أرادت حكومة الاحتلال التي تسيطر عليها أحزاب "الصهيونية الدينية" تحويل موسم الأعياد اليهودية، إلى فرصة لتعزيز السيطرة على المسجد الأقصى المبارك بعد تحييد الأدوات الفلسطينية النضالية الفاعلة، باستخدام وسائل متعددة "أمنية - عسكرية - سياسية".
المقاومة تقلب الطاولة
قبل شهر رمضان مبارك الذي تحول مع السنوات الماضية إلى فرصة لاندلاع مواجهة واسعة مع الاحتلال، سعت أطراف إقليمية بالشراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية لإبطال مفعول "الحراك الثوري" الذي نهض في الضفة المحتلة، منذ شهور، لمنع اندلاع معركة جديدة في الشهر.
السلوك العدواني للجماعات الاستيطانية المحمية بالجهاز العسكري والأمني في دولة الاحتلال، دفع الأوضاع إلى التصعيد مجدداً في المسجد الأقصى المبارك، بعد الحملة القمعية - الإرهابية التي نفذتها شرطة الاحتلال بحق مئات المصلين في المسجد، لمنعهم من الاعتكاف فيه، وإفساح المجال أمام الجماعات الاستيطانية لاستباحته.
جاء الرد من المكان الذي لم يكن على لائحة التهديدات في الأفق الحالي. ظهر الخميس الماضي تعرضت مستوطنات شمال فلسطين المحتلة لصليات كثيفة من الصواريخ، من جنوب لبنان. دخول هذه الجبهة في المواجهة دفع المستويات السياسية والأمنية الإسرائيلية إلى المراوحة على حافة بين الخوف من تآكل نهائي لما يسمى بــ"الردع" والرد بشكل قوي على القصف إلى مستوى يدفع المنطقة إلى حرب شاملة، وهو الخيار الأكثر مرارة في ظل الانقسامات الداخلية الإسرائيلية والتقديرات لدى الجيش أن ما تملكه المقاومة قادر على تكبيده خسائر واسعة.
حاول الاحتلال فصل الجبهات مجدداً من خلال رد في قطاع غزة وصياغة رد آخر في لبنان، لا يجر حزب الله إلى المعركة، إلا أن المقاومة الفلسطينية في غزة صممت على التصدي للعدوان باستهداف المستوطنات المحيطة بالقطاع وإطلاق صواريخ أرض - جو نحو طيران الاحتلال الحربي.
وبينما كان الاحتلال في أوج قضية دخول جبهتين على خط المواجهة، نفذت خلية للمقاومة عملية نوعية في عمق الأغوار الفلسطينية، أدت لمقتل مستوطنتين وهو ما عزز من شعور الخوف لدى المستويات العسكرية والسياسية العليا في دولة الاحتلال من انفجار آخر على جبهة الضفة يعزز الجبهات الأخرى.
تعزز المواجهة على جبهة الضفة المحتلة يزيد من انعدام فرص الاحتلال بالاستفراد بجبهة دون الأخرى، وهو المسار الذي ازداد صلابة في معركة "سيف القدس"، التي شهدت دخول مدن وبلدات الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948 أيضاً في المعركة، وخلال الأيام الماضية ظهر أن هذا السيناريو قد يعود بشكل أكثر قوة، في ظل الفعاليات والمسيرات التي لم تتوقف في الداخل تنديداً بجرائم الاحتلال في الداخل.
وفي ظل كل هذه التطورات، كان الضربة الجديدة من قلب دولة الاحتلال في "تل أبيب"، ثم مجدداً على الجبهة الشمالية بعد إطلاق صواريخ من سوريا نحو الجولان المحتل.
جبهة الضفة… منع الاستفراد الإسرائيلي
منذ معركة "سيف القدس"، في أيار/ مايو 2021، يسعى الاحتلال لفك الارتباط بين الجبهات المختلفة ومنع تطوير سياق عملاني مقاوم يزيد من الارتباط بين محيط فلسطين المحتلة وداخلها، ورغم أن هذا المسار شاق في ظل الظروف الإقليمية والداخلية الفلسطينية، إلا أن المقاومة حافظت على حد أدنى من الارتباط بقضايا القدس والأقصى والضفة المحتلة وغيرها.
