شبكة قدس الإخبارية

"ذباب السلطة".. كتائب متأهبة لتصفية الصحافيين

GettyImages-1081734904
معهد الجزيرة للاعلام

الذباب الذي تشكو منه مجتمعات العصر الحديث، والذي يتمثل في جيوش خفية من الكائنات المدربة على استهداف المعارضين والمناوئين، عبر مهاجمتهم والتبليغ عنهم وإغراقهم في موجة من السلبية، ليس ظاهرة افتراضية محضة.

ففي بعض الدول العربية ألهمت فكرة "الذباب الإلكتروني" الأنظمة السياسية، فأنتجت ذبابا معدلا جينيا، يتجسد في منابر إعلامية؛ تلفزيونية وورقية وإلكترونية، مهمتها تنفيذ عمليات إعدام في حق البقية الباقية من الأقلام والوجوه الإعلامية القابضة على جمر المهنية والاستقلالية والحياد.

صنف جديد من الدعاية الإعلامية لا يكتفي باستهداف الجمهور بحملات التنميط والتنويم والتوجيه، بل باتت هناك فصيلة جديدة من الإعلاميين تستعمل أسلحة دمار جديدة بدل الأقلام والعدسات والميكروفونات، مستفيدة من دعم سخي من جانب السلطات أو الأطراف المقربة منها.

استثمرت كتائب الإعدام الرمزي ما تتيحه التكنولوجيا الجديدة والعصر الرقمي والإمدادات المالية السخية، لتحاصر الصحافة المهنية داخل ركن استقلاليتها الضيّق، وتغرق الرأي العام في زوابعها التضليلية، قبل أن تستفرد بالمنابر والشخصيات الإعلامية المتمنعة على التوظيف والاتجار بالضمائر، وتوجّه إليها وابلا من الحملات التشهيرية.

تستغل "صحافة القتل" هذه قواعد البيانات التي توفرها الأجهزة الاستخباراتية حول الحياة الخاصة والأسرار الحميمية. ومن لم يعثر له على بيانات قابلة للتوظيف في سيرته الشخصية وسلوك عشيرته الأقربين، تولت كتائب الإعدام الرمزي مهمة اختلاق القصص والفضائح له، وترويجها عبر أذرعها الدعائية المتمتعة بالدعم والحماية.

إنه واحد من أساليب القتل المستحدثة في عصر الثورات المضادة وتطويع الشعوب واستبدال نشوة الربيع العربي بمرارة الخيبة والشعور بالعجز واستحالة الإقدام على محاولة التغيير من جديد. قصة من التاريخ الغابر للإعلامي المستهدف، أو عبارة مقتطعة من محادثة شخصية عبر أحد التطبيقات الإلكترونية، أو انتهاز لحظات وجود عابر في أحد الأماكن المشبوهة أو بالقرب منها، كلها مواد أولية تضاف إليها خلطة من بهارات التحوير والتضخيم والإخراج من السياق، لصنع اللغم الذي غالبا ما يكون كافيا لتفجير رصيد الثقة والمصداقية التي يتمتع بها الإعلامي أو المنبر المستهدف.

وفي حال استعصى الإيقاع بالإعلامي أو قل الهدف، فإن سجلات الحيوات الشخصية للأزواج والأبناء والآباء والإخوة تصبح منجما لاستخراج الأسرار والخصوصيات، حتى إذا جاءت لحظة التصفية، جرى إطلاق الحملات التشهيرية التي لا تهدأ إلا بعد التأكد أن الشخص المستهدف قد "أسلم" الروح رمزيا.

يتعرّض الصحافيون عبر العالم لجميع أشكال التصفية والقتل والتشويه، بغرض إسكاتهم ومنعهم من كشف الحقائق التي تدين الأطراف الممسكة، دون سند شرعي، بخيوط السلطة والنفوذ والثروة.

فمن الاغتيال المباشر إلى افتعال الحوادث المميتة ولفّ عمليات التصفية بغلاف الانتحار، إلى تسريب أسرار الحياة الشخصية وافتعال الفضائح والاستدراج نحو التورّط في أفعال تعتبر لا أخلاقية في منظور المجتمعات، تختلف الوسائل لكن الغاية واحدة، هي إخراس الأقلام التي ترفض الخضوع للإملاءات، فيصبح كسرها "آخر الدواء".

