فلسطين المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: شكلت الانتفاضة الأولى "زلزالاً" تاريخياً في مسيرة كفاح الشعب الفلسطيني، قلب كثيراً من المعادلات التي حاول الاحتلال تثبيتها بعد نكسة 1967، وساهمت بإعادة تعريف الفلسطيني بقدراته على الثورة وخلق وسائل يجمع فيها قواه النضالية.
وبعد 33 عاماً على الانتفاضة، ما زالت عدة قضايا بحاجة لبحث في التفاصيل العميقة، في ظل حاجة الفلسطيني لقراءة تجاربه النضالية.
بين القضايا التي تتعلق بالانتفاضة، مشاركة فلسطيني الداخل المحتل عام 48 في العمل الوطني، والأدوار التي لعبوها في دعم انتفاضة الحجارة.
"قُدس الإخبارية" حاورت منسق حركة "كفاح" في الداخل المحتل، محمد الميعاري، الذي ربطته علاقات مع القيادات الفلسطينية في الداخل والخارج، وشارك بمختلف النشاطات الوطنية في تلك المرحلة:
عودة إلى البدايات، هل كان حدث الانتفاضة مفاجئاً لكم كنشطاء سياسيين أم أن الإرهاصات والأحداث السابقة كانت تبشر بها؟
الحدث بحد ذاته لم يكن مفاجئاً لكل من كان يعمل على الساحة السياسية، ولكن المفاجئ كان الطريقة التي تفجرت فيها الانتفاضة، بمعنى أن الظروف كانت مهيئة وهناك إرهاصات كبيرة، وحادث دهس العمال في غزة هو "الصاعق" الذي فجر الوضع.
أعتقد أن تراكمات كثيرة حدثت حينها، وبرأيي أن صفقة تبادل الأسرى في 1985 التي أبرمتها الجبهة الشعبية - القيادة العامة، كان لها دور هام في اندلاع الانتفاضة، حيث أنها استطاعت تحرير أكثر من 1151 أسير كانوا يقضون أحكاماً بالسجن لمدة طويلة، بينهم 49 أسيراً من الداخل المحتل عام 48، وتأثرت الانتفاضة بهم وبالاستقبال الذي جرى لهم بمختلف المناطق، وهذا بالإضافة للوضع المتفجر والتراكمات ساهمت في الانفجار الشعبي.
كيف تأثرت الانتفاضة الفلسطينية بتجربة "يوم الأرض" في الداخل المحتل؟
"يوم الأرض" شكل نموذج لكيفية تفجير ثورة شعبية، وفي كل مرحلة هناك حدث يصلح لأن يكون عنوان لمرحلة جديدة، والجديد في يوم الأرض أنه كان صداماً بين جماهير غاضبة على مصادرة الأراضي وقتل الشبان، وأدخل العلاقة بين فلسطيني الداخل الذين لم يكن يزيد عددهم عن 400 ألف إنسان مع سلطات الاحتلال التي اعتمدت على وسائل القمع والملاحقة، في نقلة نضالية.
ورغم أن يوم الأرض كان قبل الانتفاضة بأكثر من 11 عاماً، لكن يمكن اعتباره ضمن التراكمات التي ساهمت في الانتفاضة، واعتاد فلسطينيو الضفة وغزة على إحياء ذكراه مع أهالي الداخل.
بعد احتلال 1967، انفتحت البلاد أمام فلسطيني الداخل للتواصل مع أهلهم وأخوانهم في الضفة وغزة والقدس، كيف شكلت هذه العلاقات نواة لعلاقات نضالية بين أبناء هذه المناطق؟
فلسطينيو الداخل المحتل عام 48 عزلهم الاحتلال عن الضفة وغزة وبقية العرب، وطوروا نضالات خاصة بهم، وهنا يجب أن نذكر تجربة حراكات مثل "حركة الأرض" العروبية الناصرية التي أقيمت في عام 1959، ولاحظت للمصادفة أن تأسيسها تلاقى مع العام الذي انطلقت فيه حركة فتح، بمعنى أن الظروف حينها انعكست على كل الفلسطينيين، وعملوا وفق الظروف الخاصة بكل منطقة.
