شبكة قدس الإخبارية

"الأبارتايد" ومعاناة الفلسطيني تحت الاحتلال

420212152728419
هيئة التحرير

رام الله - قدس الإخبارية: من خلال حكاية عائلة فلسطينية تعاني الأمرين تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي، يسلط الكاتب الصحفي الأمريكي نيثان ثرول، في هذا المقال الطويل، الضوء على صمود الشعب الفلسطيني في وجه مشروع صهيوني عنصري اعتمد السلب والنهب والتهجير وانتهاك حقوق الإنسان الأساسية منذ اليوم الأول.

بالإضافة إلى قصة العائلة الفلسطينية، يقدم الكاتب معلومات بالغة الأهمية وخلفيات تاريخية عن تهجير الفلسطينيين وتفتيتهم بشكل ممنهج من قبل الاحتلال، بهدف ضمان التفوق الديمغرافي لليهود في أرض فلسطين التاريخية.

الجزء الأول

 

يوم في حياة عبد سلامة حكاية رجل يبحث عن ابنه تسلط الضوء على واقع الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلي

 

(1)

في اليوم السابق للحادث، لم يكن بوسع ميلاد سلامة إخفاء سعادته الغامرة بالرحلة التي سيقوم بها صف الروضة، فقال مخاطباً والده عبد "أريد أن أشترى طعاماً لرحلة الغد". فما كان من عبد إلا أن اصطحب ابنه الذي يبلغ من العمر خمسة أعوام ونصف إلى دكان مجاور حيث اشترى له زجاجة من عصير البرتقال الإسرائيلي طابوزينا، وعلبة شرائح بطاطس برينغلز وبيضة شوكولاتة من نوع كيندر، الحلوى المفضلة لديه.

في وقت مبكر من صباح اليوم التالي، قامت هيفاء، زوجة عبد، بمساعدة ولدها الأشقر البشرة والشعر على ارتداء زي المدرسة: بنطلون رمادي وقميص أبيض وجرزة رمادية عليها شعار مدرسته الابتدائية الخاصة نور الهدى. وكان شقيقه آدم، البالغ من العمر تسعة أعوام، والذي بلغ من العمر ما يسمح له بالمشي وحده إلى المدرسة، قد غادر. تناول ميلاد إفطاره على عجل، وجمع غداءه وحاجيات الرحلة، وخرج مسرعاً ليركب باص المدرسة. كان عبد حينها ما زال في سريره.

في معظم الأيام يعمل عبد لدى شركة خدمات الهاتف والإنترنيت الإسرائيلية بيزيق. ولكنه في ذلك الصباح كان قد خطط هو وابن عمه للذهاب إلى أريحا. وفي الطريق توقفا عند جزار قريب، في ضاحية السلام التي تقع أسفل مقر جامعة القدس العبرية على قمة جبل المشارف. كان عاطف، مالك ملحمة (قصّاب)، صديقاً لعبد ومن غير المعتاد ألا يذهب لرؤيته في المحل. طلب عبد من أحد الموظفين البحث عن عاطف، الذي يعيش في جزء مختلف من مدينة القدس، في كفر عقب، وهي ناحية حضرية كثيفة السكان تنتشر فيها أبراج الشقق السكنية المرتفعة. وكما هو حال ضاحية السلام، فإن منطقة كفر عقب أيضاً مفصولة عن باقي المدينة بنقطة تفتيش عسكرية إسرائيلية وجدار خرساني رمادي ارتفاعه ستة وعشرون قدماً. لتجنب الازدحام المروري وما يغدو في بعض الأوقات انتظاراً لعدة ساعات عند نقطة تفتيش قلنديا، يقود عاطف سيارته إلى العمل عبر طريق التفافي أطول يمر بمحاذاة جدار الفصل الذي يتلوى كالثعبان.

أرسل عاطف يخبرهم أنه محشور في ازدحام مروري مروع. كان الجو ماطراً والسماء رمادية، والرياح عاصفة في صباح ذلك اليوم من شهر فبراير/ شباط من عام 2012. وقال إن سبب الازدحام فيما يبدو تصادم مروري في الأمام على الطريق بين نقطتي تفتيش قلنديا وجبع. بعد دقائق قليلة من الاستماع إلى رواية عاطف عن التأخير، تلقى عبد اتصالاً من ابن شقيقته الذي سأله: "هل ذهب ميلاد اليوم إلى الرحلة؟ فقد وقع حادث لباص مدرسة بالقرب من جبع".

                                                                                           (2)

بعد أسبوعين ونصف من حرب يونيو/ حزيران 1967 ضمت إسرائيل إليها القدس التي كانت حتى وقت قريب تحت السيادة الأردنية وفي القلب منها المدينة القديمة، وضمت كذلك أراضي ما يزيد على عشرين من قرى الضفة الغربية المحيطة بالمدينة. وأعلنت إسرائيل أن المساحة التي تم ضمها هي جزء من القدس الكبرى، والتي توسعت بشكل هائل حتى باتت الآن تمتد من ضواحي رام الله في الشمال وحتى منطقة ضمن ما كان الحدود البلدية لمدينة بيت لحم في الجنوب. نشأ ميلاد وعبد في عناتا، إحدى تلك البلدات الثماني والعشرين، ولكن في الجزء الذي لم تضمه إسرائيل بشكل رسمي.

كانت بلدة عناتا، التي ربما اكتسبت اسمها من الإلهة الكنعانية عنات أو من مدينة في العهد التوراتي اسمها عناتوث، من أكبر بلدات الضفة الغربية مساحة، إذ كانت أراضيها تمتد شرقاً من جبال القدس المشجرة حتى التلال الشاحبة صفراء اللون والوديان الصخرية والسهول الصحراوية على مشارف أريحا في غور الأردن. أما اليوم فعناتا باتت أصغر بكثير، فقد صودرت جل أراضيها من أجل إقامة القاعدة العسكرية الإسرائيلية أناتوت وأربع مستوطنات رسمية وعدد من المواقع الاستيطانية غير المرخصة. كغيره من فلسطينيي الضفة الغربية، يُحظر على عبد دخول المستوطنات، بما في ذلك تلك التي أنشئت فوق أراضي عناتا. بإمكان أي إسرائيلي أو سائح أن يدخل، أما الفلسطينيون فيحتاجون إلى تصاريح خاصة تمنح فقط للعمال الذين يعملون في النظافة أو في البناء أو في تنسيق الحدائق في الداخل.

إحدى المستوطنات المقامة على أراضي عناتا اسمها آلون، وقد اكتسبت اسمها من الوزير في حزب العمل ييغال آلون، مهندس العقد الأول من سياسة الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية. تقع آلون على مسافة أحد عشر ميلاً من الأردن، إلى الشرق من أكبر تسع مدن فلسطينية في الضفة الغربية. وتوجد في الجوار مستوطنة أخرى مقامة على أراضي عناتا اسمها كفار أدوميم، والتي كان من أبرز سكانها السفير الإسرائيلي السابق في الولايات المتحدة سالاي ميريدور وكذلك داني تيرزا الذي صمم مسار الجدار العازل الذي يتلوى ويلف حول التجمعات السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية، وفي بعض الحالات يحيط بها بشكل تام، كما هو حال "المساحة القليلة" التي بقيت من عناتا.

  • أدوميم جزء من المجمع الاستيطاني الضخم الذي يسمى معالي أدوميم، والذي يشتمل على حدائق عامة وملاعب ومدارس حكومية وعيادات صحية، وفروع للمصارف الرئيسية، وقاعة بلدية ومركز للشرطة، ومكتب بريد وقاعة محكمة، ومحطة إطفاء للمنطقة، ومطاعم ومعامل إنتاج النبيذ، وقاعة بولينغ، ومنطقة صناعية تشتمل على ما يقرب من ثلاثمائة شركة تجارية، ومقبرة تحتوي على قبور عدة أجيال من المواطنين الإسرائيليين. على الرغم من أن هذا المجمع نفسه غير مضموم رسمياً إلى إسرائيل، إلا أن المهاجرين اليهود من لوس أنجليس أو من لندن بإمكانهم الانتقال للإقامة فيه بشكل مباشر، أو إلى أي مستوطنة أخرى، والحصول على سلة من المساعدات الحكومية التي تتضمن السفر جواً على حساب الدولة، ومنحة مالية، ومخصصات إعاشة لعام كامل، وبدل إيجار، وقروضاً لشراء عقار بفوائد مخفضة، وتعلم اللغة العبرية، ورسوماً دراسية، وتخفيضاً على الضرائب، ورسوماً مخفضة للاستفادة من خدمات مراكز الرعاية اليومية التي تنظمها الدولة، والتي يوجد العديد منها داخل المجمع الاستيطاني.

