فلسطين المحتلة - قُدس الإخبارية: في اليوم الخامس لمعركة "سيف القدس" صرّحت مديرة الخدمات النفسية في مستشفى "برزلاي" في عسقلان "حاني كوبر"، أن غالبية الذين يأتون للعلاج يرفضون العودة لبيوتهم، وقرروا عدم العودة إلى هناك للأبد لفقدانهم الشعور بالأمن. ويحمل هذا التصريح المقتضب معان استراتيجية يكشف أهميته ما قاله الوفد الأمني المصري في أحد اللقاءات مع فصائل المقاومة قبل حوالي عامين، "إنكم تطلقون الصواريخ على مناطق هاجر من فيها" والمقصود مستوطنات غلاف غزة.
منذ حوالي 20 عاما وقع مستوطنو غلاف غزة تحت تهديد سلاح يتطور مع مرور الوقت، وكانت العمليات التي تنطلق من قطاع غزة تنتهي في غالبيتها باشتباكات مع جنود جيش الاحتلال في المناطق المحيطة بالمستوطنات، لكن المقاومة أدخلت أداة جديدة للمعركة كانت لها تبعاتها المباشرة على روتين الحياة في مستوطنات غلاف غزة، ما دفع كثيرين من هذه المستوطنات للتصريح بأن المقاومة تتحكم في روتين يومهم، في دخولهم للملاجئ، وفي خروجهم منها.
اعتمدت "إسرائيل" منذ نشأتها سياسة التوزيع المتوازن للمستوطنين على جميع الجغرافيا المحتلة، لكن هذه السياسة والوعود بتحويل النقب والجنوب إلى "جنة عدن" والمحفزات الاقتصادية فشلت في تكثيف أعداد السكان في تلك المنطقة، كما تكشف دراسة نشرها معهد دراسات الأمن القومي في نوفمبر 2017، وتحولت المنطقة الجنوبية في العقدين الأخيرين إلى جغرافيا فقيرة بالمستوطنين.
وتشير إحصائيات الدراسة ذاتها، إلى أن ما يطلق عليه الإسرائيليون الجنوب يشكل 60% من الجغرافيا المحتلة، ومع ذلك لا يعيش فيه إلا 8% من المستوطنين، وفي تل أبيب وما يُعرف بمنطقة الوسط "غوش دان" يعيش معظم المستوطنين رغم أن مساحتها تشكل فقط 7% من الجغرافيا المحتلة، وهو ما دفع حكومات الاحتلال لاعتبار الاستيطان في الجنوب "مهمة وطنية"، وكذلك في المنطقة الشمالية على الحدود مع لبنان.
وكشف الباحث الفلسطيني جورج كرزم في كتابه "الهجرة اليهودية المعاكسة ومستقبل الوجود الكولونيالي في فلسطين"، أن حوالي 60% من المستوطنين حصلوا على جنسيات دول أخرى بسبب شعورهم المتنامي بفقدان الأمن نتيجة الصواريخ التي يطلقها المقاومون، ولدرء الحرج عن أنفسهم يتذرعون بأن أسباب حصولهم على جنسيات أجنبية هو تردي الواقع الاقتصادي في "إسرائيل" رغم أن هذا غير ذي صلة بالواقع، وأن هذا التوجه المحموم مرتبط زمنيا باستخدام المقاومة للصواريخ كسلاح استراتيجي في معاركها.
أما عن طبيعة هذه الهجرات، أشار كرزم، إلى أنها تتركز في أوساط الطبقة الوسطى التي تشكل الحركة الثقافية والاقتصادية في أي دولة. وحول هذه النقطة يرى الباحث والكاتب زهير الصباغ أن طبيعة الهجرة العكسية من "إسرائيل" ستحدد هوية الدولة، وستتحول إلى "دولة عصابات" خالية من النخب، وهذا سيخلق صراعا داخليا بين أركانها ومكوناتها، ما يعني أن بذور فنائها ستنمو أكثر فيها.
وكشف تقرير لدائرة الإحصاء الإسرائيلية صدر في عام 2015، أي بعد عدوان 2014، أن نسبة حملة الشهادات العليا الذين هاجروا في العام الذي وقع فيه العدوان كانت 11% بزيادة 2% عن عام 2013. وتنطبق هذه الزيادة على كافة القطاعات المهنية، وهو ما دفع حكومة الاحتلال لبذل جهود من أجل إقناعهم بالعودة إلى "إسرائيل".
كما وكشفت المعركة الأخيرة - سيف القدس- أن المقاومة الفلسطينية طورت من قدراتها الصاروخية بما يمكنها من ضرب كل الجغرافيا المحتلة، وأن الجحيم الذي عاشه مستوطنو الجنوب على مدار السنوات الماضية سيصبح واقعا في الوسط في السنوات القادمة. خرجت الصحف الإسرائيلية خلال المعركة بعنوان رئيسي وهو "الدولة تحترق"، وهذا العنوان ما كان ليكون لولا أن الوسط قد حُرق، فالوسط تحول إلى الدولة، والدولة هي الوسط، والاستراتيجية الجديدة للمقاومة بإحراق الوسط، تعني على المدى البعيد تحويله إلى غلاف غزة آخر وتفعيل نفس الشروط على المنطقة الأكثر تحصينا وحساسية وبالتالي الحصول على مخرجات مشابهة.
وتتركز في منطقة الوسط الكفاءات والنخب بسبب وجود عدد كبير من المؤسسات والمرافق الاستراتيجية، وهذه النخب التي لا يزال لديها نوع من الأمل في البقاء في "إسرائيل"، قد تزداد وتيرة هجرتها بسبب التهديد الذي تمثله صواريخ المقاومة لتلك المنطقة، وبالتالي سيتحول مجتمع منطقة الوسط إلى "مجتمع نامي" مليء بالعصبوية، بحسب الباحث زهير صباغ، وفي حالة كهذه قد تقع مواجهات بين اليهود أنفسهم وتزداد وتيرة الهجرة العسكية للنخب، ثم تتفكك "إسرائيل".
ولا يقتصر أمر الهجرة العكسية على النخب والكفاءات، وإنما تصل هذه الظاهرة إلى القادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين، فمثلا لا يجد رئيس جهاز الموساد السابق شبتاي شافيت، حرجا في أن يصرح بأنه قد يجد نفسه مهاجرا دائما في الخارج، إلى جانب محللين عسكريين يتقاسمون معه نفس التصور، حيث أكد المحلل العسكري في القناة 12 عبرية "روني دانييل" أنه غير مطمئن لمستقبل أولاده في "إسرائيل" ولا يعتقد أنهم سيستمرون هناك.