شبكة قدس الإخبارية

بين البعثة الإسرائيلية في المغرب.. وكراهية الذات العربية

تطبيع.PNG
ساري عرابي

سحبت "إسرائيل" سفيرها من المغرب ديفيد غوفرين، بعدما استدعته للتحقيق معه، في تهم فساد مالي وسرقات واستغلال للمنصب وتحرش جنسي، وبما أن غوفرين كان سفيراً لـ"إسرائيل" في مصر، فإنه يمكن التخمين أن ممارساته هذه لم تبدأ من المغرب، وأنه نقل تجربته وخبرته معه، والمستفادة من مناصبه سابقاً، إلى المغرب.

جرائم السفير تنقسم إلى فساد مالي، من اختلاسات واستحواذ على هدايا رسمية واستغلال النفوذ لتسهيل مصالح رجال أعمال وشركات، وإلى تحرشات جنسية تمسّ موظفات مغربيات في السفارة. هذه التحرشات تحديداً هي التي دفعت الخارجية المغربية لتشكوه إلى الخارجية الإسرائيلية، لا سيما وأن جرائم كهذه يمكن توظيفها من معارضي التطبيع في المغرب للتأكيد على صحة موقفهم منه. وبما أنّ البعثة الإسرائيلية، لا تقتصر على السفير، وتضم شُعباً متعددة منها شُعب أمنيّة واستخباراتية، فإنّه يمكن حينئذ توقع تواطؤ كبير داخل البعثة على جرائم كهذه، بما يجعل المشكلة في حقيقة الأمر غير منحصرة في شخص غوفرين.

تذكّر هذه الجرائم بسرقات تافهة من فنادق دبي، اقترفها السياح الإسرائيليون في بداية الانفتاح الإماراتي على دولة الاحتلال. شملت تلك السرقات، كما قيل، "كلّ ما خفّ حمله"، كالمرايا واللوحات والأرواب والمناشف والمناديل والغلايات والمصابيح، وكانت تركيا من قبل قد سبقت دبيّ بالشكوى من هذه السلوك الذي يحترفه السياح الإسرائيليون.

ليست القضية في سلوك قد يقع في أجناس البشر كلهم ولا ينحصر في واحد منها، ولكنها في ضَربِ النموذج الذي توهّمه وروج له بعض متصهيني العرب، من كارهي ذاتهم، والمتعلقين هوساً ومرضاً بالعدوّ الأكثر صراحة لهذه الأمّة، والأكثر خطراً عليها، أو أنّ بعضهم -أي صناع ذلك النموذج المتوهّم عن الإسرائيلي- من المهزومين نفسيّاً.

حكاية الهزيمة النفسية، تذكّر بزمن التلفزيون الإسرائيلي والإذاعة الإسرائيلية، في مرحلة ماضية قبل الانتفاضة الأولى، وبالتأكيد قبل الانفجار التواصلي والمعلوماتي الجاري الآن. لم يكن الفلسطينيون يلتقطون إلا القليل من المحطّات التلفزيونية والإذاعية، وبما أنّ الكاتب من أهالي الضفّة الغربية، فلم يكن سكان هذه المنطقة في الغالب يطلّون على العالم إلا من نافذة التلفزيون الأردني (القناة الأولى تحديداً)، والقناة الأولى الإسرائيلية التي كانت تفسح في حينه فترة للبرامج الناطقة بالعربية، وذلك فضلاً عن الإذاعة الإسرائيلية الناطقة بالعربية، بينما البعض، لا سيما كلما صعد الفلسطيني شمالاً، يلتقط التلفزيون السوري.

بعض كبار السنّ الذين أدركتهم، في طفولتي بين يدي الانتفاضة الأولى وفي بداياتها، كانوا يسفرون صراحة عن اعتقادهم بأنّ العدوّ لا يكذب، وأنّ إعلامه أصدق ما يمكن سماعه. المفارقة أنه لا خيارات واسعة لديهم؛ ليضعوا إعلام العدوّ في المقارنة، بيد أنّ المفارقة الأكبر، هي أنّ هذا الجيل ينبغي أن يكون قد تفتّح وعيه على سرقة فلسطين بأكبر كذبة في التاريخ "فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، و"الحق التاريخي".

ثم لك أن تتخيل كيف لمن سَرقت منه الأكاذيب المتسلّحة بالقوّة كلّ شيء، تاريخه وحاضره وتراثه وأرضه وهويته وحريته، أن يتوهم حيناً من الزمن أن السارق الكذوب لا يكذب! فكيف إذا كان بعض هؤلاء، ومنهم من أعرفه معرفة لصيقة، قد قاتل الصهاينة في فترة الانتداب البريطاني، وبعض معاركهم قد حظيت بالتوثيق التاريخي؟ بل إنّ بعضهم كان يخوّفنا جادّاً من الجندي الإسرائيلي وقدراته القتالية وقوّته البدنية، حينما كنا نقذف دورياتهم بالحجارة في طفولتنا.