في دليلها الإرشادي حول المجتمعات داخل إسرائيل، لا تذكر "نفيش بينفيش"، المنظمة الرئيسية التي تقوم بالشراكة مع الحكومة الإسرائيلية بتسهيل الهجرة اليهودية من الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا، أن معالي أدوميم مستوطنة، بل تروج لها بدلاً من ذلك باعتبارها ضاحية مثالية "محاطة بأشجار النخيل وبمناظر صحراوية خلابة تأخذ بالألباب"، وبأنها توفر "جميع المكاسب التي يمكن للمرء أن يحصل عليها من العيش في مدينة: مجمع تسوق مغلقا وعدة أسواق مفتوحة، ومركزا بلديا حكوميا، ومواصلات داخل المدينة، ومكتبة حافلة شاملة، وخدمات صحية، ومتحفا للفنون، ومرافق رياضية وترفيهية، وبحيرة، ومعهدا للموسيقى، وحدائق عامة، ولدينا مزيد".

 

ليس المستوطنون وحدهم، بل الإسرائيليون من كل أنحاء البلاد، يمرون عبر أراضي عناتا حينما ينطلقون من البحر الميت على الطريق السريع رقم واحد، وهو المسلك الرئيسي في إسرائيل الذي يشق البلاد من الشرق إلى الغرب. وفي نهايات الأسبوع وفي الأعياد تتوجه العائلات الإسرائيلية إلى ما كان ذات يوم بركة ونبعة عناتا الطبيعية التي كانت تعرف باسم عين فارا، ولكنها تسمى الآن محمية إين برات الطبيعية. تدار المحمية من قبل سلطة الطبيعة والحدائق العامة الإسرائيلية، وتقع قريباً من أرض يملكها عبد سلامة، ولكن لا تسمح له إسرائيل بالوصول إليها.

 

(3)

 

في صباح اليوم الثالث لحرب يونيو/ حزيران 1967، وهو اليوم الذي دخلت فيه إسرائيل الضفة الغربية، تلقى وزير الدفاع موشيه دايان تقارير تفيد بأن السكان الفلسطينيين كانوا في حالة من الفرار، فأمر ألوية الجيش بالتباطؤ وتأخير دخولهم إلى المناطق وترك الطرق مفتوحة، وأخبر رئيس هيئة أركان الجيش إسحاق رابين بأن الهدف كان تفريغ المنطقة من سكانها. قام رابين بدوره بإصدار الأوامر بعدم تفجير الجسور المقامة على نهر الأردن "من أجل تسهيل هجرة" الفلسطينيين. وكانت وحدة العمليات النفسية التابعة للفرع الاستخباراتي حينذاك ترافق ألوية إسرائيل المقاتلة حيثما توجهت في أرجاء الضفة الغربية، وكانت تذيع رسائل باللغة العربية من سيارات مجهزة بمكبرات الصوت. ففي بيت لحم، انطلقت من إحدى عربات الجيش أوامر للسكان بسلوك الطريق إلى أريحا – تلك المدينة في الضفة الغربية المحاذية لجسر العبور الرئيسي إلى الأردن وإلى عاصمته عمان – "وإلا فعليكم تحمل التبعات". وبعد يومين تكثفت التهديدات، حيث قيل لسكان مدينة بيت لحم: "لديكم ساعتان لمغادرة بيوتكم والفرار باتجاه أريحا وعمان، وإلا فإن بيوتكم ستتعرض للقصف".

 

وفي المنطقة المحيطة بالقدس، وفي النطرون والخليل وبشكل خاص في بلدات الضفة الغربية المجاورة لخط الهدنة مع إسرائيل ما قبل 1967 – والمعروف باسم الخط الأخضر بسبب اللون الذي رسم به في خرائط الهدنة عام 1949 – تم تفجير آلاف المنازل الفلسطينية بالديناميت وهدم بعضها بالجرافات. وفي القدس أمام الحائط الغربي بعد استيلاء إسرائيل عليه وعلى بقية المدينة القديمة، وقف دايان ليقول: "لقد عدنا إلى أقدس أماكننا، لقد عدنا ولن نغادرها بتاتاً بعد الآن". بعد ذلك بأيام، أنذرت إسرائيل سكان حارة المغاربة في المدينة القديمة بأن لديهم ساعتين للإخلاء قبل أن تُهدم مساكنهم ومساجدهم وكل معالمهم وتتحول إلى أنقاض. وفعلاً سُويت كل منشآت الحي بالأرض وحُولت الحارة إلى ساحة للصلاة أمام الحائط الغربي تمهيداً لاستقبال الحجاج اليهود في عيد الأسابيع (شافعوت) القادم.

لم يكن تدمير هذه الأحياء وتفريغها من سكانها إجراءً دفاعياً ذا أهداف عسكرية – ولقد اعترف دايان بأن "الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية لم يشاركوا في الحرب". بل لقد عكست الحملة التي شنتها إسرائيل لإخلاء الأرض من الفلسطينيين عزمها على الاحتفاظ بالمنطقة. فقد كتب وزير خارجية إسرائيل أبا إيبان إلى رئيس الوزراء ليفي إشكول يقول له "إننا كنا محظوظين لهرب 350 ألف (نسمة) من المناطق المدارة". أما اللواء عوزي ناركيس، الآمر العسكري في الضفة الغربية آنذاك، فقال مستذكراً تلك الأحداث: "كنا بالتأكيد نرجو أن يهرب {السكان} كما حصل في 1948".

ومع ذلك لم يكن إخلاء الفلسطينيين في 1967 شاملاً كما كان عليه الحال أثناء حرب 1948، عندما تحول أربعة من كل خمسة من الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في المنطقة التي أصبحت فيما بعد إسرائيل إلى لاجئين ثم حيل بينهم وبين العودة إلى بيوتهم. سرعان ما تحولت الأغلبية الفلسطينية داخل الخط الأخضر إلى أقلية. أما في حرب 1967 وخلال الفترة التي تلتها مباشرة كانت نسبة السكان الفلسطينيين الذين أخرجوا من المناطق التي احتلت حديثاً أصغر بكثير – واحد من كل أربعة تقريباً. وبالتالي فقد زادت نسبة الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الحكم الإسرائيلي، حيث ارتفعت من 14 بالمائة قبل 1967 إلى 37 بالمائة ما بعدها. وغدت إسرائيل دولة يعيش فيها 2.4 مليون يهودي يتحكمون بما يقرب من 1.4 مليون فلسطيني: مليون في غزة والقدس الشرقية وباقي الضفة الغربية بالإضافة إلى 400 ألف من المواطنين غير اليهود داخل الخط الأخضر، معظمهم من الفلسطينيين. ولقد لخص إشكول معضلة إسرائيل الاستراتيجية بالعبارة التي كثيراً ما كان يرددها، قائلاً: "لقد ربحنا الحرب وحصلنا على مهر لطيف من الأرض، ولكن جاءت معها عروس لا نحبها".