لكن، وفي بعض السياقات التي تتسم بحرص الأنظمة السياسية والشبكات المرتبطة بها على الاحتفاظ بقناع ناعم فوق وجهها الخشن، ترتدي الأيادي التي تتولى عملية إخراس الصحافيين هذه قفازات حريرية، وتعمد إلى نهج أساليب تكاد تضمن الفعالية نفسها لعمليات القتل والتصفية المادية، لكنها لا تبقي أثرا ولا تثير عواصف كمثل تلك التي تلت عملية اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي.

تنسج الخيوط الرفيعة لهذه القفازات في مصانع الدولة العميقة والإمبراطوريات المالية، لتنجز التفافها الصامت على غرف التحرير فتقتل أقلامها وأصواتها المزعجة. يجثم أعداء الصحافة هؤلاء على أنفاسها بأجسامهم الضخمة، حاملين عصا في يد وجزرة في أخرى، والنتيجة أشكال متنوعة من القتل الرمزي ووصفات متباينة من السمّ والدّسم، تقدّم على موائد الإعلام لتنتج أعراض التخمة والهزال والتسميم، وتحقق بالتالي هدف التعتيم على قضايا الفساد السياسي والاقتصادي، وتمنع يد الصحافي من أن تمتد نحو أعين الرأي العام لتفتحها على الحقيقة. والقتل الرمزي لا يتعلق بالاستهداف من طرف الذباب إياه فحسب، بل بوسائل أخرى تزيد من فداحة القتل.

الخنق المهني.. الضربة القاضية

أول خطوط المواجهة بين الصحافة المتطلّعة نحو الاستقلالية عن السلطة وبين هذه الأخيرة، هو الولوج إلى المعلومات، فالصحافي الذي يتمرّد على "قاعدة" الاكتفاء بتحرير ما يقدّم إليه وفقا للطقوس المرعية في البلد وتحت سقف تابوهاته، يجد نفسه مجبرا على بذل جهد مضاعف مقارنة بـ "زملائه" الذين يشتغلون في غرف تحرير المؤسسات الإعلامية الرسمية أو المقربة من السلطة.

 

نتيجة لذلك، يجد هذا الصحافي العصي على الترويض نفسه مطالبا بالقفز فوق أسوار شاهقة تحيط بدوائر اتخاذ القرار الرسمي، ومحاولة العثور على مصادر تقبل "التواطؤ" معه ليصل في النهاية إلى خبر سوف لن يجد له من إسناد غير ثقته في مصادره، وثقة قرائه فيه.

في مثل هذه الحالات يصبح بعض الزملاء العاملين في المؤسسات الإعلامية الرسمية، "مراسلين" غير معلنين لزميلهم الذي يشتغل في منصة إعلامية "مستقلة" أو بعيدة عن يد السلطة، فهناك شعور دفين بالغبن والظلم يطول العديد من الإعلاميين "الرسميين" بسبب الحجر المفروض على مهنيتهم، وإجبارهم على إخفاء الجزء الأكبر مما يبلغ إلى علمهم، بدل صياغته في قالب إعلامي وإيصاله إلى المتلقي.

وفي كثير من الأحداث والمناسبات التي تجري خلف الأبواب المغلقة للقصور والسرايا، كانت أعين الزملاء المضطهدين تنوب عني كصحافي مستقل، بل تجعلني في كثير من الأحيان أحقق السبق بشكل يثير حنق وسخط الحاكمين. ففي بعض الاستقبالات الخاصة لرئيس الدولة أو من يمثلونه، تكتفي السلطة ببث مقاطع مصورة من بضع ثوان، وإرفاقها بقراءة تعليق كُتب من محبرة رسمية، لكن الزميل الذي يتولى عملية التغطية لحساب المؤسسة الإعلامية الرسمية يتولى "تسريب" مضمون المحادثات، وبشكل خاص ما طُلب من الحاضرين عدم نشره، فينتقم لشرف مهنته بتسريبه.

مغامرة التواطؤ المهني

هذا الأسلوب سمح لي بالحصول على تفاصيل كثيرة، حققت بها السبق في بعض الأحيان، واضطررت إلى ليّ عنقها وتهذيبها وتعديلها في أوقات كثيرة، إما خوفا من الملاحقة والعقاب لحساسية ما توصلت إليه من معلومات، أو بغاية حماية مصدري وعدم إيذائه.

