يعتقد الناظر إلى حالة الضفة الغربية منذ عدة أعوام أنها بعيدة كل البعد عن المواجهة المسلحة المباشرة مع الاحتلال، على الرغم من التحذيرات المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بانفجار الأوضاع فيها وخروجها عن السيطرة، بينما كان التنسيق الأمني يأخذ مراحل متقدمة ومنقطعة النظير.
عادت مشاهد قديمة متجددة تحتل المشهد اليومي الفلسطيني لا سيما في الآونة الأخيرة، كما أن المتابع لوسائل التواصل الاجتماعي يدرك أثر استحواذها على السلوك الشعبي وإلى أي مدى عاد اهتمام الشارع الذي لم يندثر أصلًا بها وتفاعله معها، لكن يبقى السؤال ما الذي أعاد المواجهة من منطلقها الحالي إلى دائرة الأحداث اليومية وعدم اقتصارها على جنين فحسب بل انسحابها تدريجيًّا على مدن الضفة بشكل متفاوت؟ وبالتالي قد يختلف تأويل الأسباب وتحليلها ويتباين ترتيبها من متابع إلى آخر، لكننا في محصلة الأمر أمام حالة ليست جديدة ولا غريبة بل هي الطبيعية في ظل الاحتلال، ومن هذه الأسباب.
استمرار الاعتداءات المتصاعدة بحق الشعب الفلسطيني، سيما اعتداءات المستوطنين والتوسع الاستيطاني المخيف وسياسة مصادرة الأراضي الممنهجة وتقسيم الضفة إلى معازل منفصلة عن بعضها البعض، كما أن الاجتياحات اليومية للمدن والاعتقالات والحواجز المنتشرة على مداخلها بحجة الضرورات الأمنية، بالإضافة إلى مشاهد الإعدامات بحق الرجال والنساء خصوصًا في مدينتي القدس والخليل شكل حالة من المقاومة الذهنية والنفسية الداخلية على مدار الساعة للاحتلال والذي يترجم على الأرض بالمواجهة المسلحة والشعبية.
كما كانت معركة سيف القدس التي فقدت فيها "إسرائيل" عنصرَي المفاجأة والمبادرة حدثاً فاصلًا الأشهر القليلة الماضية استطاعت أن تؤثر في بعض المجريات على الأرض، حيث جاء تدخل المقاومة بعد نداء المقدسيين لها علانية وبالتالي كان الربط بين قضية الشيخ جراح والأحداث في المسجد الأقصى على وجه الخصوص وما يدور بالضفة والداخل المحتل عام 1948 بشكل عام بغزة ومقاومتها بعد محاولات العزل، ما هشّم الحواجز النفسية المتراكمة على مدار أكثر من خمسة عشر عامًا للمواجهة الحقيقية في نفوس الشباب وجعل صورة الصواريخ المنهمرة على تل أبيب لا تفارق مخيلتهم وباتت نقاط الصفر هي الخيار المفضل كما شاهدنا الشهيد علاء زيود قبل يومين، كما ولا يمكن التغافل الأمل الذي بثته عملية نفق الحرية والأثر في إعادة قضية الأسرى إلى وضعها الطبيعي على المستويين الشعبيين المحلي والعالمي.
في منتصف عام 2007 وخصوصًا بعد أحداث الانقسام الدامية بين شقي الوطن فشلت "إسرائيل" في سعيها بالدرجة الأولى إلى تحقيق هدوء طويل الأمد في الضفة الغربية وتأجيل أي انتفاضة أقصى مدة ممكنة بالإضافة إلى احتواء الأحداث بشتى أشكالها، كما سخرت الخطط الاقتصادية ومحاولات الإيهام بتحسين الدخل للمواطن في الضفة والإمعان في السياسات والأنماط الاستهلاكية حد الإدمان كالقروض البنكية دون شروط والعروض التجارية المستندة إلى الشراء طويل الأمد لذات الهدف مما يجعل التخلي عنها مستحيلًا والتوجس من أي موجة ثورية قادمة قد يرافقها انقطاع في للرواتب أو تراجع في الحالة التجارية أو إغلاق لسوق العمل في الداخل المحتل، كما أن "اسرائيل" كانت مترددة في تغيير الوضع بصورة جذرية أو على الأقل وضع قواعد جديدة للتعامل مع السلطة الفلسطينية ومنحها شيئًا ملموسا على صعيد المفاوضات تقدمه للجمهور الفلسطيني وفشل التعويل على المجتمع الدولي، ومن الجدير ذكره أن هذا ليس بالشيء الجديد، مما زاد الأفق السياسي لأي حل سلمي ظلامًا إلى ظلامه وقدَّم خيار المواجهة رغم صعوبة عواقبه على كل الخيارات المطروحة.
حتى اللحظة تبقى فكرة اندلاع انتفاضة ثالثة في ظل الانقسام المؤلم والفصل السياسي بين الضفة وغزة بعيدة عن الواقع على الرغم من تسارع الأحداث، ولا تخرج الأحداث الحالية رغم أهميتها عن هيئة هبات شعبية لها ما بعدها، لأن الانتفاضة بحاجة إلى قيادة موزعة في جميع الأماكن قادرة على الاستثمار السياسي من خلال المواجهة وهذا مفقود في المرحلة الحالية، لكن الديناميكيات المتطورة في مجتمعنا تخلق أحيانًا أوضاعًا غير متوقعة.