استؤنفت الجهود بعد الحرب لإخلاء الأرض تماماً من سكانها الفلسطينيين، ومن أجل ذلك أسس رئيس الوزراء وحدة سرية أنيطت بها مهمة تشجيع الهجرة العربية. وخلال الأيام الأولى من الاحتلال، أعلن القسم العربي في راديو إسرائيل، صوت إسرائيل، المملوك للدولة أن "أي شخص من منطقة الضفة الغربية يعيش في القدس ومحيطها" بإمكانه أن يتوجه إلى الأردن. وفعلاً، خصصت حافلات ركاب وضعت عليها يافطات تحمل عبارة "إلى عمان مجاناً" لتقوم بنقل الفلسطينيين المرعوبين، وفي كثير من الحالات ممن باتوا مشردين بلا مأوى، إلى الأردن. فيما بعد تفاخر اللواء حاييم هيرتزوغ – الذي أصبح فيما بعد رئيساً لدولة إسرائيل، وكان صهراً لأبا إيبان، وشغل منصب أول حاكم عسكري للضفة الغربية – بأنه نتيجة لتلك الجهود فقد "عبر ما يقرب من مائة ألف شخص إلى الضفة الشرقية".

وذات مرة أثناء اجتماع لمجلس الوزراء في فترة ما بعد الحرب حيث كانت قضية الفلسطينيين الذين يفرون من المناطق المحتلة قيد النقاش، قال دايان: "آمل أن يذهبوا جميعاً". كما توقع أنه "خلال يومين فقط سوف تصبح القدس بأسرها يهودية". ونقل خبراً مفاده أن ما يقرب من أربعمائة فلسطيني من الضفة الغربية وستمائة من القدس كانوا يغادرون كل يوم. وأضاف: "أي أن المجموع هو ألف شخص في اليوم الواحد. وهذا شيء رائع".

بتوجيه من دايان ومن مجلس الوزراء، حظرت إسرائيل في البداية عودة الفلسطينيين الذين عبروا إلى الأردن. ولكن بعد شهر من الحرب، وسعياً لإحباط قرار للأمم المتحدة يطالبها بالانسحاب المباشر وغير المشروط من المناطق المحتلة، خضعت إسرائيل للضغوط الدولية التي ما لبثت تمارس عليها بشكل متزايد، ووافقت على السماح لبعض الفلسطينيين بالعودة. صوت رئيس الوزراء إشكول ضد القرار، شارحاً موقفه في وقت لاحق وكاشفاً بالإشارة إلى الضفة الغربية باعتبارها جزءاً من البلد أنه "لا يمكننا زيادة عدد السكان العرب في إسرائيل". وفعلاً، سمحت الدولة فقط لعدد ضئيل لا يكاد يذكر من أولئك الذين تقدموا بطلبات، ورفضت عودة معظم من كانوا يقيمون في القدس وبيت لحم وأريحا ومخيمات الضفة الغربية التي يقيم فيها اللاجئون الذين نزحوا في حرب 1948، وغدوا الآن نازحين للمرة الثانية. وفتحت نافذة لا تزيد على اثني عشر يوماً لعودة مئات الآلاف، معلنة أنها لن تستوعب أكثر من ثلاثة آلاف لاجئ في اليوم – أي ما مجموعه ستة وثلاثون ألفاً – وانتهى بها المطاف في النهاية إلى قبول عدد أقل بكثير لم يتجاوز الأربعة عشر ألفاً، وهو أقل بكثير من الفلسطينيين الذين عبروا (الجسر) ذلك الشهر في الاتجاه المعاكس. في السنوات اللاحقة، عندما كان الفلسطينيون الذين نزحوا في 1967 يتقدمون بطلبات للم شملهم على عائلاتهم في الضفة الغربية، صارت إسرائيل تحظر العودة على مجموعة ضخمة من الأصناف، بما في ذلك الرجال الذين تتراوح أعمارهم ما بين ستة عشر وستين عاماً، واللاجئون الذين هُجروا مرتين في حرب 1967 وقبل ذلك في حرب 1948، والذين ما زالت مطالباتهم الأصلية بالعودة تلدغ إسرائيل، وسكان القدس السابقون، وملاك الأراضي لأن إسرائيل كانت لديها مخططات لإنشاء مستوطنات على أراضي الضفة الغربية التي صنفتها إسرائيل على أنها "متروكة".

وفي غزة، كانت إسرائيل عازمة على إخلاء المنطقة من الفلسطينيين لكي تضمها فيما بعد. حينها قالت غولدا مائير، التي كانت آنذاك رئيسة لحزب ماباي، الذي تحول فيما بعد إلى حزب العمل، ثم أصبحت في المستقبل رئيسة للوزراء، إنه يتوجب على إسرائيل الاحتفاظ بغزة بينما "تتخلص من العرب". وقال وزير العمل ييغال آلون: "أنا على استعداد لتشجيع هجرة غير اليهود بشكل عام". وكانت إسرائيل قد أخرجت بالقوة ثلاثة آلاف من سكان قطاع غزة خلال الأسابيع التي تلت الحرب مباشرة، بينما غادر عشرات الآلاف في العام التالي، إذ تجاوب بعضهم مع الحوافز التي قدمتها إسرائيل لهم لكي يهاجروا إلى أمريكا الجنوبية. وحينها عبر رئيس الوزراء إشكول عن أمله في أنه "بالضبط بسبب الاختناق والسجن هناك، فلربما اختار العرب مغادرة قطاع غزة". وأضاف: "ربما لو لم نوفر لهم من الماء ما يكفي فلن يكون لديهم خيار آخر، لأن البساتين سوف تصفر وتذبل". ولم يسلم المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل من تلك المخططات، ففي اجتماع لمجلس الوزراء في عام 1967 أوصى الوزير آلون "بتجريد الجليل {داخل الخطر الأخضر} من العرب".

في الثالث عشر من أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1967، أقر مجلس الوزراء مجموعة من "المبادئ العملياتية لإدارة المناطق". وقضت تلك المبادئ "بمغادرة أكبر عدد ممكن من العرب"، وفي نفس الوقت "سد الطريق في وجه العرب الراغبين بالدخول من الخارج". وطالبت "بالتأكيد بشكل خاص بإخلاء قطاع غزة". وأشارت إلى أن "فرض نظام الضرائب الإسرائيلي على المناطق يمكن أن يلعب دوراً مهماً في تشجيع المغادرة عبر الحدود".

ولكن في النهاية لم تتمكن أي من هذه السياسات من التغلب على مزيج من إصرار الفلسطينيين على البقاء في أراضيهم، في ما يعرف اصطلاحاً بالصمود، ومعدلات الولادة التي كانت أعلى بكثير من نظيراتها بين اليهود الإسرائيليين. حتى قال إشكول في عام 1968 عن الفلسطينيين في غزة "ما زلت لا أعلم كيف أتخلص منهم". لم يُفلح حتى ما يزيد على المليون مهاجر جديد من الاتحاد السوفياتي والدول التي انفصلت عنه في تسعينيات القرن العشرين والعشرية الأولى من الألفية الجديدة في تعويض التآكل الحاصل في الأغلبية اليهودية. بحلول عام 2018، السنة الحادية والخمسين من الاحتلال، نقل مسؤول في الجيش إلى البرلمان الإسرائيلي، الكنيست، خبراً مفاده أنه يوجد في المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، والممتدة من ساحل المتوسط إلى نهر الأردن، من الفلسطينيين ما يفوق عدد اليهود.

لما يزيد على نصف القرن، لم تزل معضلة إسرائيل الاستراتيجية تكمن في عدم قدرتها على مسح الفلسطينيين، من جهة، وفي عدم استعدادها لمنحهم حقوقاً مدنية وسياسية، من الجهة الأخرى. في معرض تفسيره لمعارضته منح الفلسطينيين في الضفة الغربية نفس الحقوق التي تُمنح للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، قال أبا إيبان إنه يوجد حد لكمية الزرنيخ التي يمكن للجسد البشري أن يمتصها. ما بين قطبي التهجير الجماعي والاحتواء السياسي، كانت التسوية غير السارة التي خلصت إليها إسرائيل تتمثل في تفتيت السكان الفلسطينيين والتأكد من أن ذلك الفتات المتناثر لن يتمكن يوماً من تنظيم ذاته وتشكيل مجموع وطني.

