فلسطين المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: تُحيي حركة فتح ذكرى انطلاقتها السابعة والخمسين، في مشهدٍ تتعرض فيه لانشطارٍ داخلي، وتراجعٍ في الشعبية الجماهيرية، إثر توسع الفجوة بين أبناء الحركة وقيادتها المركزية نتيجة عوامل عِدة تاريخية وواقعية، يراها البعض قابلة للحل والحوار، وآخرون يعتقدون أن لا مفر من الاعتراف بحقيقة تدهور "أم الجماهير" نحو منحدرٍ لا عودة منه، غير أن بيانات الحركة تُشير إلى أن مؤتمرها الثامن الواجب انعقاده في الواحد والعشرين من مارس القادم، يحمل في طياته قراراتٍ مفصلية تنهض بالحركة وتوضح الأفق السياسي على الأصعدة كافة.
"حين بدأت الخلافات"
ولا يمكن اليوم فصل تاريخ حركة فتح عن منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست بعدها بسبع سنين؛ إذ أن قرارات المنظمة كانت تتماهى مع توجه الحركة حسبما يوضح لـ "شبكة قدس" الدبلوماسي الفلسطيني سفير منظمة التحرير في الصين سابقًا، عبد الفتاح "أبو نائل" القلقيلي، الذي يعتقد بأن مشكلة فتح التاريخية والأساسية حتى اليوم هي "عدم التوافق الداخلي" عندما بدأت الإشكاليات مع الأردن في أيلول الأسود مطلع سبعينيات القرن الماضي وانقسمت الآراء بين مؤيد لسياسة الحركة حينها وبين معارض، فيما تشتت القيادة بين الأردن وسوريا ولبنان.
يروي القلقيلي تفاصيل ذروة الخلافات عندما أعلن المجلس الوطني عام 1974 عن برنامج النقاط العشر والذي كان أبرزه "إقامة سلطة وطنية على أيّ قطعة محررة من فلسطين وذلك بالوسائل كافة على رأسها الكفاح المسلح والنضال ضد كل من يؤمن بالصلح والاعتراف بالحدود الآمنة مع المحتل"، وعندها انقسمت الحركة لعدة مواقف، بين المفرّطين الذين سخّفوا الماضي النضالي ورفعوا شعار "لا يسر القلب إلا ما يأتي من الغرب" وبين الذين رفضوا أي تحرك سياسي ولم يرفعوا سوى شعار البندقية، وكان شعارهم "نيسان خبّر أيلول، الحل السلمي مش مقبول، لا في العرض ولا في الطول".
من هنا طفى على السطح تيارٌ بحركة فتح يخالف مبادئ الحركة الأساسية ويؤمن بالتسوية السياسية مع الاحتلال، وكان عرّاب هذا التوجه، رئيس الحركة الحالي ورئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، الذي لم يؤمن يومًا بـ "تدمير إسرائيل"، والذي طرح مشروع حلٍ للصراع "الفلسطيني - الإسرائيلي" من خلال "الهجرة العكسية"؛ أيّ إقناع اليهود بالهجرة الثانية والعودة لبلادهم، حتى صار هذا المشروع هو نهج حركة فتح اليوم، كما يبين القلقيلي لـ "شبكة قدس".
وأوضح أنه عقب اندلاع الانتفاضة الأولى في عام 1987 والتي أعقبها إعلان الدولة الفلسطينية في الجزائر عام 1988؛ أدركت أمريكا خطورة الوضع القائم وبدأت مشاورات سرية مع أصحاب فكر التسوية في فتح أبرزهم أحمد قريع ومحمود عباس، مقابل الاعتراف بـ"إسرائيل"، وتتابعت الوقائع التي تعزز انقسام الحركة عند الانحياز مع العراق في حربها تجاه الكويت عام 1990 ووقف الدعم العربي الذي جعل الحركة في مأزق عندما عجزت عن دفع مخصصات المتفرغين فيها.
