في الآونة الأخيرة زادت وتيرة الأصوات والمقالات والجلسات الحوارية، الداعية إلى ضرورة مشاركة الفلسطينيين في انتخابات بلدية الاحتلال في القدس، وهذه ليست المرة الأولى التي تخرج فيها الأصوات لدفع الفلسطينيين للمشاركة في الانتخابات البلدية التي من المفروض أن تعقد قبل نهاية العام القادم، حيث جرت محاولات عديدة إبان رئاسة تيدي كوليك للبلدية التي استمرت 28عاما والتي تخللها لقاء لمستشاره موشيه عميراف مع الرئيس الفلسطيني أبو عمار عام 1993، لحث الفلسطينيين بانتخاب تيدي كوليك ضد المرشح الليكودي يهود أولمرت، وكان هناك دائما فلسطينيون يعملون على هذا الخيار والذي لم يتوقف حتى الانتخابات الأخيرة التي ترشح فيها فلسطيني من القدس.
الحملة الأخيرة مختلفة عن المحاولات السابقة وذلك لنوعية الشخصيات الذين يروجون لها سواءً من القدس والأراضي المحتلة عام 48، أو من فلسطيني الخارج، بالإضافة الى مشاركة بعض الدبلوماسيين الأجانب في الدفع بهذا الاتجاه، وتشير النقاشات والتداخلات إلى أن الحملة منظمة وممولة ومدروسة ضمن برنامج واسع ومتدحرج بدأ العمل به بشكل مبكر لتحقيق أكبر قدر من الأهداف.
وتأتي هذه الحملة أيضا في بيئة سياسية لم تعد القضية الفلسطينية موجودة ضمن قيادة جمعية للفلسطينيين، ووسط تثبيت الانقسام الفلسطيني وتراجع القضية الوطنية، وتهميش القضية الفلسطينية على الصعيدين الدولي والعربي، وتراجع كبير في النضال الفلسطيني، ولكن الأخطر في العامل السياسي هو عملية تهويد وأسرلة القدس، وصولا الى القدس الكبرى وإنهاء فكرة أن القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية القادمة، التي أصبحت أيضا بعيدة المنال نتيجة كل التعقيدات الداخلية والمحلية والإقليمية والدولية.
ما أود الإشارة إليه أنه خلال السنوات الأخيرة، يتعرض الفلسطينيين الى حملة منظمة عنصرية وتمييزية وتطهير عرقي واستيطان في كل المدينة، بهدف تغيير الواقع المادي وهوية المدينة من قبل الحكومة الإسرائيلية ومؤسساتها، وعلى رأسها بلدية الاحتلال وخاصة بعد إعلان ترامب عام 2018 أن القدس عاصمة لدولة الاحتلال، وأيضا تشريع قانون يهودية الدولة من قبل كنيست الاحتلال، وبالمقابل يبدي الفلسطينيون في القدس مقاومة وثبات ونضال متواصل للحفاظ على هوية المدينة وخاصة المحاولات الصهيونية لتغيير هوية المسجد الأقصى، ووسط هذه العوامل السياسية لا نستطيع أن نفصل الحملة الحالية عن الواقع السياسي في المدينة.
كما أود استعراض بعض المبررات التي يعتمد عليها المؤيدين للحملة وذلك في صياغة الحوارات والتدافع لتشكيل رأي عام مؤيد للمشاركة بالانتخابات:
أولا: الفصل بين الأمرين السياسي والخدماتي، والقول إن المشاركة في الانتخابات لا تعني التنازل عن القضية السياسية، بل وصل الأمر بالبروفيسور محمد ربيع من واشنطن بالقول في أحد مقالاته " إن المشاركة بالانتخابات سوف تحفظ الحقوق الفلسطينية وسوف تسقط الاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل" وأضاف "أن المعارضة من داخل مجلس البلدية يعتبر أقوى من المظاهرات...الخ". ويفترض المؤيدون أن الوضع السيء في الخدمات البلدية يعود "لعدم وجود أصوات فلسطينية داخل المجلس البلدي تعمل على تحسين وضع الخدمات المقدمة للسكان" "ووجود هذه الأصوات سوف يغير وضع الفلسطينيين في القدس 180 درجة"، وبالتالي يتم التركيز على الفصل بين الحقوق السياسية والمطلبية، وهذه استهلالة مهمة لمعرفتهم أن الفلسطينيين في القدس يواجهون تحديات صعبة، ولكن ليس بسبب سياسات الاحتلال ولكن بسبب عدم مشاركتهم بالانتخابات البلدية.