تم تنفيذ التفتيت، من الناحية الإدارية، عبر فرض مختلف القيود والمراسيم أو القوانين على السكان الفلسطينيين في مختلف الوحدات الفرعية التي حددتها إسرائيل لهم، وهي: غزة، الضفة الغربية، القدس الشرقية، إسرائيل داخل الخط الأخضر، واللاجئون الذين يعيشون خارج الدولة. لم يُمنح الفلسطينيون في أي من هذه التقسيمات حقوقاً مكافئة لتلك التي يتمتع بها اليهود. ثم تم إنجاز عملية التفتيت فعلياً على الأرض من خلال إنشاء المستوطنات الإسرائيلية والطرق المحيطة، والحدائق الوطنية، والمواقع الأثرية، والمناطق العسكرية المغلقة، والتي تركت المجتمعات الفلسطينية معزولة ومفصولة عن بعضها البعض ومحاطة بالسياجات والأسوار ونقاط التفتيش والبوابات المغلقة والحواجز والخنادق والطرق الالتفافية.

الجزء الثاني

(4)

نشأ نادر مرار في قرية من قرى الضفة الغربية اسمها بيت دقو، تقع شمالي القدس. وصلت عائلته إلى هناك بعد حرب 1948 بعد أن هاجم الجيش الإسرائيلي قريتهم التي كان اسمها سلبيت (قرب مدينة الرملة) وأصبحت اليوم مقراً لكيبوتز اسمه شعالفيم يؤوي يهودا متدينين في وسط إسرائيل. تقع بيت دقو ضمن جيب محصور مكون من ثماني قرى مفصولة بجدار عن بلدات الضفة الغربية المحيطة بها، وتطل عليها من جهة إسرائيل داخل الخط الأخضر والقدس الشرقية المضمومة من جهة ثانية، والمستوطنة الإسرائيلية الضخمة غيفات زئيف من جهة ثالثة، علماً بأن هذه المستوطنة أنشئت جزئياً على أراض تابعة في الأصل لقرية بيت دقو. يحيط الجدار العازل بالجيب من ثلاث جهات، بينما الجهة الرابعة مسورة بسياج واحد من الطرق السريعة في الضفة الغربية، هو الطريق رقم 443، الذي أنشئ للمستوطنين والإسرائيليين الآخرين بينما يحظر فعلياً على معظم الفلسطينيين استخدامه. وهو الطريق الأقصر من بين طريقين رئيسيين يربطان القدس بمطار إسرائيل الدولي الذي لا يتمكن فلسطينيو الضفة الغربية من استخدامه.

في أوج الانتفاضة الفلسطينية الثانية ضد إسرائيل، ما بين عام 2000 وعام 2005، والتي قتل فيها أكثر من ألف إسرائيلي وثلاثة آلاف فلسطيني، كان نادر طالباً في جامعة بير زيت، أرقى جامعات الضفة الغربية، حيث كان يدرس الأدب الإنجليزي. حينها أغلقت إسرائيل الطريق المؤدي إلى الجامعة فحالت دون وصول آلاف الطلبة ومئات الأساتذة إليها. وبينما كان يشارك نادر في احتجاج طلابي للمطالبة بفتح الجامعة، أطلق عليه جندي إسرائيلي النار فأصابه في ساقه ونجم عن ذلك إصابته بكسر في عظمة فخذه، فاحتاج إلى عمليتين جراحيتين وعاماً من إعادة التأهيل إلى أن تعافى. لكنه اضطر إلى ترك الدراسة، ونظراً لإعجابه بالطاقم الطبي الذي كان يشرف على علاجه ورعايته، فقد قرر التسجيل في دورات تؤهله ليصبح مسعفاً طبياً.

بعد عشرة أعوام، وبينما كان يعمل كفني طبي في قسم الطوارئ التابع للهلال الأحمر الفلسطيني أطلقت عليه القوات الإسرائيلية النار فأصابته في ساقه مرة أخرى. من الجدير بالذكر أن الجنود الإسرائيليين جرحوا خلال العقدين الماضيين المئات من فرق الطوارئ الطبية الفلسطينية وقتلوا العديد منهم. قبل يوم واحد من حادثة الحافلة في جبع، تعرضت سيارتا إسعاف تابعتان للهلال الأحمر لاعتداء من قبل الجيش الإسرائيلي، أصيبت إحداهما برصاص مكسو بالمطاط قريباً من سجن عوفر، الواقع بين رام الله وغيفات زئيف، وضربت الأخرى أثناء تجمع احتجاجي في حي العيساوية المقدسي، والذي يقع على المنحدر تحت مستشفى هداسا في جبل المشارف، مقابل منزل ميلاد وعبد في جيب عناتا.

صباح يوم حادثة التصادم، تلقي نادر مكالمة من مركز الطوارئ في الساعة الـ8:45 صباحاً مفادها أن حافلة ركاب انقلبت على الطريق المؤدي إلى نقطة تفتيش جبع. لم يذكر المتصل ما إذا كانت الحافلة فارغة أم مأهولة. كان نادر يعرف موقع الحادثة، والذي كان البعض يطلق عليه اسم طريق الموت. كان هذا الطريق قد أنشئ في الأصل لكي يستخدمه المستوطنون من أجل الوصول إلى القدس دون المرور بمدينة رام الله، فشق في جرف صخري مشكلاً هوة سحيقة، تحفه من الجانبين جدران صخرية عالية ارتفاعها عشرات الأقدام. في ذلك الوقت كان الطريق يتكون من مسربين يتجهان نحو شمال الغرب باتجاه نقطة تفتيش قلنديا ومسرب في الاتجاه المعاكس، هو الطريق الرئيسي حول القدس الذي يسلكه ما يقرب من مائتي ألف شخص من منطقة رام الله الكبرى للتوجه نحو جنوب الضفة الغربية. لم يكن الشارع مزوداً بحاجز في الوسط يفصل بين المرور في الاتجاهين، وكثيراً ما يلجأ السائقون المتجهون نحو الجنوب، وقد تمكنوا أخيراً من الإفلات من ازدحام السير الخانق والجنوني عند نقطة تفتيش قلنديا، إلى تجاوز السيارات البطيئة مستخدمين واحداً من المسربين المخصصين للمرور في الاتجاه المعاكس.

افترض نادر أن سيارات الإسعاف الإسرائيلية ستصل إلى الموقع أولاً. كان متمركزاً في المقر الرئيسي للهلال الأحمر على مسافة قصيرة من مدخل مخيم الأمعري للاجئين في البيرة المجاورة لرام الله. حتى يتمكن من الوصول إلى موقف الحادث في ساعة الذروة، كان سيضطر إلى الانطلاق جنوباً عبر البيرة إلى ناحية كفر عقب المجاورة لمدينة القدس، وتجاوز المرور المتوقف بالقرب من نقطة تفتيش قلنديا، ثم عبر التكدس الحاصل في المسرب الأحادي المتجه جنوباً والمؤدي إلى الحادث، وهي مسافة تقترب من حوالي أربعة أميال. كان صباحاً ماطراً وعاصفاً والرؤية فيه متدنية. تساءل نادر عن السرعة التي يمكن أن يصل بها إلى هناك عبر الطرق المتداعية في كفر عقب، والتي كثيراً ما تغرق في مياه الأمطار، ما يفاقم من شدة الازدحام المروري.

أثار دهشته أن يتمكن من الوصول إلى هناك في عشر دقائق، حيث وصل الساعة التاسعة وأربع دقائق. كان هو وشريكه الذي قاد سيارة الإسعاف أول فريق طوارئ يصل إلى المكان. صعق نادر بما شاهده هناك. وقفت جموع من الناس فوقه على رؤوس المنحدرات الصخرية المطلة على الطريق، يشيرون بأذرعهم ويصيحون. ورأى أمامه شاحنة مقطورة متضررة، لها اثنا عشر عجلاً، وقد توقفت بشكل موارب في المسارب المجاورة عكس اتجاه السير. وإلى يساره، شاهد حافلة الركاب المدرسية مقلوبة على جانبها بمحاذاة الجدران الصخرية المتجهة شمالاً، وأبوابها في مواجهة الأرض واجهتها مدمرة، وتلتهما ألسنة النيران. كان نادر حينها في الثالثة والثلاثين من عمره، ولم تبلغ ابنته البكر السنتين من عمرها بعد. كانت صرخات الأطفال والمعلمين تنبعث من داخل الحافلة، وكان الرجال يتناوبون دخولاً وخروجاً من الدخان، معرضين أنفسهم لمخاطر جمة من أجل أن يسحبوا الناس من بين النيران المشتعلة. وكانت العديد من الجثث المتفحمة ملقاة على الطريق. اتصل نادر بالمقر الرئيسي وقال طالباً المساندة "لدينا حادثة الإصابات فيها كثيرة".