ويقول القلقيلي: فتح اليوم تمر بمرحلة الشيخوخة، وهي غير قادرة على مواصلة الطريق بذات الهمة، وكل نشاطات الحركة الآن هي محاولة إنعاش فقط، والخطأ الفادح كان في إقصاء من اختلفوا مع الحركة في انتخابات 2006 و2021، ففي عهد أبو عمار كان يتم احتواء هؤلاء الأشخاص، ولكن اليوم من يخالف رأي الحركة مهدد بالفصل، وانقطعت شعرة معاوية بين الشعب وقيادة الحركة، وعلى فتح في مؤتمرها الثامن القادم أن تغير قيادتها الحالية حتى تستطيع تغيير الواقع.
"من الثورة إلى السلطة"
ينبه مدير مركز القدس للدراسات السياسية، عريب الرنتاوي، إلى أنه لا ثمة فصل بين حركة فتح اليوم والسلطة الفلسطينية الحاكمة بالضفة، والتي "يدفع الشعب ثمن فشلها سياسيًا وثمن شيخوخة قيادتها وثمن رهانها المحصور بالتنسيق الأمني الذي رفعته فتح لدرجة القداسة"؛ نتيجة تفرد الرئيس عباس وعدد قليل جدا من الأشخاص بقرارات السلطة والحركة نيابة عن اللجنة المركزية، مشبهًا أعضاءها بـ "الكومبارس".
ويضيف الرنتاوي خلال حديثه لـ "شبكة قدس": لا وجود لتيار حقيقي داخل الحركة يسعى لإنقاذها من السقوط جراء غرق قيادتها باستغلال السلطة، وتعطيل الانتخابات وقرارات المجلس المركزي، لصالح مكاسب فئوية. مؤكدًا أن "فتح تفتقر للحد الأدنى من مقومات البرنامج النضالي الذي نشأت عليه وفقدت مشروع السيادة والدولة الديمقراطية وباتت بلا منهج علماني ولا أيديولوجيا".
ويُحمّل الرنتاوي مسؤولية ما آلت إليه القضية الفلسطينية من تراجع لحركة فتح التي تكيّفت مع مشروع اليمين الإسرائيلي المتمثل بالتسهيلات الاقتصادية وتقليص الصراع وتحسين الظروف المعيشية بالحركة والتنقل في مناطق "أ - ب" وتخفيف الاحتكاك بين الفلسطينيين والمستوطنين على حساب مشروع المقاومة والاستقلال.
وختم مدير مركز القدس للدراسات السياسية حديثه بالقول: "بات واقع فتح يفتقر لنظام المحاسبة والمساءلة ولا توجد قيادة موحدة ولا يوجد نهج ديمقراطي، كما لا يوجد انتخابات منذ 16 سنة".
"غَباش الرؤية"
ويرى سرحان دويكات، القيادي الفتحاوي والمقرب من ناصر القدوة - المفصول من حركة فتح - أن الأخير لم يفصل من الحركة بشكل نظامي وهذه على سبيل المثال أبرز إشكاليات واقع فتح المتمثل بالتفرد وتغييب دور المجلس الثوري وقراراته، ووقوع الحركة بشكل من التناقض بين هيكلية السلطة وبين كونها حركة تحرر وطني، فيما يؤكد على ضرورة أن تجدد فتح نفسها وشبابها وهيكليتها، لأن صورتها باتت "باهتة" أمام الشعب، حسب تعبيره.
وحسب القيادي الفتحاوي فإن المطلوب من الحركة الآن "التجديد والتغيير"؛ التجديد في الأطر والقيادات واللوائح المسيطر عليها من بعض قيادات السلطة، والتغيير المعطل منذ انعقاد المؤتمرين السادس والسابع؛ نتيجة عدم وجود العقلاء في الحركة الذين ينادون بتفعيل الخيارات المتاحة لمواجهة الاحتلال، من المقاومة الشعبية المدنية المتمثلة بالعصيان المدني إلى الكفاح المسلح الذي نشأت عليه فتح.
ويوضح دويكات أن خيار التسوية السياسية - الذي تتبناه الحركة اليوم - ولد ميتًا ولم يثبت تقدمًا منذ 30 عامًا، ولهذا "فتح مطالبة في مؤتمرها الثامن بحمل برنامج مقاوم، ومطالبة بتغيير مدروس وليس المطلوب تغييرًا تجميليًا في بعض أعضاء المركزية".
