوقعة من أحد، ومن دون أيّة إشارة سابقة، لا من جهة الصين، ولا من جهة المعنيين بالعرض الذي أصبح ينتظر جواباً منهما، ولا من الذين يتسقطون الأخبار السريّة لنشرها.
إن أول ما يمكن أن يفسّر هذه المفاجأة، هو استبعاد أن تصدر من وزارة الخارجية الصينية، إن لم يسبقها تمهيد مع الطرفين، لأن عرضها من دون التشاور مع الطرفين، يناقض ما عُرف عن الصين من حذر في طرح سياسات غير مدروسة جيداً، أو التدخل في السياسة الدولية، بما يمكن أن يُعد خرقاً لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، أو اعتباره تدخلاً في الشؤون السياسية التي قد تجر عليها صراعات وتناقضات، خصوصاً مع أمريكا هي في غنى عنها. وتلكم كانت سياستها عموماً.
هذه المبادرة الصينية في الموضوع الفلسطيني تشكل تحدياً لأمريكا، لا يقل خطورة عما مثلته الرعاية الصينية في الموضوع السعودي- الإيراني. وهنا يجب أن يضاف أن أمريكا منذ عشرات السنين تعتبر نفسها الراعية الوحيدة للمفاوضات المتعلقة بالقضية الفلسطينية
على أن إطلاق هذه المبادرة في المرحلة الراهنة، وبالتحديد بعد المفاجأة الكبرى المتمثلة بالرعاية الصينية الناجحة لإطلاق علاقة إيجابية سعودية- إيرانية، يوجب بأن يوضع في إطار السياسة الصينية الجديدة من جهة، وتُعامَل بجدية من جهة أخرى.
إن هذه المبادرة الصينية في الموضوع الفلسطيني تشكل تحدياً لأمريكا، لا يقل خطورة عما مثلته الرعاية الصينية في الموضوع السعودي- الإيراني. وهنا يجب أن يضاف أن أمريكا منذ عشرات السنين تعتبر نفسها الراعية الوحيدة للمفاوضات المتعلقة بالقضية الفلسطينية. لهذا يأتي قبول الكيان الصهيوني، إن حصل، ليكون بمثابة طعنة في الخاصرة، وهو الذي يُعتبر ولاية أمريكية وأعز، كما يأتي قبول السلطة الفلسطينية نوعاً من الخذلان لها.
على أن السؤال الذي قد يهز ما ورد أعلاه: هو لماذا لم تنجز الصين تفاهماً بين الطرفين قبل طرح المبادرة، كما حدث بالتجربة الصينية- الإيرانية- السعودية؟ الأمر الذي يعني أننا أمام إشارات مستنتجة، ولسنا أمام مبادرة متفق على إنجازها، وذلك لأن القرار الصهيوني حتى الآن، ما زال دون القبول بما يقبل به محمود عباس لإنجاز اتفاق.
وهنا يبرز سؤال آخر: هل هناك من تغيّر في سياسة نتنياهو سمح للصين بأن تطرح مبادرتها المعرّضة للفشل السريع؟
إن المتغيّر الذي حدث في حساب موازين القوى (على كل المستويات) مال في غير مصلحة الكيان الصهيوني، ولا سيما التطورات التي حدثت في الضفة الغربية والقدس (المقاومة المسلحة، والإجماع الشعبي المقاوم، ووحدة الساحات، وشلل السلطة) جعل الاحتلال في حكم الساقط، وربما التفكير بانسحاب ما. أي أصبح الانسحاب الجزئي من مناطق في الضفة الغربية أقل خسائر من استمرار الاحتلال، والذهاب بالصراع إلى مستوى المواجهة الشاملة.
هذه المبادرة الصينية في الموضوع الفلسطيني تشكل تحدياً لأمريكا، لا يقل خطورة عما مثلته الرعاية الصينية في الموضوع السعودي- الإيراني. وهنا يجب أن يضاف أن أمريكا منذ عشرات السنين تعتبر نفسها الراعية الوحيدة للمفاوضات المتعلقة بالقضية الفلسطينية
هذا المتغيّر هو وحده الذي يمكن لنتنياهو أن يشجع الصين للتدخل، فضلاً عن تأزم علاقة نتنياهو بالرئيس الأمريكي جو بايدن، والذي وصل إلى حد المقاطعة بينهما، أو امتناع بايدن عن مقابلة نتنياهو بزيارة للولايات المتحدة، مما قد يدفعه إلى لعب الورقة الصينية.