يعرض مقطع فيديو صور صباح ذلك اليوم المشهد قبل وصول نادر. اجتمع عشرات الأشخاص حول الحافلة المقلوبة، وهي أطول منهم جميعاً، وألسنة النيران تتطاير في الهواء وسحابة الدخان الأسود ترتفع فوق الجدران الصخرية. يمكن سماع امرأة تصرخ وتتأوه داخل الحافلة. ويُسمع شخص يصيح قائلاً "هناك أطفال في الداخل.. طفايات.. طفايات". يهرع رجال باتجاه الحافلة حاملين طفايات النيران التي كانت في سياراتهم، ويأتي آخرون بعبوات بلاستيكية، يسكبون ما بها من ماء في محاولة يائسة لإطفاء النيران. تستمر ألسنة النيران في التصاعد. يشاهد رجل وهو يلف يائساً في دائرة قابضاً على وجهه بكلتا يديه. ويشاهد آخر وهو يضرب نفسه على الرأس، وثالث قد فرغت طفايته الصغيرة، فيندفع قادماً من جهة الحافلة ويصيح بأعلى صوته "أين أنتم يا ناس؟ يا رب". ثم يرفع الطفاية فوق رأسه ويرمي بها على الأرض. وهناك تشاهد جثة صغيرة متفحمة ممددة في وسط الطريق. يقول أحد الرجال مخاطباً رجلاً آخر: "استره، استره". ويصرخ آخر: "أين هي سيارات الإسعاف؟". ويركض رجلان إلى الأمام وهما يحملان طفلاً بينهما: "الولد حي.. يحتاج إلى إنعاش.. بسرعة". يشير أحد الناس إلى رجل كبير ملقى على الأرض، ويقول: "أحضروا سيارة.. هذا الرجل حي". ويعدو شخص معالمه غير واضحة قادماً من جهة الحافلة يحمل بين ذراعيه طفلة صغيرة، شعرها جدائل معصوبة بأربطة زهرية اللون. تبدو غير متضررة ولكنها في حالة من الذهول، لا تجيبه بينما يجلسها على الأرض ويسألها: "هل تحتاجين إلى شيء يا عزيزتي؟". ثم يتتابع الرجال وهم يحضرون الأطفال الواحد تلو الآخر، ينقلونهم إلى سياراتهم الخاصة وينطلقون بهم إلى المستشفى. ويستمر صوت النحيب المنبعث من داخل الحافلة المحترقة.

بمجرد أن خرج نادر من سيارة الإسعاف حاول الناس تسليمه الجثث. في تلك اللحظة كانت النيران شديدة جداً لدرجة أنه لم يكن ممكناً الاقتراب من الحافلة لإنقاذ من تبقى داخلها من طلاب ومعلمين. رأى نادر شخصين بالغين ممددين فوق الأسفلت، كل منهما يعاني من حروق من الدرجة الثالثة ومن فقدان كمية كبيرة من السوائل ومن صعوبة في التنفس. كان أحدهما هو سائق الحافلة، والذي أصيب أيضاً بعدة كسور في أطرافه السفلى، وأما الآخر فكان واحداً من المعلمين. قدم لهما نادر وسائق سيارة الإسعاف العلاج الأولي ثم حملاهما داخل سيارة الإسعاف لإخلائهما مباشرة. بالنسبة لنادر، لم يكن ثمة سبيل سوى نقلهما إلى رام الله على الرغم من أنهم كانوا على بعد أقل من ميل من مدينة القدس، والتي توجد فيها مستشفيات أفضل وأرقى. وذلك أن سيارات الإسعاف الفلسطينية التي تجلب مرضى إلى القدس لابد أن تنتظر عند نقاط التفتيش لمدد زمنية لا يمكن التنبؤ بطولها قبل معرفة ما إذا كان سيسمح بنقل الضحية على حمالة إلى سيارة إسعاف إسرائيلية في الطرف المقابل أم لا. وطبقاً لمنظمة العفو الدولية ومنظمة بيتسيلم وغيرهما من المنظمات الحقوقية فقد لقي العشرات حتفهم بسبب منع أو تأخير عبور سيارات الإسعاف الفلسطينية.

بالنسبة لنادر، إذا وقعت الأزمة فلا اعتبار للأوضاع القانونية التي تميز بين المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، والرعايا الفلسطينيين تحت الحكم العسكري الإسرائيلي، وحملة الإقامة الدائمة من فلسطينيي القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل إليها. فقد كان ذلك حادث مرور بين مقطورة إسرائيلية تحمل لوحة صفراء وحافلة مدرسية فلسطينية تحمل لوحة خضراء على متنها كثير من حملة الإقامات الدائمة في القدس. ولكن نادر كان على يقين بأن الشيء الوحيد الذي له اعتبار هو ما إذا كان المرضى فلسطينيين أم كانوا يهوداً. فهو ما كان في أي ظرف من الظروف ليجلب مواطناً يهودياً إلى مستشفى فلسطيني. ولكن من أجل تجنب التأخير عند نقاط التفتيش، جلب كثيراً من الفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيلية إلى مستشفيات الضفة الغربية – وحسب علمه فقد كان الآن ينقل اثنين آخرين. وبينما كانوا يسارعون بالعودة إلى المركز الطبي في رام الله، مروراً بنقطة تفتيش قلنديا وصفارة الإنذار تنبعث من سيارة الإسعاف، عكف نادر على علاج المعلم وسائق الحافلة بالتناوب، يزودهما بالأوكسجين ويعوضهما عن السوائل التي فقداها. حدثني عن ذلك قائلاً: "ما زلت أسمع صراخهما".

علم نادر فيما بعد أنه لم يصل إلى الموقع إلا بعد تسعة وعشرين دقيقة من لحظة وقوع الحادث في الساعة الـ8:35 صباحاً. لم تكن المكالمة الأولى إلى قسم الطوارئ قد جاءت إلا بعد تسعة عشر دقيقة من وقوع الحادث، تحديداً في الساعة الـ8:54. فقد كان الحادث قريباً جداً من نقطة التفتيش ومن المستوطنة المجاورة ومن القدس لدرجة أنه لم يخطر ببال أحد من المتفرجين أن سيارات الإسعاف والمطافئ والشرطة الإسرائيلية، بل وحتى الجيش الإسرائيلي، لم يكونوا في طريقهم إلى موقع الحادث. فقد كانت شاحنة مقطورة إسرائيلية طرفاً في الحادث الذي وقع في داخل المنطقة جيم، أي المنطقة التي تشكل واحداً وستين بالمائة من مساحة الضفة الغربية، وتخضع بالكامل للسيطرة المدنية والأمنية الإسرائيلية. فكل مستوطنة وكل طريق يخدم المستوطنين في الضفة الغربية يقع داخل المنطقة جيم، وهي منطقة واحدة متواصلة فيما بينها. في طرق المنطقة جيم، والتي من المفروض أنها خاضعة رسمياً للاحتلال العسكري الإسرائيلي ولكن قامت إسرائيل بضمها بحكم الأمر الواقع، تصدر الشرطة الوطنية الإسرائيلية – وليس الجيش – عشرات الآلاف من المخالفات المرورية للفلسطينيين كل عام. أما الشرطة الفلسطينية فلا يسمح لها بأن تستخدم طرق المنطقة جيم دون تصريح إسرائيلي، والذي لا بد من التقدم بطلبه في العادة قبل أيام من موعد استخدامه. بالنسبة لسلطة المطافئ والإنقاذ الوطنية في إسرائيل ليست فقط المنطقة جيم هي التي تعامل على أنها ضمن سيادة دولة إسرائيل، بل وكافة مناطق الضفة الغربية الأخرى بحسب ما هو منصوص عليه في موقعها الإلكتروني الذي يتضمن قائمة بمحطات المطافئ المحلية المسؤولة عن "جميع الأماكن في كل أنحاء البلاد" من يافا إلى جبع إلى أريحا.