في ورقة لك قدمتها "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" تتحدث عن مؤتمر صحفي عقد بالقدس جرى فيه تداول فكرة فك الإضراب بعد أيام من انطلاق الانتفاضة، ما هي التفاصيل؟ وما هو دورك حينها؟
الأيام التالية على استشهاد العمال من جباليا شهدت مواجهات وردود فعلية، وكانت أكثر شمولاً في غزة ووصلت إلى الضفة، وفي القدس تحرك الصحفيون والنشطاء والقيادات الوطنية لمواكبة الحدث، وجرى في اليوم الثالث للانتفاضة مؤتمر صحفي، وكان قد أعلن الإضراب في كل المناطق المحتلة، وفي الفندق الوطني كان هناك لقاء للتباحث حول "ماذا بعد؟" وحضره إعلاميون من مختلف الصحف، وجرى تداول مطالب تتعلق معظمها بالاحتياجات اليومية مثل الضرائب ومنع التجول، ولم يكن هناك تصور أن الحدث أكبر من ذلك.
وطرحت رؤية أن يتم إعلان إنهاء الإضراب، وهنا أنا لم أكن أوافق على هذا الرأي، لأن الإضراب ردة فعل على الحدث الكبير الذي جرى، ولا يجب أن نفك الإضراب وكأننا نهدم كل ما صنعناه، وقلت أننا لسنا في موقع من يفك الإضراب لأنه جرى بشكل تلقائي وليس لأحد الحق في وقفه، ولحسن الحظ استمر الإضراب، وفي المواقع والمدن الكبرى، وداخل الأراضي المحتلة عام 48 أجريت اتصالات مع لجنة المتابعة العليا، التي قررت إعلان إضراب شامل في تاريخ 20 ديسمبر تأييداً للانتفاضة، فكيف يمكن وقف الإضراب في الضفة وغزة وهناك ترتيبات لإشراك الداخل في الحدث.
بدأ الاحتلال حينها بالقمع والحراك الذي حصل بعد الإضراب، كان له دور في زيادة المواجهات وتفجر الانتفاضة.
تحدثت في هذه الورقة أيضاً عن نماذج مختلفة من فلسطيني الداخل قدموا مساعدات للانتفاضة بأشكال متنوعة، حدثنا عن بعضها.
في الداخل كان هناك تيارات مختلفة بالتعامل بالانتفاضة: الحزب الشيوعي الإسرائيلي وقف ضدها ودعا للمفاوضات، وهناك قصة مذكورة عن الرفيق إيميل حبيبي في أكثر من مصدر، أنه خلال اجتماع للحزب تعامل باستهزاء مع الانتفاضة وبيانات القيادة الموحدة، والتيار الوطني ممثلاً بالحركة التقدمية، وأبناء البلد، وجمعية أنصار السجين التي أقامت علاقات مع الأسرى، وكان شعارنا: لسنا متضامنين مع الانتفاضة بل ملتحمين فيها.
وأذكر في الانتفاضة أن بيانات القيادة الموحدة في جنين، كنا نطبعها في مكتب الحركة بالناصرة، وكنا نتوجه بوفود إلى مخيمات غزة. وبعض الإخوة المطاردين وجد الملجأ في بيوت بالداخل المحتل.
ومن بين النماذج الطبيب نظير يونس الذي فتح عيادة على الجبل بين أم الفحم وجنين، لعلاج الجرحى الذين لم يتمكنوا من التوجه للمستشفيات خوفاً من الاعتقال. بالإضافة لحملات الإغاثة والرعاية التي نظمها أهالي الداخل وإعادة بناء البيوت المهدومة.
وهناك من فلسطيني الداخل من شارك بالانتفاضة والعمل الفدائي، بينهم الأسير كريم يونس من قرية عارة، المعتقل منذ 40 سنة، وهو رمز للحركة الوطنية وعضو مركزية لفتح.