وعن سؤال "شبكة قدس" عن احتمالية حضور عضو مركزية فتح المفصول ناصر القدوة، وقيادات فتح في قائمة "الحرية" الانتخابية للمؤتمر الثامن؛ أجاب دويكات: إن كانت قيادة فتح تؤمن بالتعددية؛ من تنطبق عليه شروط النظام الداخلي سيكون عضوا بالمؤتمر ومن لا تنطبق عليه لن يكون عضوًا، وحتى الآن لم يفصل أحد من فتح بقرار قانوني، لأن قرارات الفصل كانت بقرار متفرد.
ويرى عضو المجلس الثوري سابقًا، عدلي صادق، والمقرب من "تيار الإصلاح" التابع للمفصول من فتح محمد دحلان، فإن مفهوم التحرير لدى الحركة اختلف من الأراضي الفلسطينية كاملة إلى البحث عن شرقي القدس وحدود الـ67 نتيجة التخلي التام عن الكفاح المسلح الذي يُعلنه الرئيس عباس مسخرًا الأجهزة الأمنية لمحاربته حسب تعبيره.
ويتابع صادق حديثه لـ "شبكة قدس" بالإشارة إلى عدم قدرة فتح اليوم على جذب الشباب للانضمام في صفوف الحركة جرّاء مرورها بفترة رديئة ينتظر الناس فيها مرحلة ما بعد عباس" على حد وصفه. مشيرًا إلى أن الحركة قادرة على التغيير والتوحد مع المفصولين والصامتين فيها حال تغيير الحلقة الضيقة من القيادة الحالية.
"وعود بمستقبلٍ واضح المعالم"
يقول عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، عباس زكي، خلال حديثه لـ "شبكة قدس"، إن حركته لم تترك الكفاح المسلح، "وكل مرحلة لها استراتيجيتها وأهدافها، والشعار الدائم هو: على القدس رايحين شهداء بالملايين، ولكن الواقع يتطلب نهجًا مختلفًا عن الذي انطلقت به، فاليوم إسرائيل رهن وجود الإمبريالية الأمريكية، وعند سقوط أمريكا، سيبدأ العدّ التصاعدي للثورة الفلسطينية بقيادة فتح".
ويضيف زكي أنه "حال حصول الفلسطينيين على شرقي القدس ستنتهي العنجهية الصهيونية ويبدأ مشروع التحرير، وعلى الرغم من أن الاحتلال يسيطر عليها، إلا أننا موجودون ونقاوم فيها".
وعن سؤال "شبكة قدس" حول تفرد شخصيات محددة بقرارات الحركة، يقول زكي: لا يجب أن نركز على وجود تفرد في القرارات داخل الحركة، بل يجب التركيز على الاحتلال الذي يسعى إلى تقسيم ما هو مقسم، والعبرة بالخواتيم، ولا أعتقد أن الجيل الحالي سيرى النصر، نتيجة وجود دول عربية مطبعة وأخرى غربية تدعي حقوق الإنسان ولا تقف مع القضية الفلسطينية.
وينفي زكي أن تكون فتح غارقة بالسلطة مستشهدًا بأن "معظم الأسرى في سجون الاحتلال من أبناء فتح وهناك عدد كبير من الشهداء ينتمون لحركة فتح"، مؤكدًا أن حركته ذاهبة نحو مؤتمرها الثامن لطرح قضايا أبرزها: ورقة فتح السياسية، أفق سياسي واضح بعيدًا عن التسوية، نظام جديد سيكون حازمًا، والتأكيد على الوحدة الوطنية، وبحث طرق تصعيد المقاومة".
وحول إمكانية دعوة تيار ناصر القدوة وتيار دحلان إلى مؤتمر الحركة الثامن، أوضح زكي لـ "شبكة قدس"، أنه سيدعو إلى لملمة أوضاع فتح وأن تكون كل الشخصيات والأفكار والقامات الفتحاوية ضمن المؤتمر، وبالنهاية من يقرر هذا هو المؤسسة الفتحاوية ككل.
وختم عضو مركزية فتح حواره مع "شبكة قدس" عن الاحتلال قائلا: "نحن نعلم عدونا، ونعلم وجود هشاشة عظام لديه حاليا، ويمكن أن تخاف الدول من إسرائيل، لكننا في بطن الوحش نستطيع تمزيق أمعائه، وبقرار مستوى سياسي، ولكن حاليا عندنا شعب وعندنا مصالح ولن نفرط فيها".