يلاحظ تقرير للسلطة الفلسطينية حول الحادث أن "سيارات الإسعاف وآليات المطافئ الإسرائيلية جاءت متأخرة، ولم تصل إلا بعد انتهاء عمليات الإطفاء والنجدة، وذلك على الرغم من قرب موقع الحادث من خدمات المطافئ والنجدة الإسرائيلية، حيث إن أقرب محطة إسعاف وطوارئ ومطافئ إسرائيلية لا تبعد سوى مسافة دقيقة ونصف". بل كان موقع الحادث على بعد ثوان معدودة من نقطة تفتيش جبع التي يديرها جنود إسرائيليون، وعلى بعد أقل من دقيقتين بالسيارة من مستوطنة آدم، وعلى بعد عدة دقائق فقط من مركز الشرطة في المنطقة الصناعية التابعة لمستوطنة شعار بنيامين وخدمات النجدة داخل مستوطنة كوخاف يعكوف.

وبحسب ما ورد في تقرير السلطة الفلسطينية فإن حقيقة أن سائق المقطورة كان مقيماً دائماً في إسرائيل ويقود عربة مسجلة في إسرائيل، وأنه انتهك قوانين المرور الإسرائيلية بتجاوزه خطاً مزدوجاً ليواجه المرور المعاكس له، وأنه صدم حافلة ركاب في موقع تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، حيث لا يسمح لسيارات السلطة الفلسطينية بالدخول، فإن ذلك كله "يحمل الجانب الإسرائيلي مسؤولية أخلاقية وقانونية". ويضيف التقرير أن عمليات الإنقاذ أعيقت نظراً "للاختناق المروري" الذي تسببه نقاط التفتيش الإسرائيلية الموجودة في طرفي الطريق، وأن طلبات فلسطينية سابقة بتركيب حواجز ضوئية وخرسانية بين المسارات المتعاكسة "قد تم رفضها من قبل الجانب الإسرائيلي".

الجزء الثالث

(5)

يقع منزل عبد وميلاد ضمن المنطقة المحاطة من ثلاث جهات بكتل إسمنتية شاهقة تشكل معا جدار العزل، بينما يوجد في الجهة الرابعة جدار من نوع مختلف مشيد من حجارة صفراء يعلوها سياج حديدي مرتفع. يشق ذلك الجدار من المنتصف طريقاً سريعاً من أربعة مسارب، وهو قطعة من الطريق الدائري الشرقي الذي يعرف على نطاق واسع باسم "طريق الأبارتايد" (طريق الفصل العنصري) والذي يشكل الآن الحد الشرقي لبلدة عناتا.

وعلى جانب من الطريق السريع، يقابل السائقون الإسرائيليون، ومعظمهم ينتقلون من وإلى مستوطنات الضفة الغربية، بمنظر شرقي للتلال المموجة فيما يعتبرونه إرثهم التوراتي. وعلى الجانب الآخر تتوجه أنظار السائقين الفلسطينيين، الذين يحظر عليهم دخول القدس ويحول الجدار بينهم وبين رؤية الإسرائيليين على الجانب الآخر من الطريق، غرباً باتجاه جيب عناتا، التي تتكدس أمامها أكوام من السيارات القديمة المفككة والمهملة.

كما توجد عدة أحياء تابعة لمدينة القدس داخل تلك الأسوار: راس خميس، راس شحادة، مخيم شعفاط للاجئين، وذلك الجزء من عناتا المعروف باسم ضاحية السلام. يدفع سكان تلك الأحياء الضرائب للمدينة ولكنهم لا يحصلون على شيء من خدماتها تقريباً. إذ تنساب المجاري عبر الشوارع، بينما الطرق فيها غير معبدة ومليئة بالحفريات، لا توجد بها مسارب ولا إشارات ضوئية ولا مواقف للسيارات ولا معابر ولا أرصفة للمشاة. لا توجد في هذه الأحياء حدائق ولا ملاعب، وتتكدس أكوام القمامة بمحاذات جدار العزل.

ونظراً لعدم قيام البلدية بأي خدمات لجمع القمامة، فإن أطناناً منها تحرق يومياً داخل جيب شعفاط / عناتا، مطلقة في الهواء انبعاثات خطيرة. وهذه منطقة لا تدخلها سيارات الإسعاف ولا آليات المطافئ الإسرائيلية ولا أي عربات تابعة للخدمات الأخرى بدون مرافقة عسكرية.

تدخل إلى هذه الأحياء وحدات من شرطة الحدود، التي تقاتل في العادة جنباً إلى جنب مع القوات الإسرائيلية داخل المناطق المحتلة، في عربات مصفحة، يحمل أفرادها بنادق هجومية ويرتدون الخوذات المحمية، وواقيات الركب، ودروع الأبدان.

يقول آرييه آميت، الذي كان آمر شرطة منطقة القدس في عام 2001: "لا تعمل شرطة القدس في الجزء الشرقي من المدينة" – أي في المناطق الفلسطينية، وليس فقط في الأحياء المعزولة من قبل الجدار – "كقوة شرطة تقليدية. بل تقوم عملياتها بناء على نموذج الجيش الصغير، وهي ترى أن وظيفتها الأساسية تتمثل في الحماية من سكان الجزء الشرقي من المدينة بدلاً من توفير الحماية لهم".

بعد عقد من الزمن، يقول ميكي ليفي، وهو آمر شرطة سابق آخر لمنطقة القدس عن الأحياء الفلسطينية: "لسنا بحاجة إليها". ويضيف أنه على النقيض من درك شرطة الحدود، فإن "الشرطة الإسرائيلية لا تذهب إلى هناك". وما زال الوضع على ما هو عليه حتى هذا اليوم.

جميع الموتى وتقريباً معظم من أصيبوا بجراح بليغة على متن حافلة ميلاد كانوا من سكان مخيم شعفاط للاجئين وامتداداته ضمن الشق الغربي من جيب شعفاط/ عناتا الذي يشكل جزءاً من مدينة القدس المضمومة. والبنية التحتية للمخيم وما يحيط به من أحياء في حالة انهيار، وكثيراً ما ينقطع عنه التيار الكهربائي حتى غدا ذلك أمراً روتينياً.

في عام 2014، ظل آلاف السكان بدون مياه لعدة أسابيع، بل بلغ الإهمال الذي تعاني منه هذه المنطقة أن إسرائيل لا تعرف كم من الناس يعيشون فيها، بينما تقدر رابطة حقوق الإنسان في إسرائيل بأن شق الجيب الذي يقع داخل مدينة القدس كان يؤوي ما يقرب من ثمانين ألف نسمة في عام 2019، وهو ما يعادل ربع سكان القدس من الفلسطينيين. يعيش هؤلاء في منطقة بلدية مساحتها أقل من نصف ميل مربع – وذلك أكثر من ضعف الكثافة السكانية لحي مانهاتن في نيويورك – داخل غابة من الخرسانة المتهالكة لمبان لم يخطط لها ولا تخضع لأي تنظيم.

لا يوجد سوى مخرجين لهذا الجيب المنحدر على امتداد التل من مخيم شعفاط إلى عناتا. يقع أحد المخرجين، والذي يفضي إلى بقية الضفة الغربية، في قعر التل، بجوار المدخل إلى "طريق الأبارتايد". أما المخرج الآخر، والذي يفضي إلى القدس، فهو نقطة تفتيش تشهد دوماً انسداداً مرورياً، ويقع عند المدخل المسور إلى مخيم شعفاط.