لكن التطور الأبرز في مسار المواجهة مع الاحتلال، في الشهور الماضية، كان "الحراك الثوري" الذي نما في الضفة المحتلة واستوى ساقه في مناطق مختلفة وامتدت جذوره إلى بلدات ومدن جديدة، وهو ما دفع المنظومة الإقليمية والدولية لبلورة سياسات تبطل مفاعيل هذا الحراك وتمنع إلى تطوره إلى شكل جديد من الانتفاضة الشاملة.
انخراط فئات أوسع في المواجهة داخل الضفة والقدس المحتلتين، على سبيل الشبه مع الانتفاضات السابقة، يزيد من ابتعاد جيش الاحتلال عن نشاطات تدريبية/ عملانية في مناطق أخرى نتيجة الأهمية الاستراتيجية لإخماد أي عمل مقاوم، في المنطقة الوسطى من فلسطين المحتلة، التي تحمل طبيعة استراتيجية فائقة الأهمية في السياق الاستعماري الصهيوني.
خلال انتفاضة الأقصى، تضاعف استنزاف جيش الاحتلال في مهمات داخل الضفة المحتلة، وهو ما انعكس على أدائه شديد السوء في حرب لبنان الثانية، كما تؤكد التقارير العسكرية - الإدارية التي راجعت أداء الجيش في الحرب، بالإضافة إلى أن العمليات الاستشهادية التي ضربت عمق دولة الاحتلال وفرت حماية نسبية لمشروع تطوير الصواريخ، في قطاع غزة، نظراً لأن مجازر الاحتلال كان يجري الرد عليها بشكل متتابع.
في الحروب السابقة على قطاع غزة، حاول الاحتلال تحييد الجبهات المختلفة الأخرى عن المواجهة خاصة في الضفة لتحقيق الاستفراد بالمقاومة في القطاع، وعمل نفسياً على تعزيز شعور "الانفصال" بين التجمعات الفلسطينية، في ظل الظروف التي أخرجت الفلسطينيين في الشتات إلى مدى بعيد من دورهم التاريخي في المواجهة.
هذه الأحداث قد تشكل أنموذجاً مبسطاً لاحتمال تتخوف منه دولة الاحتلال، منذ سنوات، وهو دخول جبهات مختلفة في المواجهة معها في الوقت ذاته مع كميات كبيرة من الرشقات الصاروخية واستخدام الأسلحة الأخرى مثل الطائرات دون طيار، في أوقات متقاربة، تستهدف المنشآت الحيوية والتجمعات السكنية للمستوطنين.
"الصاروخ يلوي ذنب الطائرة"
التفوق الإسرائيلي على مستوى سلاح الجو الذي ضمن لها سابقاً حسم بعض الحروب، كما حصل عام 1967، قد لا يكون مجدياً في حرب متعددة الساحات تستخدم فيها مجموعات المقاومة عشرات آلاف الصواريخ خاصة الدقيقة منها التي بذلت "إسرائيل" مجهودات لمنع وصولها إلى حزب الله، لكن التقديرات السياسية والعسكرية تشير إلى أن الحزب يمتلك كميات منها قادرة على شل مواقع استراتيجية - حساسة في دولة الاحتلال.
في مقال له قبل أعوام، وصف الجنرال الإسرائيلي إسحاق بريك المعروف بانتقاداته الشديدة للمؤسسة العسكرية الوضع الذي تنهمر فيه الصواريخ من جبهات مختلفة على دولة الاحتلال ويعجز سلاح الجو عن الاستجابة للتحديات بأنه "الصاروخ يلوي ذنب الطائرة".
يرى بريك أن سلاح الجو فشل في حرب 1973 مع مصر وسوريا، بعد تفعيل حزمة من الأسلحة المضادة للطيران على الجبهة المصرية خاصة خلال القتال، وأن قادة الجيش ينظرون من منظور "حرب سابقة"، في المقابل يدافع جنرالات الجيش وقادة الأركان عن الخطط الجديدة التي صاغوها لتطوير الجيش، لكن في الواقع فإن المواجهات البرية التي خاضها جيش الاحتلال في السنوات السابقة، أثبتت أن الذراع البرية ما زالت قاصرة عن تلبية احتياجات دولة الاحتلال، في مواجهة أنماط مختلفة من القتال مع أعداء اكتسبوا خبرات قتالية مضاعفة.