في إحدى هذه المناسبات، كانت "غنيمتي" المهنية سبق له وقع مدوّ، ألقاه بين يدي زميل حضر لقاء بين مسؤول رسمي كبير مع نظرائه في دولة أجنبية خلال زيارته لها، لم ينتبه هؤلاء إلى وجود عدد من الإعلاميين المحليين، والذين أخبروا زميلي المرافق لمسؤولنا الكبير، فلم يتردد في تقاسم المعلومة الحساسة و"الخطيرة" معي، طالبا مني تدبّر أمري في إلباسها القالب المهني اللازم لنشرها، مع الحرص على عدم انكشاف أمره.

كإعلامي يشتغل في غرفة أخبار خارج قبضة السلطة، كان علي أن أسلك القنوات المعتادة في مثل هذه الحالات، لتطبيق القواعد المهنية على المعلومة الحساسة التي حصلت عليها، وهنا لا صوت يعلو فوق صوت العلاقات الشخصية والصداقات التي نسجتها خلال مساري المهني، بما في ذلك شخصيات ومصادر من داخل مواقع المسؤولية. ودرءا لأي خطأ، قرّرت سلوك طريق التفافية طويلة لعرض المعلومة التي حرمتني النوم طيلة أيام على مصدرين مختلفين، أحدهما تواصلت معه بشكل مباشر عبر أحد التطبيقات المشفرة، والآخر عبر وساطة صديق مشترك، فكانت النتيجة تأكيد صحة المعلومة، ليؤدي نشرها إلى زلزال في الأوساط الرسمية، والتي ردّت في البداية بنشر تكذيبات غير رسمية على لسان منابر مقربة منها، قبل أن تعود لتعترف بصحة المعلومة.

دم المصادر في رقبة الصحافي

هاجس حماية المصادر التي غالبا ما تكون لي بها علاقات بنيت أساسا على الثقة، يضاعف من صعوبة العمل في أغلب الأحيان. ففي إحدى المرات تجرأ صديق يشتغل في موقع حساس على تمكيني من وثيقة تتضمن تفاصيل بشأن اتصالات جرت بين مؤسسات رسمية، حول موضوع شديد الحساسية يرتبط بضغوط دولية قوية تريد انتزاع تنازل مؤلم.

وبما أن الأمر كان يتعلّق بوثائق مدموغة بالرسمية، فقد تناولتها بالقدر الذي تستحقه من الوثوق، لكن الصعوبة كانت مرة أخرى في كيفية حماية المصدر، وسيطرة هذا الهاجس على عملية الصياغة الإعلامية جعلت النتيجة النهائية للمادة تُظهر أحد أطراف الموضوع كما لو كان هو مصدر التسريب، لتكون ليلة نشر الخبر عسيرة علي وعلى غرفة التحرير التي كنت أشتغل بها، بضغوط شخصية واتصالات وزيارات مباشرة في سكني الشخصي، بقصد حملي على كشف مصدري، وهو ما رفضته بشدة حماية لمصدري الذي لم يكن سوى أحد مستشاري المسؤول المعني الأول بهذا الموضوع.

طُعم المساعدة

وتبرز محاولة الترويض المتبادل بين الصحافي المستقل والسلطات في الحالات التي يتعلّق فيها الأمر بالولوج إلى مناطق عسكرية أو جبهات توتّرات ساخنة، حيث تدعوك السلطات إلى مرافقة الوفود الإعلامية التي ستنقلها إلى عين المكان للوقوف على "الحقيقة" بهدف تبرئتها من ارتكاب التجاوزات أمام الرأي العام، فيصبح الصحافي الذي لا سبيل لديه للوصول إلى موقع الحدث إلا الاستجابة لدعوة السلطات، أمام حرج كبير.