ثانيا: حتى يستطيع المؤيدون للحملة الوصول إلى أهدافهم ادخلوا مصطلح جديد على الانتخابات في محاولة منهم لصنع وعي جديد مؤيد للمشاركة وهو (الانتخاب بالوكالة)، القضية بسيطة حتى نوائم بين المعارضة للترشح للانتخابات بسبب المعارضة السياسية الواسعة وسط الفلسطينيين، المطلوب استحضار مرشحين بالوكالة من فلسطيني الـ 48 الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، والمطلوب من الفلسطينيين في القدس المشاركة بالانتخابات، وهكذا يتم إسقاط العامل السياسي بطريقة براغماتية للمشاركة دون الترشح لتشجيع الناس على المشاركة في العملية الانتخابية.
ثالثا: الحملة تدعو الى استنساخ تجربة الفلسطينيين في الداخل مع المجالس المحلية، والمشاركة في الكنيست مع أن التفاصيل مختلفة، ولكن في الفهم السياسي تضخيم أهمية النضال المطلبي تحت شعار مستوى الحياة أو المساواة في الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وهذا لا يتعارض حسب قولهم مع النضال السياسي للقضية الفلسطينية ويتم تسويق قضايا الانقسام الفلسطيني والتنسيق الأمني كشواهد ومبررات مشروعة للمشاركة بالانتخابات البلدية.
مستشار رئيس بلدية الاحتلال عام 2018 (نداف شرغلي) كتب مقالة قال فيها: "إن الرغبة للانخراط في المجتمع الإسرائيلي تفوق تهديدات السلطة الفلسطينية"، وهذا يعبر عن التوجه الصهيوني للتعامل مع العرب من خلال إسقاط القضية السياسية والوطنية ومحاولة الإيحاء ان دمجهم هو ما سيحسن ظروفهم المعيشية وصولا للمساواة، ولم تتوقف الحركة الصهيونية العمل على محاربة النضال السياسي والوطني والمشروع، في سياق نكرانها التام لوجود شعب فلسطيني له حقوق مشروعة في فلسطين والعمل المتواصل والذي لم يتوقف أنها دولة ديمقراطية تحمي حقوق (الأقليات) وتشجع دمجهم في الالة المؤسساتية الصهيونية.
إن محاولة الترويج للفصل بين تحديات اليومي والقومي، والذي نجحت في تثبيته "إسرائيل" كواقع في الضفة وغزة والأراضي المحتلة عام 48 يراد استنساخه وعمل امتدادات له في القدس بأيدٍ فلسطينية، وهذا ليس بعيدا عن محاولات "إسرائيل" الساعية إلى إخماد الروح الوطنية الفلسطينية والمناضلة والصامدة في مدينة القدس.
أخيرا إن محاولة تغييب الواقع في هذه المسألة وخاصة التجربة السياسية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 48 في المجالس المحلية، والتمييز في الميزانيات وتجربة الأحزاب العربية في الكنيست والتي كان آخرها مشاركة الموحدة في الحكومة الصهيونية وتأييدها للعديد من القرارات ضد المصلحة الفلسطينية، في محاولة منهم لسلخ الواقع السياسي لهذا الكيان الاحلالي الصهيوني من خلال الترويج أن "إسرائيل" تشجع الديمقراطية والعمل من تحت قبة البرلمان، وهذا ضمانة لتحقيق الفلسطينيين حقوقهم الخدماتية وبعض الأمور السياسية، كما أنه يتم تغييب التوجهات السياسية للأغلبية اليهودية في القدس والتي يشكل الحريديم منها ما نسبته 36% والعلمانيين ما نسبته 21% والمستوطنين التقليديين ما نسبته 43%، مما يعني أن وجود فلسطينيين في المجلس البلدي لن يؤثر مطلقا على الاستيطان والتهويد والتمييز العنصري وهدم المنازل لأن هذه سياسة حكومية وحتى المخططات الهيكلية لا يمكن التغيير فيها داخل البلدية.