كنت أعيش هذا التناقض المريع في طفولتي، بين كون جدّي قد قاتل هؤلاء في "الكبّانية" التي أقيمت بجوار قريتنا، بينها وبين القدس، وقد عرفهم جيّداً، ثمّ هو الآن يتوهّمهم شيئاً آخر. على أية حال، بعد سنوات لم يعد جدّي يراهم في صورتهم المتوهّمة الأخيرة هذه، شأنه شأن الكثيرين ممن أعادت سنوات المقاومة صياغة وعيهم من جديد!

إنّها الهزيمة النفسية لا أكثر، كأن تجد لاجئاً سُرقت منه قريته وفضاؤها، وعاش أبوه وجده وهو حياة اللجوء المرير، يثني على صاحب العمل الإسرائيلي، بأنّه يعطيه أجره في وقته قبل أن يجفّ عرقه، وينسى تماماً أن هذا المعمل مقام على أرض آبائه، أو ما كان له أن يقام لو لم يُطرد آباؤه من قريتهم.

تذكّرنا هذه الأوهام الغافلة، بأسطورة للمهزومين العرب قالها أصحابها لما عاشوا في بعض بلاد أوروبا ومفادها: "وجدنا إسلاماً بلا مسلمين". الغريب أنّ هذه الأسطورة تُنسب لبعض كبار رموز ما يُدعى بحركة الإصلاح والنهضة العربية في القرن التاسع عشر، لنلاحظ حجم الغفلة عن السياقات الكاملة، والتورط في أطروحات قاصرة عن إدراك الجذور الحقيقية للخلل.

الحاصل، أن النموذج المتوهم عن الإسرائيلي إمّا أن يصنعه احتقار الذات وعبادة العدوّ، أو أن تصنعه الهزيمة النفسية. احتقار الذات عند متصهينة العرب، لم يتوقف فقط على التبني الكامل للرواية الصهيونية المختلقة من الكذب الخالص، بل انتقل من تنميط يجعل العدوّ ذا طبيعة جوهرانية خسيسة لا تنفكّ عنه، إلى طبيعة جوهرانية نبيلة لا تنفكّ عنه. ذلك العربي المقصود غير قادر أن يقرأ العدوّ إنساناً، إنه يراه أسطورة دائماً، أسطورة شريرة، أو أسطورة نبيلة، في حين أنه أخذ في الوقت نفسه ينمّط الفلسطيني، فانتقل به من البطل المقاتل بالصدر العاري، إلى الشرير كامل الشرّ و"سبب الشرور في البلاد العربية.. باع أرضه، وتنكّر لجميل العرب.. الخ".

الهزيمة النفسية يمكن ملاحظتها عند غير متصهيني العرب. لا يخالنا شكّ أحياناً ونحن نقرأ لبعض العرب، وهم يتغزلون في منجز العدوّ الماديّ، أنهم غير متصهينين، لكن ذلك لا ينفي أنهم مهزومون. هم يتحدثون بغفلة تامّة عن جمال مدينة "تل أبيب" ونظافتها، ويتساءلون: هل لو بقيت بأيدي الفلسطينيين ستكون على هذا النحو؟ هذه الهزيمة تعود إلى انحطاط ما، لأنّ عندهم حياة البشر، أصحاب الأرض الأصليين، وممتلكاتهم، وأمنهم واستقرارهم، أقلّ شأناً من نظافة شارع. هذا التصور المنحطّ ينمّ عن انعدام الحساسية تجاه الاستعمار، بل تجاه الكرامة الآدمية أصلاً.

لو امتلك الفلسطيني حريته، والعربي كرامته، ولم يقطع الاستعمار تجربته، ولم يحطّم الاستبداد إرادته، ربما لكانت مدينته أجمل من "تل أبيب". هذا الافتراض البدهي، أي تحييد العامل الخارجي، لننظر في أسباب مشاكلنا الذاتية بعد تصفية الأسباب الخارجية، لا يخطر على بال المهزومين.

وقبل أن نختم برجاء أن تلفت قصص البعثة الإسرائيلية المهزومين العرب إلى أوهامهم، ينبغي القول إن يافا وقراها، التي أقام العدوّ "تل أبيب" على أنقاضها، أجمل، وهي حتماً أفضل، حتى إن قادة العدوّ يفضلون البيوت العربية العتيقة لإقامتهم، إمعاناً في السرقة، وتأكيداً على طبيعة هذا الاحتلال.

#المغرب #التطبيع