نابلس - خاص قُدس الإخبارية: في أوج المرحلة الثورية الفلسطينية الحالية التي تعيشها الضفة المحتلة، أعلن وزير جيش الاحتلال بيني غانتس عن تفعيل عمليات "كي الوعي" أو "الهسبراه" ضد المجتمع الفلسطيني، لدفعه نحو إنكار المقاومة وإقامة "جدران" نفسية واجتماعية مع الفاعلين فيها.
في كل مواجهة يجترحها المجتمع الفلسطيني للخلاص من الاحتلال ومواجهة سياسات الاستيطان التي تهدد وجوده المعنوي والمادي، تستخدم مؤسسات الاحتلال الأمنية والعسكرية حزمة من السياسات التي تقوم على تدفيع الفلسطينيين الثمن على أعمال المقاومة.
تكتسب هذه المرحلة من المواجهة بين المجتمع الفلسطيني وقوة الاحتلال الإسرائيلي ميزات هامة، تشترك فيها مع موجات أخرى، أهمها ما يتعلق باصطدامها مع مشاريع "السلام" الاقتصادي التي اشتغلت المؤسسات الإسرائيلية بالشراكة مع قوى دولية وإقليمية ومحلية، لفرضها على الفلسطينيين عبر حزمة من السياسات التي تتمحور حول إبعاد الفلسطيني عن السياسة كشأن يومي يمس حياته كإنسان واقع تحت الاستعمار، إلى الاهتمام بتحقيق "رفاهية" قائمة أساساً على ربط المجتمع الفلسطيني بالمشغل الإسرائيلي، بعيداً عن أي ادعاءات حول بناء اقتصاد فلسطيني حقيقي.
من هذا الإطار ينطلق الاحتلال في مساعيه لدفع الفلسطينيين نحو الاحتجاج على المقاومة، و"كي وعيهم" عن رفدها بمزيد من الكوادر الفاعلة، لأن المجتمع في الحقيقة هو الرافد الأساسي لأي حركة مقاومة، هذه السياسات التي تطلق عليها أدبيات أمنية وسياسية غربية مختلفة اسم "مكافحة التمرد"، جرى تطبيقها على مجتمعات مختلفة خضعت للاستعمار.
حصار نابلس… عقاب مجتمع المقاومة
بعد تصاعد عمليات المقاومة في نابلس وريفها، أغلق الاحتلال مداخل المدينة وفرض حواجزه في مناطق مختلفة محيطة بها، وتعرض الفلسطينيون لعمليات تنكيل واسعة، في المقام الأول فإن الاحتلال يريد القول للمجتمع الفلسطيني إن كل عمل تنفذه المقاومة سيكون ثمنه من حريته واستقراره ومستقبله الاقتصادي.
نابلس المدينة الاقتصادية التي تعتبر وجهة للفلسطينيين من الضفة والقدس والداخل المحتل عام 1948، جربت الحصار المشدد مرات سابقاً، أعنفها في انتفاضة الأقصى التي كانت المدينة وريفها أحد روافعها العسكرية الأساسية مع بقية المحافظات، وحافظت على وجود لفصائل المقاومة حتى وقت متأخر بعد انتهاء الانتفاضة، لذلك فإن إغلاق الحواجز جزء من أدوات الاحتلال لاستفزاز الوعي لدى المجتمع لاستذكار مشاهد الإغلاقات في الانتفاضة.
يعلم الاحتلال من خلال أدواته الاستخباراتية والإعلامية والسياسية أن المجتمع الفلسطيني يكاد يجمع على ضرورة تصعيد العمل العسكري المقاوم، في ظل تردي الأوضاع على الأرض إلى درجة أصبح فيها المستوطن يعربد على القرى الفلسطينية، بعد أن كان يسير في قافلة عسكرية تحميه من نيران المقاومة، خلال انتفاضة الأقصى، كما يتردد في المجالس الشعبية الفلسطينية من أحاديث التحسر على زمن المقاومة.
