احتشدت السلطة الفلسطينية بكل طاقتها لدعم الشاب محمد عسّاف في سباقه على لقب محبوب العرب في برنامج "أرب ايدل". وهو احتشاد يشبه تماماً احتشادها يوم الحصول على صفة الدولة غير العضو في الأمم المتحدة. تعيش هذه السلطة على "الأفورة"* في كلّ شيء حيث لا شيء حقيقي على الأرض يُفتخر به، إذن فلنبالغ في كل شيء، هكذا تتحول دولة غير عضو لإنجاز تاريخي ويتحول فوز شاب موهوب في برنامج غنائي نصراً وطنياً يعوض السلطة عن اخفاقاتها اليومية.
تمثل هذا الاحتشاد، في أقلّه باعتماد الرئيس محمود عباس عساف "سفير فلسطين الثقافي والفني"، ولا أدري معنى ذلك عملياً. ولكن هذا الاعتماد صاحبته توجيهات من الرئيس للسفارات الفلسطينية في العالم بحث الجاليات الفلسطينية على التصويت لعساف. لا يحق لي أن أعلق كثيراً هنا، فاللاجئون الفلسطينيون المبعثرون في أرجاء الكون لديهم الكثير ليقولوا خاصة أن السفارات تلقت التوجيهات من سيادته.
لستُ من محبي عقد المقارنة بين حشد الدعم لقضية الأسرى وحشدها للتصويت لعسّاف، ولا أسعى حتى للمقارنة بين تكاليف دعمه وبين امكانية تحويلها لدعم عائلة فقيرة مثلاً، كما لا أعتبر أن مشاركته في البرنامج شأنٌ يحتاج لفتوى وطنية لكي تبرر فرحاً في ظل سواد قاتم، لكن هذه الحجة الأخيرة تحولت من دعوى للفرح العادي إلى دعوى للفرح "الوطني" وكأنه انجاز تاريخي غيّر الواقع.
يا سلطة "الأفورة" أشيروا علينا بمكان واحد لم تخفقوا فيه، أعطونا قضية وطنية واحدة نجحتم في تسجيلها كانجاز، هل احتفاؤكم هذا تعويض عن فشلكم؟!
يا شعبنا الفلسطيني، هلاّ تفكرت قليلاً؟ شجّع عساف كما تريد، ولكن أرجوك لا تحوّله إلى حزب سياسي وايديولوجية ثورية تعتبر أن تقييم راغب علامة له علامة نصر، او شهادة نانسي عجرم فيه منتهى أمانينا، أو أن عدد الرسائل التي تربحها قناة "الام بي سي" هو معيار تفوقنا كوطن.
أرى أن كلّ هذا الاصطفاف دليل واضح على افلاسنا كشعب، ليس لأن الغناء مسألة غير مهمة بل لأن نجاح شاب في برنامج غنائي هو دليلنا الوحيد أننا على قيد الحياة!
مطالعة الأخبار "العسافية" تدلك على معالم هذا الإفلاس، تظن بعدها أن - كما قال أحد المعلقين في الفيسبوك - هناك 200 رأس نووي على حدود بلادنا العتيدة، ولم يبق لنا إلا الاهتمام بعساف ونجاحه باعتبار ذلك "هماً وطنياً" على رأس أولوياتنا.
يخبرنا موقع إخباري أن الجالية الفلسطينية في إحدى الدول الأوروبية "تستنكر" محاولات تزوير الأصوات المؤيدة "للنجم الفلسطيني محمد عساف". موقع آخر ينقل لنا "تحذير" الخبراء والمختصين الإعلاميين من الإفراط في الثقة في فوز محمد عساف، لحظة؟ ألم يجدر بهم أن يكونوا - في مثل هذه الحالة - خبراء نفسيين؟ ما حدود خبرتهم يا ترى؟
تفاجئك قدرات وطاقات هذا الشعب في الحشد لهكذا قضية، فلسطينيون في القدس يطلقون "حملة" لدعم عساف، يضعونها - كعادة الفلسطينيين- في سياق إيصال"رسالة القدس والداخل عالياً متخطية الحدود". حتى "قيمة" من يسمون أنفسهم "كتاب وصحفيين" قد تأثرت بعساف، أحدهم يكتب مقالاً بعنوان "محمد عساف في خطر وقد يخسر اللقب". أي تجنيد يتجنده هؤلاء "الكتاب والصحفيين"؟ لصالح ماذا؟ آخر أستاذ في الجامعة يطلّ علينا من تقرير تلفزيوني ليحذرنا من عواقب عدم تمكن الشعب من التصويت لعساف لغلاء تكاليف الاتصالات... أستاذ في الجامعة؟
في ظل ذلك يغيب كلّ النقاش الجدي عن البرامج الاستهلاكية التي تعتاش على سذاجة المصوتين وتحمسهم غير المفهوم. من المفهوم أو من الطبيعي جداً أن يعجبك أداء مغني وتنحاز له نفسياً أما أن يتحول الشعب كلّه لأداة في يد "الام بي سي" لكسب الاموال من وراء الاصطفاف الوطني الساذج فهو الأمر المستهجن.
فبحسب "جوال" تم ارسال أكثر من مليون و400 ألف رسالة عبر شبكتها منذ بداية البرنامج، أي ما قيمته مليونين و250 ألف شيكل في بلد متوسط دخل الفرد فيها ما يقارب الألفي شيكل. هذا حسب أقل تقدير.
وفي هذا الاطار لا يمكن لمعايير التجارة والربح أن تقف متفرجة، بنك فلسطيني يعرض منحتين لأكثر طالبين جامعيين يرسلان رسائل تصويت لعساف، وكأن من يحتاج المنحة الجامعية حقاً يملك أن يصوت بعدد هائل من الرسائل؟!
جوال والوطنية تتنافسان في إصدار البيانات الإعلامية لإظهار مدى "الدعم"الذي تظهرانه لعساف عبر تخفيض سعر الرسائل، حتى ادعتا أخيراً أن السعر المعتمد لرسالة التصويت هو بسعر التكلفة وأنها لا تربح منه شيئاً. غريب؟ لا تربح؟ كيف وهي تصرف ملايين على دعم عساف، منها جوائز نقدية تعلنها للمصوتين، ومنها ما قيمته أكثر من 500 ألف شيكل هي قيمة بطاقات التعبئة التي وزعتها "مجانا" على المصوتين، حتى الآن.
رجائي الأخير، ممكن أن يوضع التصويت لعساف ودعمه في إطار دعم شاب موهوب وفقط (هذا إذا تغاضينا عن كل عيوب برنامج استهلاكي كبرنامج "العرب ايدل") ممكن عدم تحويل ذلك إلى رؤية كاملة للحياة، وبرنامج سياسي "نناضل" و"نحذر" و"نستنكر" و"نتظاهر" - كما حصل في غزة - من أجله؟
هل من الممكن أن لا نحوّل كل عمل يقوم به الفلسطيني في العالم إلى "طريق لإيصال صوت القضية الفلسطينية ورفعه عالياً"، هل يمكن أن نأكل ونشرب وننام وندرس ونحب ونتزوج ونغني وندعم الموهوبين دون أن "نسوّق" لذلك كلّه باعتباره جزءاً من قضيتنا الوطنية، بشكل غالباً ما يظلمها؟
*الأفورة: مصطلح مصري مشتق من كلمة over في الإنجليزية، ويعني التضخيم والمبالغة.