رام الله - خاص قدس الإخبارية: في 20 أبريل/نيسان 1936، اجتمع عدد من القادة الفلسطينيين وأعلنوا "الإضراب الشامل برًا وبحرًا"، بعد أن ضاق الفلسطينيون ذرعا بـ"الأحوال الشاذة" و"السياسة الفاشية" التي اتبعتها الحكومة البريطانية في فلسطين على مدى 16 عاما من الانتداب.
وكانت هذه الخطوة بمثابة قص شريط الافتتاح فيما يخص الإضرابات في تاريخ الشعب الفلسطيني، سواء على الصعيد الشعبي أو حتى على صعيد إضرابات الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي المتمثلة في الإضراب عن الطعام.
ويطلق فلسطينياً اسم "الإضراب الكبير" أو "الإضراب الطويل" على إضراب عام 1936 وفيه شمل جميع مناحي الحياة في فلسطين التاريخية، احتجاجًا على سياسات بريطانيا وانحيازها لصالح اليهود على حساب المواطنين الفلسطينيين.
وبعدها بعقود عادت الإضرابات للواجهة من جديد مع اندلاع شرارة انتفاضة الحجارة حيث حافظ الفلسطينيون عليها حتى توقيع اتفاق أوسلو 1993، حيث كان الإضراب الشامل يومي 8 و9 من كل شهر.
وبعد ذلك بسنوات عادت تجربة الإضرابات من جديد ولا سيما في 2017، حين استجابت أسواق ومحال مدينة القدس لنداء الإضراب العام احتجاجا على قرار الرئيس الأميركي في حينه دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة "لإسرائيل".
وفي مايو/أيار 2021 وبعد سلسلة اعتداءات إسرائيلية في المسجد الأقصى والقدس المحتلة، تحولت إلى حملة إسرائيلية واسعة في المدن الفلسطينية داخل الأراضي المحتلة عام 1948 ثم إلى هجوم عسكري على قطاع غزة؛ تداعى الفلسطينيون إلى إضراب شامل وصف بأنه الأوسع والأشمل منذ إضراب 1936.
وجاء إضراب 12 أكتوبر 2022 ليسير على امتداد الإضرابات السابقة باختلاف بسيط أن الداعي له هذه المرة هي كتيبة فلسطينية مقاومة نجحت في تجاوز الفصائل والأحزاب الفلسطينية، بدعوة بسيطة استجاب لها الأهالي وأصحاب المحال التجارية بشكلٍ واسع في مدن الضفة والقدس المحتلتين.
وعكست أجواء الإضراب واستجابة الأهالي الواسعة لها حالة التعطش للفعل الكفاحي المقاوم بعيدًا عن الحسابات السياسية أو البيانات المنمقة، خصوصًا في ظل تعاظم الجرائم الإسرائيلية في مختلف المدن الفلسطينية في الضفة والقدس المحتلتين.
في هذا السياق يقول الكاتب والباحث في الشأن السياسي ساري عرابي إن فكرة الإضراب والعصيان المدني كانت ذات قيمة كبيرة في الفترة التي سبقت تأسيس السلطة الفلسطينية أي قبل توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير والاحتلال عام 1993.
ويضيف عرابي لـ "شبكة قدس" أن فكرة الإضراب التي كانت تتمثل في العصيان المدني فقدت قيمتها بعد قدوم السلطة على اعتبار أن هذه الخطوة كانت في وجه السلطة القائمة سابقاً والمتمثلة في الاحتلال والإدارة المدنية، بخلاف الحال حاليًا.
ويردف: "الإضراب والفعاليات التي نفذت بعد قدوم السلطة هو استدعاء للذاكرة التاريخية لكن هذا الاستدعاء يجب أن يكون بشكل ذكي، سيما وأن جانب العصيان المدني مفقود ولكن هناك قضية إيجابية فيما يخص الإضراب تتمثل في خلق حالة شعورية عند بقية الفلسطينيين".
ويشير إلى أن الفلسطيني غير المنخرط في الفعل المقاوم سواء المقاومة المسلحة أو الشعبية مع الاحتلال الإسرائيلي، ينبغي أن يشعر بهذه الحالة الكفاحية والشعورية التي يتم تمكينها وتوسيعها في خطوات مثل الإضراب.
ويستدرك عرابي: "هذه الخطوات تبقى مفيدة في حدود استدعاء الشارع وبث الروح الكفاحية فقط، لكن لا ينبغي أن تستمر كإطار للتصعيد لأنها قد لا تكون إطارًا مناسبًا لأن الناس تريد أن تخرج إلى أعمالها فضلاً عن صعوبة تعطيل الحياة الجامعية".
ووفق الكاتب والباحث في الشأن السياسي فإنه وفي وقتٍ لاحق يجب أن تكون هناك دعوة للتصعيد تتجاوز حدود الإضراب، وتكون في أوقات غير الأوقات التي تتم فيها الإضرابات بطريقة تسمح للطلبة في المدارس والجامعات بالمواجهة مع الاحتلال دون الإكثار من الإضرابات بطريقة تستنزف الفلسطينيين اقتصاديًا.
وبشأن تفاعل الشارع الفلسطيني بطريقة أكبر مع دعوة عرين الأسود للإضراب، يعلق عرابي قائلاً: "حجم التجاوب الكبير يعود لسببين هما تراجع دور ومكانة الفصائل في الضفة منذ انتهاء انتفاضة الأقصى وبشكل أكبر منذ الانقسام الفلسطيني، إلى جانب صعوبة فرض الإضراب في ظل وجود السلطة الحالية التي لا ترحب بهذا النوع من الإضرابات".