وخلاصة، يجب التعامل مع المبادرة الصينية بجدية، خصوصاً إذا لم تنفجر على قاعدتها، وتمنع من الانطلاق لخطوة ثانية، أي جمع الوفدين الفلسطيني والصهيوني (طبعة جديدة من اتفاقية أوسلو)، مما يتطلب موقفاً فلسطينياً شعبياً ومقاومة وفصائل برفض المبادرة، وعدم السماح بالرهان عليها؛ لأنها تجربة للمجرّب، ولأن الصين ستظل ضمن سقف حلّ الدولتين، واشتراط الحلّ من خلال المفاوضة بين الطرفين؛ ولكنه ظالم بالنسبة إلى الحقوق الفلسطينية، ومثبط بالنسبة إلى المقاومة الناجحة.
فعلى الرغم من الموقف الإيجابي العام من روسيا والصين في صراعهما ضد أمريكا، فإن موقفهما من القضية الفلسطينية يحمل بعض الإيجابية حين يستنكران أو يشجبان ما يرتكبه الكيان الصهيوني من احتلال واستيطان واعتداءات وجرائم. ولكن فيما يتعلق بعلاقاتهما وتعاونهما الاقتصادي والتقني مع الكيان الصهيوني، أو موقفهما من حل القضية الفلسطينية، فيدخلان ضمن السلب والرفض من جانب الشعب الفلسطيني، ولا سيما عند التدخل لاقتراح الحل.
على الرغم من الموقف الإيجابي العام من روسيا والصين في صراعهما ضد أمريكا، فإن موقفهما من القضية الفلسطينية يحمل بعض الإيجابية حين يستنكران أو يشجبان ما يرتكبه الكيان الصهيوني من احتلال واستيطان واعتداءات وجرائم. ولكن فيما يتعلق بعلاقاتهما وتعاونهما الاقتصادي والتقني مع الكيان الصهيوني، أو موقفهما من حل القضية الفلسطينية، فيدخلان ضمن السلب والرفض من جانب الشعب الفلسطيني
إن انقلاب موازين القوى ضد الكيان الصهيوني، وما يعنيه من مأزق وتراجع في الصراع الميداني، يفرضان ألاّ يُسمَح بإلقاء دولاب النجاة له وهو يغرق، كما تفعل المبادرة الصينية في هذه المرحلة. لهذا من الأفضل للصين ألاّ تطرح مثل هذه المبادرة التي تسيء لعلاقاتها بالشعوب العربية والإسلامية، وبالمقاومة الفلسطينية.
وبالمناسبة، كلمة خاصة للصين، لتلاحظ تناقضها مع نفسها، مقارنة بموقفها من وحدة أراضيها، وموقفها من الأراضي الفلسطينية. فهي مصرّة على وحدة أراضيها، بالرغم من تحريرها، وبالرغم من السيطرة الكاملة على الجزء الأكبر منها، وعدم التساهل حتى لهونغ كونغ سابقاً مثلاً، أو عدم التساهل لتايوان بالانفصال عنها، علماً أنها ستبقى صينية، ولا تفقد هويتها الأساسية، ولم يغتصبها مستوطنون غرباء؛ كما هو الحال بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، حيث تتعامل الصين معها على أساس حلّ الدولتين، والطلب من الفلسطيني أن يقبل باغتصاب الجزء الأكبر من أرضه من قبل مستوطنين غرباء جاؤوا تحت حراب الاستعمار، وقاموا بمساعدته باقتلاع ثلثي الشعب الفلسطيني من أرضه، وأحلوا كيانهم ووجودهم مكانه بالقوّة والمجازر، وبمخالفة صريحة للقانون الدولي.
ولهذا فإن الشعب الفلسطيني على حق حين يرفض حلّ الدولتين التصفوي، ويعتبر الكيان الصهيوني غير شرعي من حيث غزوه لفلسطين كمشروع استعماري استيطاني اقتلاعي إحلالي توسعي. وذلك كما يفعل الصينيون في المحافظة على حقهم كاملاً على كامل أرضهم، وهو ما كان عليه موقف ماو تسي تونغ وشو إن لاي، وما تأسست عليه السياسة الخارجية الصينية التي حافظت حتى اليوم على وحدة كل الصين، وعدم السماح بانفصال ذرة تراب أو شبر من الأرض، ولو وصل الأمر إلى الدخول في حرب عالمية