في إحدى هذه التجارب، كان عليّ أن أقبل بركوب قافلة إعلامية نقلتها السلطات إلى خطّ التماس في مواجهة عنيفة في أحد أطراف البلاد، لكنني حملت معي خطة سرية للإفلات من قبضتها بعد الوصول إلى عين المكان. وبعد بعض المناورات الخاصة خلال فترة مكوث الوفد الإعلامي في منطقة التوتّر من أجل الحصول على معطيات مختلفة عما يراد لنا نقله، كان رفضي العودة حين انتهت مدة الزيارة مدعاة للتقريع والتهديد وإعلان إخلاء مسؤولية السلطات في حال "حصل لك مكروه"، وهو ما كاد يحصل بالفعل بعد إصراري على مواصلة التغطية بوسائلي الخاصة، حيث كانت بعض الجهات المجهولة تستهدفني ومرافقي بالعنف، بشكل يثير الريبة.

استعمال القوة

هذه المحاولات "الناعمة" قد لا تكون خط المواجهة الأخير بين السلطات والصحافي المهني، وحرص السلطات على قناع الواجهة لا يعني الإفلات من عمليات الاستهداف المباشر والمتحرّر من أية رقابة قانونية، وبين الرسائل التي يتولى بعض "الأصدقاء" إبلاغها للصحافي المزعج بين الوقت والآخر من قبيل "انتبه لسلامتك الشخصية" و"عليك أن تفكر في أهلك وما إن كانوا الأهم بالنسبة إليك أم هؤلاء المعارضون والمعتقلون الذين تدافع عنهم"... وبين إغلاق منافذ الحصول على المعلومات أو الوصول إلى مواقع الأحداث، يحدث أن تلجأ السلطات إلى أسلوب الهجوم المباشر لتوقيف الصحافي المستهدف أو منع وصول المادة الإعلامية المزعجة إلى المتلقي عبر وقف البث أو مصادرة المطبوعات.

 

أحد نماذج هذا الهجوم المباشر ما عشته مع أحد التحقيقات الاستقصائية التي نشرتها في صحيفة مطبوعة، كان موضوع التحقيق هو سيطرة شبكة نافذة من الشخصيات والأطراف التي تضطلع بتأثير كبير داخل السلطة، لكن دون المرور عبر قنوات اكتساب الشرعية، أي عبر الانتخاب وسلوك المساطر القانونية، وحدث أن أصبحت هذه الشبكة مسيطرة على عدد من المناصب والمسؤوليات بشكل غير مباشر، عبر إيصالها محسوبين عليها إلى تلك المواقع.

تطلّب هذا التحقيق عملا ميدانيا طويلا، وتدقيقا للمعطيات عبر مصادر مختلفة ومتناقضة، ثم استجوابات عسيرة مع كثير من القيادات الحزبية والسياسية لتعزيز المعطيات بتصريحاتها. وبعدما أصبح التحقيق جاهزا للنشر وجرى تخصيصه بغلاف المطبوع الصحافي حيث كنت أشتغل، جاء حدث طارئ له من الأهمية ما حملنا على تغيير مادتنا الرئيسة في ذلك العدد، لمواكبة كارثة إنسانية على قدر كبير من المأساوية بما خلفته من عشرات القتلى، وصادف أن منبرا إعلاميا آخر كان قد برمج مادة وإن كانت بحجم أصغر مما كنت قد توليت إعداده، حول الشبكة المهيمنة على مقاليد السلطة، ذلك أن الأمر كان قد أصبح سافرا بشكل مستفز.

على خلاف تحقيقنا الصحافي، كانت مادة زملائنا حول الموضوع نفسه شديدة الاندفاع ومفتقدة للأساس المهني، فسارعت السلطات إلى منع صحيفتهم واعتقال الصحافي الذي كتب حول الشبكة النافذة، وعلى الرغم من الاختلاف البيّن بين تلك المقالة الصحافية وتحقيقنا، إلا أن الأمر حملنا على إعادة فتح المادة الجاهزة والتي كانت في طريقها نحو النشر، ومارسنا الكثير من الرقابة الذاتية بحذف بعض المعطيات شديدة الحساسية وإخفاء بعض الهويات التي كنا نشير إليها بشكل صريح، وعلى الرغم من ذلك، فإننا وبمجرد نشر هذا التحقيق في اليوم الموالي، وجدنا عناصر الأمن تقف في مدخل الصحيفة حاملة استدعاءات بالمثول للتحقيق، وكم كانت مفاجأتي كبيرة بعد ساعات طويلة من الاستجواب، حين اكتشفت برفقة رئيس التحرير أن الهدف من تلك العملية والمطلب الملح الذي تردد على رئيسي وهو يخضع للتحقيق في قاعة مجاورة لتلك التي خصصت لي، هو إنكار أية صلة له بالتحقيق، والتبرؤ مني حتى يتم الاستفراد بي وملاحقتي بشكل خاص بتهم لا تندرج ضمن مدونة الصحافة، وهو ما لم يتحقق لهم بسبب تمسّك رئيسي بمسؤوليته الكاملة عما قمنا بنشره.

