يمكن أن تشكّل محاولة اغتيال الدكتور ناصر الشّاعر، التي أدّت إلى أضرار جسيمة في رجليه، بداية مرحلة جديدة، ولحظة فاصلة يمكن أن تنتشر بعدها الفوضى وشريعة الغاب إذا لم يتم القبض على الفاعلين وتقديمهم إلى العدالة، فقد تم التعرف إليهم بعد ساعات قليلة من ارتكابهم الجريمة، ودوافعهم معروفة تتعلق بالانتقام وبتداعيات ما حدث في جامعة النجاح، ومحاولة إسكات كل من يجرؤ على التعبير عن رأيه بصراحة، حتى وإن كان ذلك باعتدال وروح وحدوية كما يفعل الشاعر.
كما أن الجريمة تمّت في وضح النهار وأمام الناس، ووثقت الكاميرات الحدث بكل تفاصيله، وأصبح المجرمون معروفين ليس فقط للأجهزة الأمنية، بل للشاعر وأهله وأصدقائه والفصيل المحسوب عليه. لذلك، إذا لم تحرك السلطة ساكنًا للقبض عليهم كما حصل حتى كتابة هذه السطور، على الرغم من الإدانة القوية والسريعة للجريمة من قبل رأس السلطة، الذي قام بأسرع اتصال هاتفي مع الضحية الذي تربطه به علاقات أكثر من جيدة، ومن قبل كبار قادتها ومن حركة فتح، والالتزام منهم جميعًا بمعاقبة الفاعلين؛ فسيؤدي ذلك إلى ما لا تحمد عقباه؛ حيث ستنتشر أكثر وأكثر الجماعات والعصابات المسلحة، وتعيث في الأرض الفلسطينية خرابًا.
لماذا وصلنا إلى الاستنتاج الوارد في مستهل المقال؟ لأن الجريمة الجديدة لم تقع في سماء صافية، فهناك سلسلة لا حصر لها من الجرائم التي تتصاعد في ظل عجز السلطة دائمًا، وتواطئها أحيانًا، وارتكابها للجرائم أحيانًا أخرى، كما حصل في جريمة اغتيال نزار بنات، التي تراوغ السلطة في محاسبة مرتكبيها، وفي تحمل المسؤولية عنها، فهناك جرائم تجري باستمرار ولها خلفيات مختلفة عائلية وثأرية، أو خلافات على مصالح، أو صراع على مراكز القوى الذي اشتد في الآونة الأخيرة في ظل انتشار السلاح بكثرة؛ حيث هناك آلاف المسلحين، ووفق بعض المصادر عشرات آلاف المسلحين، والسلاح معظمه لا يمت للمقاومة بصلة، وفي أيدي مجرمين وعصابات، أو جماعة فلان أو علان.
كما ينتشر السلاح على خلفية التنافس على السلطة والمناصب والمراكز والخلافة التي لا يتم الاتفاق على حلها، سواء بشكل توافقي وطني، أو كما يجب عبر الاتفاق على إجراء الانتخابات في سياق متكامل ورزمة شاملة؛ لأن الانتخابات وحدها في ظل الانقسام وتحت الاحتلال من الصعب جدًا أن تجري، وإذا جرت لن تكون مدخلًا للحل وإنهاء الانقسام، وإنما قفزة للمجهول، أو نحو تعميق الانقسام وتشريعه وتأبيده، وتسريع تحوله إلى انفصال كامل.
شهدت الضفة الغربية خلال العامين الماضيين تصاعدًا ملحوظًا في استخدام السلاح خلال الشجارات العائلية، وفق تقديرات بوجود عشرات الآلاف من قطع السلاح غير الشرعية، مقابل 26 ألف قطعة متوفرة لدى الأجهزة الأمنية.
فقد قتل، خلال العام 2021، 25 مواطنًا في شجارات عائلية، فيما قتل، خلال النصف الأول من العام 2022، 21 مواطنًا، معظمهم في الخليل، وفق تقارير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، إضافة إلى تصاعد ظاهرة إطلاق النار والاستعراضات العسكرية في الشجارات العائلية؛ ما ينذر بوضع خطير في ظل غياب المشروع الوطني والديمقراطية والانتخابات، وتغول السلطة التنفيذية وتحكمها بكل السلطات؛ ما أدى إلى وجود سلطة هشة بدأت تفقد زمام الأمور في مناطق متزايدة الضفة، حتى في المناطق الخاضعة لسلطتها، خصوصًا في المخيمات، وفي ظل استحواذ الاحتلال على المزيد من صلاحيات السلطة من خلال "الإدارة المدنية".
وشهدت المدة الماضية حالات كثيرة من إطلاق النار على منازل وسيارات مواطنين، ورجال أعمال، ورؤساء بلديات وهيئات محلية، ومحامين ... إلخ، وفي بعض الأوقات عن طريق الخطأ حيث كان المقصود عائلة أخرى كما حصل مع عائلة حجاب في نابلس التي تعرض الابن والأب لإصابات بالغة فيما أصيب عدد من البنات بالشظايا، إضافة إلى استخدام السلاح بكثرة في المناسبات، كالأعراس، والجنازات، والمسيرات الحزبية، وفي الانتخابات، خصوصًا بعد إعلان النتائج، سواء ابتهاجًا بالفوز أو غضبًا من الخسارة، وعقب كل شجار عائلي.