في كل المصادر والشهادات التاريخية التي تناولت الانتفاضة، هناك حديث عن دور ريادي للشهيد خليل الوزير "أبو جهاد" في التنسيق والاتصال مع الأرض المحتلة، ما هي طبيعة دوره؟ وكيف شكلت الانتفاضة فرصة كبيرة للثورة الفلسطينية بعد الخروج من بيروت والأزمة التي دخلت فيها خلال السنوات التالية على اجتياح لبنان؟
الشهيد أبو جهاد المسؤول عن الأراضي المحتلة وكان لديه رؤية أن يتم دمج فلسطيني الداخل المحتل عام 1948 في العمل الوطني الفلسطيني، وبعد خروج المنظمة من لبنان تحول التركيز على فلسطيني الداخل سواء في كل المناطق المحتلة، وكان هناك من يعمل على الساحة السياسية يرى أن فلسطيني الداخل المحتل عام 48 "منفصلين" عن باقي الشعب الفلسطيني، ونظروا لهم "كإسرائيليين" وكان هذا موقف الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي ضم قيادات ونشطاء عرب، بينما رفع نشطاء حركة الأرض وأبناء البلد شعار "الجليل كالخليل"، أي أن القضية واحدة مع الأخذ في الحسبان الظروف التي تعيشها كل منطقة. فلسطينيو 48 عاشو في ظل الحكم العسكري والاضطهاد وسرقة الأراضي، ونفس الظروف مر بها باقي الشعب الفلسطيني، ولدينا نظرة سياسية أن الفلسطينيين هم شعب واحد في كل مكان تواجده، وفي حينه كانت تمثله منظمة التحرير الفلسطينية، أقول في حينه لأن المنظمة بوضعها الحالي لم تعد لا القضية ولا الشعب في كل ما يتعلق بمصيره، بعد الخسارة التي لحقت بنا، والاستيطان الذي أغلق الباب أمام أي حل عن طريق المفاوضات، أو الرهان على موقف من الإدارات الأمريكية، حتى وصلنا إلى أن يسلم الخليج نفسه وكل ما يملك للمحتل، حتى حركات "المافيا" انتقلت للعمل هناك.
أحد الشخصيات التي كانت على اتصال مع فلسطيني الداخل، بعد يوم الأرض كان المرحوم فهد القواسمي رئيس بلدية الخليل، وشكل حلقة وصل مع أبو جهاد من أجل تشكيل تنظيمات وحراكات في الداخل المحتل عام 48.
في 1980 أبعد الاحتلال فهد القواسمي إلى الأردن، واستلم قضية التواصل معنا شقيقه فايز القواسمي، وبعثنا طلاب من الداخل للدراسة في كلية "البولتيكنك" بالخليل، وأصبح هناك لقاءات بين فلسطيني الداخل والضفة.
كان لأبي جهاد دور في إقامة "الحركة التقدمية" بالداخل، لتتولى مسؤولية القيام بمهمات وطنية وسياسية، وكان هناك لا مانع أن تدخل في انتخابات "الكنيست" في حينها، وذلك لسببين: إعطاء غطاء للاتصالات مع منظمة التحرير، وحينها كان الحزب الشيوعي هو المتحدث باسم الفلسطينيين في الداخل، فأردنا أن نقيم تنظيم من داخل الحركة الوطنية، وتوليت أنا قيادتها، وكان لدى منظمة التحرير اهتمام به وخلال الانتخابات.
ليس غريباً أن الصهاينة اغتالوا أبي جهاد بعد أن عرفوا بدوره في دعم النضال الفلسطيني بأشكاله كافة سواء المسلح أو الجماهيري أو السياسي.
برأيك هل أخفقت القيادة الفلسطينية في استثمار نتائج الانتفاضة بشكل أفضل؟
جزء من القيادة التي استلمت التواصل معنا بعد استشهاد خليل الوزير والقادة الآخرين، لم تفشل فقط في استثمار الانتفاضة بل كانت ضدها، وأنا مسؤول عن ما أقول.
كان لدي علاقات مع القيادة الموحدة للانتفاضة، واستطيع التحرك بحرية نتيجة أنني كنت عضواً في "الكنيست" عن الحركة التقدمية التي كانت أحد إفرازات الحركة الوطنية، وكنت عندما يصدر بيان الانتفاضة أتولى نقله بين المناطق على مقترح البيان، حيث لا تتمكن القيادات من التنقل نتيجة الإغلاق، وأنقل مقترحاتها على صيغة البيان.