الرأسمال.. قاتل جبان

علاوة على السلطة وأذنابها، يجد الصحافي المتطلّع إلى الاستقلالية نفسه في مواجهة قوى أخرى من خارج النظام، تعمل على "قتله" وتصفيته وتشويهه، على رأس هذه القوى يوجد الرأسمال الذي يجد طريقه إلى غرفة التحكم في الصحافة عبر قناة الإعلانات.

وإذا كان سلاح المقاطعة وحجب عائدات الإعلانات واحدا من الأسلحة الفتاكة التي تستخدمها السلطات للقضاء بطريقة "ناعمة" على الصحافة المزعجة، فإن بعض أباطرة المال والأعمال يستهدفون المنابر الإعلامية والصحافيين بشكل مباشر، دفاعا عن مصالحهم الخاصة.

نموذج لعمليات الاستهداف هذه، عشته داخل إحدى غرف التحرير التي اشتغلت بها، وكان سببا في إنهاء علاقتي المهنية بها بعدما نجح بقوة المال في "شراء" إدارة المؤسسة الإعلامية وحملها على تحقير مادتي الإعلامية.

كان الأمر يتعلّق بإحدى الشركات العملاقة في مجالها، بما يجعلها شديدة القرب من السلطات، ومُهابة الجانب داخل غرف التحرير لما تمنحه من عقود إعلانات سخية، حدث أن وقع بين يدي نموذج لأحد المنتوجات التي تعتبر حيوية في الحياة اليومية للمواطنين، والتي تفرض الشركة العملاقة شروط إذعان على زبائنها مقابل تمكينهم منها. كان الأمر ينطوي على فضيحة قانونية مدوية، كون ما يدفعه الزبون ويتلقاه في الواقع لا يمت بصلة لما هو مدوّن بالعقود الموقعة رسميا بين الشركة وزبائنها.

أخضعت الموضوع لعملية التدقيق والتقصي في جوانبه المالية والقانونية بعد الاستعانة بمختصين، وبقيت مرحلة أخذ رد الشركة المعنية تحقيقا للتوازن والإنصاف وعملا بمبدأ لا اتهام دون دليل ولا ادعاء دون رد.

أصيبت الشركة المعنية بالصدمة بعد وصول أسئلتي إليها، كونها لم تكن معتادة على اقتراب الصحافة من دائرة اشتغالها، ولمعرفة الجميع أنها محصنة بقوتها المالية، واجهت تلكؤ الشركة في الرد وتأخرها في ذلك، وهو ما كان متوقعا بالنسبة لي، فبادرت بعد فترة انتظار معقولة إلى وضع المادة الصحافية في القنوات النهائية لبثها بعدما أضفت إليها تفاصيل محاولتي الحصول على رد الشركة وامتناعها عن ذلك.

ورغم تأخير بث مادتي الإعلامية لبعض الوقت، إلا أنني لم أشك في الأمر، على اعتبار أن المؤسسة الإعلامية حيث كنت أشتغل كانت تعتبر من أكثر المنابر استقلالية وجرأة، إلا أنني سأفاجأ بعد بضعة أيام بانطلاق حملة إعلانات مدفوعة تبثها مؤسستي الصحافية، خصّصتها ومن بين قائمة طويلة من المنتجات والخدمات التي تقدمها هذه الشركة للمنتوج الذي تناولته تحديدا، بينما تم دفن مادتي، وبعد بحث وتقصّ اكتشفت أن محاولتي القيام بمهمتي الرقابية على طرف قوي ونافذ انتصارا على طرف ضعيف، قد تحوّل إلى صفقة بعشرات الآلاف من الدولارات، ليكون خياري الوحيد إثر ذلك هو مغادرة المؤسسة بحثا عن آفاق أرحب.