معظم نقاط التفتيش إما أنها داخلية، تتحكم بحركة الفلسطينيين داخل الضفة الغربية، أو خارجية، تتحكم بخروج ودخول الفلسطينيين إلى قطاع غزة والضفة الغربية. أما نقطة تفتيش شعفاط التي يديرها جنود الجيش الإسرائيلي وشرطته وعناصر من الحرس الأمني الخاص، فليست من هذا النوع ولا من ذاك، إذ إنها مكرسة للتحكم بحركة آلاف الفلسطينيين المقيمين داخل القدس، والذين يصطفون كل صباح لكي يعبروا من خلال الأبواب المعدنية الدوارة التي تفصل جزءاً من المدينة عن الجزء الآخر، وإن كان كلاهما يقعان ضمن ما تعتبره إسرائيل عاصمتها السيادية.

يعمل معظم سكان مخيم شعفاط في القدس على الجانب الآخر من الجدار، بعضهم صيادلة وبعضهم ممرضون وطهاة وعمال تنظيف يخدمون في الأحياء التي باتت الآن يهودية، وهي نفس الأحياء التي فرت منها عائلاتهم أو طردت في عام 1948.

ينحدر عدد من عائلات شعفاط من حي القطمون المقدسي، وهو حي مزدهر وثري، كان يسكنه في الأغلب مسيحيون فروا بعد أن قامت الهاغانا، المليشيا الصهيونية الرئيسية قبل قيام الدولة، بتفجير فندق سميراميس في يناير 1948، فقتلت ستة وعشرين مدنياً.

كانت العائلات بين ما يتراوح بين مائتين وخمسين ألفاً وثلاثمائة ألف فلسطيني فرض عليهم أن يتحولوا إلى لاجئين قبل الرابع عشر من أيار/ مايو 1948، عندما أعلنت إسرائيل قيامها وقامت الجيوش العربية بمحاربة احتلالها.

خلال الشهور التالية تحول نصف مليون فلسطيني آخر إلى لاجئين، وهؤلاء هم الذين يقوم بعض أحفادهم وأولاد أحفادهم اليوم بإلقاء قنابل المولوتوف (الزجاجات الحارقة) والأصباغ الملونة على أبراج المراقبة الإسرائيلية التي يعلوها السخام، وهي تطل برأسها من الجدران العالية لجيب شعفاط / عناتا، والذي تطل عليه أيضاً من مرمى البصر الجامعة العبرية.

مثله مثل جميع الفلسطينيين الذين يتواجدون بشكل قانوني في المناطق المحتلة، مُنح عبد رقم هوية خاصاً به مسجلاً لدى الجيش الإسرائيلي ووزارة الداخلية. ليس بإمكان أي فلسطيني بدون ذلك الرقم وبطاقة الهوية الإسرائيلية المرافقة له عبور أي نقطة تفتيش، ولا فتح حساب بنكي في رام الله أو مغادرة الأراضي المحتلة.

في غزة، حيث يعيش ما يقرب من مليوني إنسان وسط برك من مياه المجاري، وبلا ماء قابل للشرب أو تيار كهربائي منتظم، يتوجب على كل واحد من سكان القطاع التسجيل للحصول على رقم هوية إسرائيلي لكي يتمكن من الحصول على تصريح لمغادرة المنطقة، وإن كان مثل هذا التصريح لا يمنح إلا لعدد قليل جداً من الناس – في الأغلب لرجال الأعمال والمرضى الذين يحتاجون الخروج للعلاج والرعاية الطبية التي لا تتوفر داخل هذا القطاع الساحلي المعدم.

فعلى الرغم من ادعاء إسرائيل بأنها أنهت احتلالها لغزة، ما زال عشرات الآلاف من الناس محصورين هناك لأنهم لا يحملون رقم هوية إسرائيلي – كثير من هؤلاء هم أولاد لفلسطينيين دخلوا بتأشيرة سياحية – وبالتالي لا يمكنهم المغادرة تحت أي ظرف، ولا حتى عبر الحدود مع مصر. كما يعيش آلاف الغزيين الآن في الضفة الغربية تحت طائلة الطرد لأن إسرائيل لم توافق على انتقالهم من جزء من المناطق المحتلة إلى جزء آخر.

داخل جيب شعفاط / عناتا، بإمكان عبد أن يتنقل هنا وهناك دون الحاجة لأن يساوره القلق حول ما إذا كان، في أي لحظة من اللحظات، يعبر من الضفة الغربية إلى شرق القدس التي تم ضمها. فعندما كان يشتري احتياجات الرحلة في ضاحية السلام، وهي ذلك الجزء من عناتا الذي تعرض للضم، كان هو وميلاد بحكم "المتسللين غير الشرعيين" إلى إسرائيل، على الرغم من أنهما كانا ببساطة يمشيان داخل البلدة التي ولد ونشأ فيها عبد ووالداه وأجداده.

يحمل عبد وزوجته بطاقات هوية خضراء من النوع الذي يتم إصداره للفلسطينيين في غزة وفي مناطق الضفة الغربية التي لم يتم ضمها. بعض من أقاربهم، مثل أولاد عمومة عبد، يحملون بطاقات هوية زرقاء، وهذا يشير إلى أنهم من سكان القدس الذين يحق لهم التصويت في الانتخابات البلدية الإسرائيلية ولكن ليس في الانتخابات التشريعية العامة.

ولقد تم فعلاً إلقاء القبض على فلسطينيين يقيمون في جزء من عناتا، من حملة البطاقات ذات اللون الأخضر، لأنهم ضبطوا وهم يعملون في جزء آخر من نفس البلدة، ولكنه غدا جزءاً من مدينة القدس. ولكن لا يوجد حاجز يفصل بين ضاحية السلام والجزء الذي لم يتم ضمه من عناتا. ولكي يعرف المرء أين ينتهي ذلك الجزء ويبدأ الجزء الآخر فإن عليه أن يعثر على آخر مبنى ثبتت على جداره لوحة عنوان صغيرة باللونين الأزرق والأبيض مكتوب عليها بالعربية والعبرية معاً.

عندما كان شاباً، تزوج شقيق عبد، الذي يحمل بطاقة هوية خضراء، امرأة شابة تحمل بطاقة هوية زرقاء. ومثل كثيرين ممن في حالتهم من الأزواج، مُنعا من الإقامة داخل مدينة القدس، إلا أن يختارا أن يجازفا ويقيما بشكل غير قانوني في أحد جيوب القدس البائسة المعزولة عن باقي المدينة بفعل الجدار.

لم يكن بإمكان الزوجة جلب زوجها ليعيش معها في القدس قبل أن يبلغ الخامسة والثلاثين من عمره ويصبح ممن يحق لهم التقدم بطلب تصريح إقامة مؤقت في القدس، والذي ينبغي أن يجدد سنوياً ولا يحصل حامله على خدمات صحية أو تأمين وطني وكل ما يأتي معه من امتيازات يحصل عليها حاملو بطاقة الهوية الزرقاء.

كان بإمكانها التقدم بطلب للحصول على الجنسية الإسرائيلية، وحينها كان سيسمح لها بالعيش مع زوجها في عناتا، إلا أن الإجراءات طويلة ومرهقة، ونسب الرفض عالية. كما أن هذا الفعل محفوف بالمخاطر السياسية لأنه سينظر إليه على أنه إضفاء للشرعية على ضم إسرائيل شرق القدس.

ناهيك عن أنه لا يحل مشكلتها لأنه بموجب القانون قد لا يتمكن المواطنون الإسرائيليون أيضاً من الحصول على الجنسية لأزواجهم الذين يعيشون في المناطق المحتلة، ما لم يكن الزوج يهودياً.

وعندما قُدم طعن ضد هذا القانون، الذي يميز بين المواطنين على أساس انتمائهم العرقي بهدف تقليص عدد السكان الفلسطينيين داخل إسرائيل، رفضت المحكمة العليا الالتماس الذي رفع إليها بهذا الشأن في عام 2006 ثم في عام 2012. حينما صدر قرار المحكمة في عام 2012، كتب نائب الرئيس فيها يقول: "حقوق الإنسان ليست وصفة للانتحار الوطني".