ويشير إلى أن وجود السلطة ساهم في شل وتحطيم الفصائل الفلسطينية والحركات خلال السنوات الأخيرة ما جعل الأحزاب مشلولة في قدرتها على التأثير في الشارع، أما السبب الثاني فيعود للفصائل ذات نفسها التي فقدت قدرتها على التنظيم والتحشيد.
ويواصل عرابي قائلاً: "من أسباب الاستجابة العالية للإضراب الذي دعت له عرين الأسود أنه جاء من قوة تحمل السلاح وتقود الفعل المقاوم وهو ما أكسبها مصداقية عالية، وهو أمر مختلف تمامًا عن الدعوات الفصائلية التي تطلق في الهواء".
وعن إمكانية تطور الحالة القائمة لمرحلة العصيان المدني، يرى الكاتب والباحث في الشأن السياسي أن الحالة القائمة حاليًا تعتبر متطورة فالضفة الغربية تعيش حالة مقاومة منذ عام 2015، ولا يجب نسيان انتفاضة السكاكين وهبة القدس.
ويعتقد عرابي أن الحالة القائمة في نابلس وجنين وتنعكس في بعض المناطق هي تطور لحالة مقاومة موجودة في الضفة منذ عام 2015، وهي استجابة لحالة المقاومة والمعارك التي خاضتها الفصائل في غزة منذ عام 2014 تحديدًا وإلى الآن.
ويلفت إلى أن قضية الاشتباك على الحواجز ستكون مفيدة في حدود معينة مثل الإضراب ولا ينبغي أن تكون الشكل المفتوح في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لأنها مجرد ذاكرة مستدعاة من التاريخ النضالي الفلسطيني، ومع إعادة الانتشار سيكون من الصعب سحب الجماهير إلى نقاط الاحتكاك في مناطق مكشوفة يتحكم فيها الاحتلال بظروف الميدان.
ويضيف: "حشد الناس على الحواجز سيكون مفيد في حدود معينة لكن استمراره على المدى البعيد غير عملي، إلا إذا سقط أعداد كبيرة من الشهداء وهو ما سيستدعي مقاومة أكثر تسليحاً مثل الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي تحولت من انتفاضة شعبية إلى مسلحة، إذ كان سببها تحولها للشكل العسكري سقوط عشرات الشهداء على الحواجز وبالتالي أراد الناس الانتقام وكانت النتيجة التحول لانتفاضة مسلحة".
من جانبه يقول الكاتب والصحفي أحمد العاروري إن لكل مرحلة ظروفها المغايرة، فالاستجابة الجيدة للإضراب الأخير كان دافعها الحالة النضالية المتصاعدة في الضفة، والمجتمع الفلسطيني في الضفة والقدس يملك دافعية وإرادة للقتال، لكن ربما يحتاج إلى قيادة تنظيمية تملك المصداقية وتكسب ثقة الناس لدفعهم نحو الميدان.
ويضيف العاروري لـ "شبكة قدس": "في السنوات الماضية، كانت الاستجابة لدعوات الإضراب متفاوتة بين القبول والرفض، وهذا عائد أحياناً إلى حالة "اليأس" التي يعيشها المجتمع الفلسطيني وفقدان "الثقة" بالحركة الوطنية، بالإضافة لعوامل اقتصادية واجتماعية أخرى".
ويشير إلى أنه في معركة "سيف القدس" نفذ الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس والداخل إضراباً "تاريخياً" كان من ثمار حالة الوحدة التي تحققت في الميدان حينها، وكان يجب على كل الفعاليات السياسية والوطنية استثمارها وتطويرها لاحقاً.
ويعتقد الكاتب والصحفي الفلسطيني أنه "ربما كانت أول تجربة إضراب شامل في تاريخ نضال الشعب الفلسطيني، ضد الاستعمار، في عام 1936 الذي استمر لمدة 6 شهور، كانت هذا الإضراب من ثمار الثورة العربية الكبرى التي حققت نجاحات هامة في الصراع ضد الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية، لكن الظروف الاقتصادية والاجتماعية كان لها دور مركزي في وقف الإضراب، وهذا ما حصل في إضرابات لاحقة مثلاً في الانتفاضة الأولى، إذ حققت الحركة الوطنية والإسلامية حينها التزاماً واسعاً بمقاطعة المصانع الإسرائيلية والإضراب التجاري وحالة "العصيان المدني"، ولدينا مثال ناصع على هذه الحالة في تجربة بلدة بيت ساحور، لكن لاحقاً تراجعت حالة الالتزام بالإضراب بفعل تراجع أوضاع العمال على المستويات الاقتصادية، لذلك فإننا أمام حالة متشابكة من الفواعل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، التي يجب أن تكون في حسبان حركات المقاومة الفلسطينية".
ويعتقد العاروري أن استمرارية الإضرابات محكومة بعدة عوامل، بينها توسع الفعل المقاوم إلى مساحات جغرافية أوسع، بحيث تصبح فكرة الإضرابات مسنودة بفعل ميداني نضالي واضح، يدفع المجتمع إلى مزيد من الدعم والحافزية للاستمرار.
وبشأن امتداد الحالة لمرحلة العصيان المدني يعلق قائلاً: "حالة "العصيان المدني" مسألة معقدة برأيي وبحاجة إلى أخذ الظروف التي طرأت على المجتمع الفلسطيني، بعد اتفاقية أوسلو، حيث انسحبت قوات الاحتلال من مراكز المدن وتحررت سلطات الاحتلال من مسؤولياتها الاقتصادية والإدارية عن نسبة كبيرة من المجتمع الفلسطيني، لذلك يمكن أن تكون فكرة "العصيان المدني" فاعلة في القدس المحتلة وبلداتها التي تخضع لسيطرة بلدية الاحتلال، مع دعم وإسناد بقية التجمعات الفلسطينية".