في تموز 1988 التقيت مع محمود عباس في براغ، ونقلت له رسائل من قيادة الانتفاضة، حول قضايا مختلفة بينها: المطالب، والشخصيات التي يجب التعامل معها، وأمور أخرى.
وعندما قلت له أنني أحمل رسائل من الانتفاضة، صدمت عندما رد عليّ: "دعنا من الانتفاضة هذه حركة قامت بها إسرائيل لفصل الداخل عن الخارج وإيجاد قيادة بديلة عن منظمة التحرير"، وكان ردي عليه عنيفاً: وحد الله، كيف بتوصف الانتفاضة بهذا الشكل، وهي رد على قمع الاحتلال وظلمه، ووصلت بصوتها إلى كل العالم.
واضح أنه منذ تلك الفترة بدأ التراجع والتآكل، وكان لدى هذا الجناح من منظمة التحرير سعي خلف ما يسمى "اليسار الإسرائيلي" و"حزب العمل" والمفاوضات، لذلك رأى الانتفاضة معرقلاً له.
وفي 1992 قبل إعلان اتفاق "أوسلو" بشهور، كان هناك تحضير لانتخابات "الكنيست" ويتولى قيادة الحكومة الإسرائيلية حينها إسحاق شامير عن حزب "الليكود". وطلبنا للاجتماع في القاهرة مع أبو مازن، ومدير عام الخارجية المصرية السابق أسامة الباز.
وحضرت الاجتماع مع عبد الوهاب دراوشة الذي وصل إلى "الكنيست" سابقاً عن طريق حزب العمل، وفي 1988 أسس حزباً جديداً ونجح مجدداً في الانتخابات، وحضر معنا رئيس لجنة المتابعة في الداخل إبراهيم حسين.
أبو مازن اقترح أن نشكل قائمة عربية مشتركة باستثناء الحزب الشيوعي، الذي كان يرفض إلا أن يشارك لوحده، لدعم حزب العمل، كي يتولى رابين رئاسة الحكومة، ومن جانبي كان لي موقف رافض لهذه الرؤية.
وأذكر أن محمود عباس سألني: ما رأيك برابين؟ فأجبته: حزبه قمعي مجرم يتغطى بالاشتراكية، فرد علي: أنا بسألك عن رابين وليس عن شامير، فأجبته: وأنا بجاوبك عن رابين.
الصدمة أنه كيف لشخصيات مسؤولة عن الشعب الفلسطيني أن لا تملك معرفة بالمسؤولين الإسرائيليين.
أرادوا حينها أن يضعونا تحت عباءة حزب العمل، ورفضت ذلك وترشحنا بقائمة لوحدنا، فوصلتني رسالة من أبي مازن: "اسحب ترشحك لأنه يشكل ضرراً لمصالح الشعب الفلسطيني"، ورددت عليه: "ليس لك في القضية الفلسطينية أكثر مني".
وحصل تحريض ضدنا ولم نفر في الانتخابات، وجرى تزوير 5000 صوت في النقب بمساعدة حزب العمل لإنجاح دراوشة، ووصل رابين للسلطة.
ما هو المطلوب من الحركة الوطنية في الداخل والضفة وغزة لإعادة خلق خطاب أو آليات عمل مشتركة توحد الفلسطينيين في ظل هذا التباعد الذي نلمسه يوماً بعد الآخر؟
الملتزمون بالقضية في كل أماكن تواجد شعبنا، هم حزب واحد، ومن يتوجه للمفاوضات هم فريق آخر، واللامنتمين نتمنى أن يلتحقوا بالعمل الوطني.
ودعونا في حركة كفاح إلى قيام ائتلاف بين فلسطيني الداخل والشتات، والعودة إلى الميثاق الوطني الفلسطيني، وبناء حركة وطنية جديدة في ظل التطورات التي يشهدها العالم، وبعد إخفاقات مرحلة "أوسلو"، التي لا تتناسب لا مع القضية ولا مع عطاء شعبنا وما قدمه.
وستبقى فلسطين القضية الأولى لدينا وعند العروبيين وأحرار العالم، ونأمل أن تكون التطورات الجديدة في العالم بعد كورونا لصالحنا وأن نحقق ما علينا من مسؤولية.