الأبناء.. نقطة ضعف فتاكة

كل ما سبق ذكره هو في حقيقة الأمر مجرد أدوات ناعمة للقتل والتصفية الرمزيين، بينما توجد وسائل أكثر فتكا وتدميرا تعرّض لها كثير من الزملاء الإعلاميين، أخطرها على الإطلاق استهداف الحياة الخاصة.

ويتم هذا الاستهداف عبر استغلال تقنيات التجسس والتلصص على الأسرار الشخصية، ومن ثم ممارسة الضغط والابتزاز عند العثور على "قنبلة" يكفي تفجيرها لتدمير حياة الإعلامي المستهدف.

ويستخدم هذا السلاح في مراحله الأولية من خلال إبلاغ رسائل تهديد، تتضمن إخبارا بالحصول على صور أو مراسلات أو وثائق تثبت وجود علاقة حميمة أو صور مخلة جرى تسريبها، وفي حال عدم الإذعان لهذه الضغوط ورفض الاستجابة للمطالب، فإن الإعلامي المستهدف يجد نفسه ضحية للتشهير والإساءة ونشر الفضائح، سواء كانت حقيقية أم مختلقة، والهدف هو القضاء على الرصيد الرمزي للصحافي المزعج وإفقاده المصداقية التي يتمكن عبرها من التأثير في الرأي العام.

هذا الأسلوب جرى تطبيقه في الكثير من الحالات، وذلك ضمن موجة استهداف وثقتها بعض التقارير الدولية، منها تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول وضعية الحريات وحقوق الإنسان في العالم.

 

وقد اكتشفت بعض الأنظمة السياسية المفعول "السحري" لهذا الأسلوب، حيث يسمح بالتخلص الناعم من الصحافيين المزعجين، دون أن يخلّف ذلك أية أعباء أو كلفة سياسية، حيث يتكفّل الرأي العام والمجتمع المحافظ في غالب الأحيان بمهمة الفتك بالصحافي المستهدف، سواء كان ما نسب إليه حقيقيا أو مختلقا.

أما ذروة سنام هذا الإعدام الممنهج للأصوات الإعلامية المزعجة، فهو ما وقفت عليه في حالتين اثنتين على الأقل، لاستخدام الأبناء كوسيلة للضغط.

في الحالة الأولى، جرى إبلاغ الأطفال بطرق ملتوية وعن طريق بعض أصدقائهم، أنهم قد يتعرضون لخطر الاعتداء والاغتصاب في حال استمر والدهم في التعبير عن مواقفه وآرائه المنتقدة للسلطات، ولم يكن أمام الإعلامي المستهدف في هذه الحالة سوى الانسحاب من المشهد العام، حيث لاذ بالصمت مأخوذا بالرعب الذي تملكه مما بلغ أسماع أبنائه.

أما الحالة الثانية، فتعود إلى إعلامي منخرط في الصراع السياسي، كلّفته المشاركة في ندوة تناولت الأوضاع السياسية في البلاد خسارة الاطمئنان الذي كان يشعر به حول أسرته، هذا الإعلامي الذي تجرأ على انتقاد أطراف شديدة الحساسية في النظام السياسي لبلاده، تلقى بشكل شبه فوري رسالة مفادها أن عليك أن تختار بعد اليوم ما بين سلامة أطفالك أو الاستمرار في النهج الذي أوصلك إلى مثل هذه الانتقادات.

 

وعيدٌ دفع الإعلامي المقصود إلى دخول متاهة البحث عن وجهة أجنبية تستطيع منحه حق اللجوء برفقة أسرته، لولا أن بعض الأطراف السياسية تدخلت لتهدئ من روعه وتضمن له سلامة أبنائه، شريطة إبقاء فمه مقفلا.

فيم تنفع حرية الصحافة التي تتبجح بها الدولة في هذا القطر، إذا كانت رقابة القبيلة والأعراف الدينية أشد فتكا؟ لم يعد شيئا خارقا للعادة أن تنتقد الرئيس أو تهاجم المؤسسات السياسية، لكن حذار أن تهاجم الشيخ "الفاسد" أو تثير سيرة "المحاصصة القبلية" في هرم الدولة، لأنك ستجد نفسك على حبل مشنقة المجتمع بكل تأكيد.

المصدر: معهد الجزيرة للإعلام