منذ حرب 1973 بدأت الانتقادات تتصاعد لأداء الجيش في المواجهة على أكثر من جبهة، وتعزز هذا الاتجاه بعد التورط في "الوحل اللبناني" الذي استمر لأكثر من 22 عاماً وأدى لمقتل مئات الجنود، ومع الحروب المتلاحقة في غزة ولبنان هبطت الثقة بقدرة الجيش على تحقيق "الحسم" الذي كان شعاره، منذ قيام دولة الاحتلال.
"المعركة بين الحروب" في صراع مع استراتيجية طويلة الأمد
صاغت المستويات العسكرية والأمنية في دولة الاحتلال مساراً عملانياً، خلال السنوات الماضية، لتوجيه ضربات تتوقع أنها تعرقل مشروع "تطويق إسرائيل بالصواريخ"، دون الوصول إلى حالة حرب شاملة، أطلقت عليه اسم "المعركة بين الحروب".
تقوم فكرة "المعركة بين الحروب" على تنفيذ عمليات محددة تكبَد العدو خسائر في الكوادر والتجهيزات والقدرات، دون الوصول إلى حالة حرب شاملة.
يعمل جيش الاحتلال طوال سنوات على توجيه ضربات، بين الفترة والأخرى، خاصة في سوريا لمنع تطور هذا المشروع. لكن بما أن هذا المشروع له سمة "استراتيجية/ طويلة الأمد"، فإن النجاحات التكتيكية قد لا تمنعه من الرسوخ، نظرا لوجود بنية تنظيمية قوية سواء في لبنان أو غزة.
التحدي الأساسي الذي أحدثته الأيام الماضية ليس فقط اطلاق رشقات من الصواريخ، وبالتالي القضية المركزية: هي هل ترد "إسرائيل" أم لا، بل في دخول جبهة جديدة فعليا في المواجهة، وهذا التحدي بحاجة لإجابة عند العدو من نوع آخر.
تراوح دولة العدو وأعدائها على حافة حرجة بين الحرب الشاملة أو المواجهات المتقطعة، فالمستويات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية تعلم أن الجيش بحاجة لمسار أطول من التطوير حتى يصل إلى قدرة على خوض الحرب البرية، في مواجهة أعداء لا يتوقفون عن التطور، ورغم الخلاف التكتيكي بين قوى المقاومة حول هل نخوض حرب استنزاف دائمة من كل الجبهات أم مواجهات كبرى، فإن الحرب الكبيرة ستأتي لا محالة.
الانقسامات الإسرائيلية تعزز فرص المقاومة
تزامنت الموجة الحالية من التصعيد مع الانشقاقات الداخلية في دولة الاحتلال على إثر خطة "التعديلات القضائية"، التي صاغتها حكومة نتنياهو، ودفعت فئات من مجتمع المستوطنين للنزول إلى الشارع للاحتجاج على قوانين رأت فيها سيطرة على الدولة من قبل التيار "الصهيوني الديني" وتقويضاً للقضاء.
الجديد في هذه الاحتجاجات كان تورط الجيش فيها، بعد إعلان ضباط وجنود احتياط في وحدات قتالية استراتيجية "الطيران، الاستخبارات، السايبر" وغيرها، وهو ما أثار مخاوف قيادات كبيرة في الجيش بينهم رئيس الأركان، من تأثير هذه التطورات على قدرات الجيش في القتال.
العمليات الأخيرة زادت من الانقسامات بين المستوطنين في ظل تحميل التيارات المعارضة لحكومة نتنياهو الائتلاف الحكومي الذي تشكل بعد تحالف "الليكود" مع "الصهيونية الدينية"، مسؤولية التردي الأمني، رغم تصريحات يائير لابيد وغيرهم حول الوقوف خلف الجيش، لكن في المحصلة فإن العمليات المتتابعة زادت من جدول أعمال المعارضين وأثبتت فشل الحكومة في تطبيق شعاراتها، كما أظهرت استطلاعات الرأي الإسرائيلية في الأيام الماضية.