زمن المقاومة الذي تجدد في نابلس وجنين ومناطق أخرى من الضفة المحتلة، ما كان له أن يشتد عوده دون الإجماع الشعبي الذي اكتسبته المقاومة من خلال مصداقية عالية ظهرت بوضوح في الاستجابة الشعبية الواسعة مع النداء الذي أطلقته مجموعة "عرين الأسود"، الأسبوع الماضي، لتنظيم إضراب شامل دعماً لأهالي مخيم شعفاط وعناتا في وجه الحصار الإسرائيلي.
هذا الالتفاف الشعبي حول المقاومة يدفع جيش الاحتلال إلى دفعة جديدة من العقوبات على المجتمع الفلسطيني، لفضه عن الالتفاف عن المقاومة، وخلق فكرة أن سبب هذا الحصار هو عمليات المقاومة، وليس الوجود الاستعماري الذي يرهن حرية الفلسطيني ولقمة عيشه بسياساته، التي توزع "العقوبات" و"الجوائز" وفقاً لخضوع المجتمع أو مقاومته للسياسات العدوانية.
كيف يبطل المجتمع الفلسطيني سياسات الاحتلال؟
لا يقف المجتمع الفلسطيني موقفاً سلبياً لا حراك فيه من سياسات الاحتلال. بعد فرض جيش الاحتلال حصاراً على مخيم شعفاط وبلدة عناتا بعد العملية الفدائية التي أدت لمقتل مجندة وإصابة آخرين، أعلنت المؤسسات الشعبية والوطنية في المنطقة عن "عصيان مدني" رفضاً لسياسات الحصار.
فعاليات مخيم شعفاط وبلدة عناتا المدعومة بإضراب شعبي واسع في الضفة والقدس المحتلتين، جعلت الاحتلال أمام خيار أن استمرار الحصار سيقلب الأوضاع عليه، في ظل المواجهات العنيفة التي انتشرت في أحياء وبلدات القدس، وصفها صحفيون وقادة أمنيون في دولة الاحتلال بأنها "الأعنف" منذ معركة "سيف القدس"، في أيار/مايو 2021، وأعادت تذكير المستويات العسكرية والسياسية الإسرائيلية بالتهديد الدائم لسيادة الاحتلال على المدينة.
هذا الحراك لإبطال سياسات "كي الوعي" ودفع المجتمع الفلسطيني لإنكار المقاومة والاحتجاج عليها، كان له تجربة رائدة أخرى في جنين التي شقت منذ شهور الطريق أمام مشروع توسع المقاومة المسلحة. بعد سلسلة العمليات التي نفذتها المقاومة في جنين أغلق جيش الاحتلال معبر الجلمة الشريان الرئيسي الذي يربط المحافظة بالأراضي المحتلة عام 1948، ويشكل مصدراً رئيسياً للحراك التجاري والاقتصادي في المدينة وريفها.
كان الرد على سياسات الاحتلال بمزيد من العمليات في العمق الإسرائيلي، وهكذا أصبحت سياسة العقاب الجماعي معكوسة على مجتمع المستوطنين، وهو ما دفع الاحتلال إلى التراجع عن إغلاق المعبر.
تكتسب المواجهة الحالية ميزة أخرى وهي ظهور أجسام تنظيمية للمقاومة بعضها انبثق من التنظيمات وأخرى تشكلت من اجتماع كوادر من فصائل مختلفة على ضرورة رفع السلاح في وجه الاحتلال. تمكنت هذه التشكيلات من اكتساب ثقة جماهيرية ملحوظة لأي مراقب، ومن خلال بياناتها خلقت لغة مشتركة مع الجمهور الفلسطيني، أشركته في أمر المقاومة، من خلال المناشدات المكتوبة بلغة "المناشدة" و"النداء" لتنظيم فعاليات مقاومة شعبية، على نقاط التماس والمواجهة مع جيش الاحتلال والمستوطنين، بأدوات بسيطة يكون لكل فلسطيني مساهمة فيها، وهو ما يجعل المقاومة شأناً شعبياً على رأسه نخبة تواجه سياسات الاحتلال في نزع العمل الثوري من وسط الجماهير.