لم تتمكن زوجة شقيق عبد نفسها من الانتقال للعيش خارج مدينة القدس، ولا حتى في حي مجاور لها لم يتم ضمه مثل النصف الشرقي من جيب شعفاط / عناتا. ولو أقدمت على ذلك لسحبت إسرائيل منها هوية القدس الزرقاء، مما سيفضي إلى إبعادها إلى الأبد وحرمانها من العيش في المدينة التي نشأت فيها وحيث تقيم عائلتها.

والحال كذلك، ظل مفتشون تابعون للمؤسسة التي تقدم خدمة التأمين الوطني الإسرائيلي، يرافقهم مقاولون من مؤسسة أمنية خاصة، يزورون شقتها في ضاحية السلام بانتظام لمطالبتها بدليل يثبت أن محل إقامتها ذاك هو بالفعل "مركز حياتها".

كثيراً ما يصل مثل هؤلاء المفتشون عند منتصف الليل، رجاء أن يثبتوا أن حامل بطاقة الهوية قد غادر المدينة، في العادة إلى إحدى بلدات الضفة الغربية المجاورة. من خلال فرض شروط شاقة على سكان المدينة ورصد تحركاتهم واحتمال انتقالهم للعيش خارجها، تمكنت إسرائيل من تجريد ما يقرب من خمسة عشر ألف فلسطيني من حق الإقامة في القدس.

أما في الضفة الغربية وقطاع غزة فقد أبعدت إسرائيل ما يقرب من 240 ألف من سكانهما. كثير من هؤلاء أبعدوا لمجرد غيابهم أثناء قيام إسرائيل بإجراء تعداد سكاني أو لأنهم سافروا إلى الخارج من أجل الدراسة أو العمل.

يعتبر سحب إسرائيل حقوق الإقامة في القدس من الفلسطينيين جزءاً من استراتيجية أوسع لدفع الفلسطينيين نحو الخروج. كانت لجنة وزارية قد أوصت في عام 1973 بأن تحافظ الحكومة على "التوازن السكاني" الذي كان قائماً في القدس حينذاك، حيث كانت نسبة السكان 73.5 بالمائة من اليهود مقابل 26.5 بالمائة من الفلسطينيين.

إلا أن إسرائيل أخفقت في تحقيق هدفها، وما لبثت أن غيرت النسبة المرغوب فيها للسكان لتصبح سبعين بالمائة يهود مقابل ثلاثين بالمائة من الفلسطينيين، ثم عدلتها تارة أخرى لتصبح 60 إلى 40. تحذر الخطة الشاملة التي توجه السياسة البلدية في القدس، واسمها "الخطة العامة للقدس 2000"، من أن "استمرار النمو المطرد للسكان العرب في القدس من المحتم أن يقلص نسبة السكان اليهود في المستقبل" وتدعو إلى "منع مثل هذه السيناريوهات، أو ما هو أسوأ، من أن يحدث".

ومع زيادة حصة الفلسطينيين من السكان في القدس زادت الضغوط التي تمارس عليهم حتى يغادروا، والأداة الأساسية التي تستخدم في ذلك هي سياسة الإسكان. فمنذ عام 1967، بدأت الحكومة الإسرائيلية في عملية تخطيط وإنشاء ما يزيد عن خمسة وخمسين ألف وحدة سكنية في مستوطنات شرق القدس، التي يشكل سكانها الآن ما نسبته أربعة وعشرون بالمائة من التعداد الكلي لسكان المدينة.

بالمقارنة مع ذلك، في الأحياء الفلسطينية شرق القدس، حيث يشكل سكانها ما نسبته 40 بالمائة من سكان المدينة، بادرت الحكومة بإنشاء ستمائة وحدة سكنية. ونظراً للتخطيط التمييزي يجبر الفلسطينيون على الانتقال للعيش في الضفة الغربية أو البناء بدون تراخيص.

ونتيجة لذلك، فإن ثلث المنازل الفلسطينية في المدينة بدون تراخيص، مما يضع ما يقرب من مائة ألف نسمة تحت طائلة التهديد بالإخلاء وهدم المنازل. خلال العقد الماضي تم تدمير منازل 2500 فلسطيني تدميراً كاملاً، بل أجبر المئات منهم على هدم بيوتهم بأيديهم ليتجنبوا دفع غرامات باهظة.

والأداة الأخرى هي إهمال البنية التحتية في الأحياء الفلسطينية، فكثير من هذه الأحياء في شرق القدس طرقها ضيقة لا تسمح بدخول شاحنات جمع القمامة، الأمر الذي يتسبب في بقاء الشوارع قذرة حتى أن البعض يلجأ إلى حرق الفضلات، الأمر الذي يؤدي إلى انبعاث الدخان من سفوح التلال. حال هذه الأحياء أشبه ما يكون بالجزر الصغيرة المحاطة بطرق مرورية رئيسية صممت لربط الأحياء اليهودية في المدينة بعضها ببعض، والتي في معظمها يوجد بها خطوط منفصلة لحافلات الركاب.

أما الطريق الرئيسي الذي يتنقل عبره سكان القدس الفلسطينيون من الشمال إلى الجنوب، طريق بيت لحم، فلا يتسع لأكثر من سيارة في كل اتجاه، على الأقل في الأجزاء التي لا تكون السيارات متوقفة على جوانبها. وهو طريق منحدر وخطير وتكثر فيه المنحنيات الضيقة، ولا يوجد فيه الكثير من حواجز الحماية أو ممرات المشي الجانبية، ولا مسارب ولا إشارات مرورية ولا إضاءة أو معابر للمشاة. بينما الشريان الرئيسي الذي يربط الشمال بالجنوب في غرب القدس، طريق بيغن السريع المكون من أربعة إلى ستة مسارات والذي تم مؤخراً توسيعه، فيربط المستوطنات جنوب بيت لحم بمركز مدينة القدس وما بعدها بكل سهولة. علماً بأن التوسعة أقيمت على أراض مصادرة من الأحياء الفلسطينية التي تم ضمها في شعفاط وبيت صفافا، والتي يشطرها الطريق السريع إلى قسمين.

والأداة الثالثة هي السياسة التمييزية في التعليم. إذ تعاني الأحياء الفلسطينية من نقص شديد في الفصول الدراسية، ولذلك فأقل من نصف الطلاب الفلسطينيين فقط يتمكنون من الدراسة في المدارس الحكومية، وثلث الطلاب الفلسطينيين – مقارنة بما يقرب من 1.5 بالمائة من الطلاب اليهود – يتوقفون عن الدراسة.

في الشطر الغربي من جيب شعفاط / عناتا، والذي يقع ضمن مدينة القدس ويقطنه ما يقرب من ثمانين ألف نسمة، لم تبن البلدية سوى مدرسة واحدة، في مبنى كان سابقاً يستخدم حظيرة للماعز. ونظراً لانعدام التعليم الحكومي الكافي، يلجأ كثير من أولياء الأمور إلى تسجيل أطفالهم في المدارس الخاصة، ومنها المدرسة التي كان يذهب إليها ميلاد، مدرسة نور الهدى، التي تقع داخل الجيب ولكن خارج مدينة القدس، في واحد من المباني الأقرب متاخمة للجدار.

على الجانب الآخر من الجدار، على بعد بضع مئات من الأمتار، تطل الأسطح الكرميدية الحمراء للفلل التي تتكون منها مستعمرة بيزغات زئيف في القدس.


طالع الجزء الرابع: تقرير خطير عن فصول عنصرية الاحتلال تجاه الفلسطينيين ج4

 

طالع الجزء الخامس: تقرير خطير عن "الأبارتايد" ومعاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج5

طالع الجزء الخامس: تقرير خطير عن "الأبارتايد" ومعاناة الفلسطيني تحت الاحتلال ج6

 

المصدر: عربي 21

#الاستيطان #الأبارتايد #الفصل_العنصري