حتى الآن، يتسامح الناس ويقبلون ويتعايشون مع وجود السلطة على الرغم من كل بلاويها السياسية والاقتصادية؛ لأنها أساسًا وفرت قدرًا من الأمن والسلم الأهلي عبر احتكار السلاح إلى حد ما بسلاح واحد، فهي فشلت في حماية المشروع الوطني والتقدم على طريق تحقيقه وتجسيد الدولة الفلسطينية المستقلة، ولم تطرح إستراتيجيات جديدة قادرة على تجاوز المأزق المستعصي الذي وصلت إليه، وقد يتفهم البعض ذلك؛ لأن هناك اختلافات في البرامج والحسابات واختلالًا في موازين القوى لصالح الاحتلال، وبيئة عربية غير مواتية، ولكنهم لا يتفهمون أبدًا استمرار وتفاقم حالة الفلتان الأمني كما يحدث في السنوات الأخيرة، التي إذا استفحلت ستحرق الأخضر واليابس، فلن يرضى الناس بوجود سلطة تتساوق مع الاحتلال ومشروع السلام الاقتصادي والتعاون الأمني، ولا تقوم أيضًا بدورها في حماية الناس وتوفير الأمن ومعاقبة المجرمين، وتوفر - بما تقوم به وما تتجنبه - بيئة تساعد على الفوضى وانتشار السلاح، وأخذ الحق باليد عبر عدم محاسبة المجرمين نتيجة تواطؤ أو عجز، وهذا سيدفع كل فرد وكل عائلة وكل فصيل وكل شركة وصاحب مصلحة إلى اقتناء السلاح، سواء للدفاع عن نفسه، أو لأخذ حقه، أو ما يعتقد أنه حقه بيده.
وفي هذا المقال، أحذر من الفوضى والفلتان الأمني اللذين سيقودان إلى اقتتال لا ينتهي، فيما يد الاحتلال لن تكون بعيدةً، بل هي في صلب كل ما يجري، فالاحتلال هو الذي أجهض تحقيق المشروع الوطني، ويسعى إلى القضاء على الهوية الوطنية والكيان الوطني (منظمة التحرير)، وإلى استكمال تحويل السلطة إلى وكيل أمني بل أفق سياسي، وربما الى سلطات متنازعة كما فعل بتشجيع الانقسام بين الضفة والقطاع، وهو يغذي انتشار السلاح والجريمة للإمعان في تفتيت الشعب الفلسطيني إلى شظايا متصارعة مع بعضها البعض، بما يمكنه من فرض الحل الإسرائيلي الذي يتجاوز كل الحقوق الفلسطينية.
ولنأخذ مثالًا على ذلك ما يجري لشعبنا في الداخل من انتشار للسلاح والجريمة بكل أنواعها، لدرجة سقوط معدل 100 قتيل كل عام على خلفية الثأر وغيره؛ أي أعلى بكثير من معدلات الجريمة المماثلة لدى اليهود في إسرائيل، وأعلى من المعدل في الضفة والقطاع والأردن؛ لأن الشرطة الإسرائيلية لا تلقي القبض على معظم المجرمين الفلسطينيين في الداخل، بينما تلقي القبض على كل المجرمين الإسرائيليين الذين يرتكبون جرائم ضد اليهود.
إن ما أوصلنا إلى هذا الحضيض أن السلطة تهاونت مع من يطلق الرصاص على الخصوم السياسيين، خصوصًا من معارضي السلطة، كما حصل سابقًا مع عبد الستار قاسم، ونزار بنات، وحسن خريشة، وكذلك مع ناصر الشاعر الذي أُطلق الرصاص على بيته وبيوت أشقائه من شهرين، وهدده مسلحون أكثر من مرة بإصدار بيانات مصورة من دون أن تحرك السلطة ساكنًا.
كما يقال شر البلية ما يضحك، فإسرائيل غاضبة هي الأخرى من السلطة، فقد عبرت عن غضبها مرارًا، آخرها بعد تصدي أبطال المقاومة في نابلس لاقتحام قوات الاحتلال للبلدة القديمة؛ حيث استمرت الاشتباكات لساعات عدة، وكانت بسالة المقاومين وشجاعتهم واستعدادهم لافتة للنظر، فيتساءل الخبراء الإسرائيليون: أين السلطة؟ ولماذا لا تمنع المقاومين؛ حيث قدمت كتيبة جنين المثل، وشجعت كتائب أخرى على العمل في نابلس ورام الله وغيرهما من مدن الضفة؟ بينما يشيد وزير الداخلية الإسرائيلي بالتعاون المحدود من السلطة!
لا بديل من إحياء المشروع الوطني فهو القاسم الأعظم القادر على توحيد الفلسطينيين، وإفشال مخططات الاحتلال السياسية وإشاعة الفوضى والفلتان الأمني وتعددية السلطات، وهذا يتطلب إعادة النظر كليًا في السلطة، وتغيير وظائفها والتزاماتها وموازنتها؛ لتصبح سلطة في خدمة المشروع الوطني، وأداة بيد منظمة التحرير الموحدة بعد إعادة بنائها على أسس جديدة وطنية وديمقراطية لتضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي التي تؤمن بالمشاركة.
هذا هدف صعب التحقيق، نعم، ولكن عدم تحقيقه يقود إلى حضيض أسوأ، وهكذا ... بلا نهاية ولن يكون هناك حد نهائي للتدهور.
"اللهم اشهد أنني قد بلغت".