تفاعل غير مسبوق وُصف بغير العادي، واهتمام كبير في الأوساط العربية والفلسطينية بالانتخابات الأميركية هذه المرة، رغم أنها من المفترض أن تكون شأناً داخلياً أميركياً. متابعة وشغف كبير وترقّب وتحليلات وتوقّعات بمن سيحسم المعركة الانتخابية. كل هذا كان بسبب تدخل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وبشكل سافر، في كلّ القضايا العربية والفلسطينية والعالمية خلال سنواته الأربع، من خلال مشروعه المعروف بـ"صفقة القرن"، ورعايته المباشرة لاتفاقيات التطبيع بين الاحتلال وكل من الإمارات والبحرين والسودان، وحديثه عن 5 دول أخرى، على رأسها السعودية.
فوز بايدن معناه حسم المعركة الانتخابية بشكل نهائي، وأن المنطقة مقبلة على متغيرات كبيرة في اتجاهات مختلفة، أبرزها ستكون سياسية. وهنا، من الجدير ذكره أن المعروف عن السياسة الخارجية الأميركية تجاه المنطقة هو استراتيجية ثابتة، لكن المختلف هو الإدارة والتكتيك والأسلوب. وعليه، فالمشهد بعد فوز بايدن يتّجه إلى تحوّل عميق، لكنه سيبقى في إطار الاستراتيجية الثابتة للولايات المتحدة تجاه أغلب الملفات الموجودة في المنطقة، والملفّ الفلسطيني جزء لا يتجزأ منها.
صورة ترامب في الشّارع العربي تضرّرت كثيراً خلال حكمه بفعل عدّة خطوات، منها قراره بنقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس، ودعمه المباشر لضمّ مرتفعات الجولان السورية إلى السيطرة الإسرائيلية، ودعمه في المحصّلة النهائية لكل المواقف الإسرائيلية، لكنه ربما حظي ببعض التأييد من قبل فئات محددة، لإقدامه على إلغاء الاتفاق النووي الإيراني الذي كان قد أبرمه سلفه الديموقراطي باراك أوباما، وهو ما رحَّب به كثيرون في منطقة الخليج.
كما هو معروف عن جو بايدن، فهو سياسي مخضرم يعمل منذ السبعينيات. أغلب سياساته وتحركاته ستعتمد بشكل أساسي على مصالح الولايات المتحدة في الدرجة الأولى، لكن بتكتيك مختلف، وسيعمل على إنجازها من دون تردد. ولا يمكن أن ننسى أنه كان جزءاً لا يتجزأ من إدارة أوباما على مدار 8 سنوات حقَّق فيها سياسات أميركا، وكان من أبرزها الاتفاق النووي الإيراني في العام 2015.
السياسة في عهد بايدن ستتغيَّر، وربما ستعمل إدارته على إصلاح الأضرار التي سبَّبها ترامب إلى حدّ ما في بعض الملفات. ومن أبرز القضايا التي يمكن أن تعمل عليها، إعادة تقييم علاقات أميركا بالسعودية، وربما ستوقف الدعم الأميركي للحملة التي تقودها المملكة على اليمن منذ سنوات، والتي أدت إلى تعالي أصوات رافضة لها في الكونغرس، بسبب ما أدت إليه من أزمة إنسانية يعيشها الشعب اليمني.
فلسطينياً، إن سؤال اللحظة الذي يدور في الأذهان: هل يأتي جو بايدن بشيء جديد للفلسطينيين؟ هنا، أتحدث عن "صفقة القرن" وملف القضية الفلسطينية على وجه الخصوص، فإدارة بايدن ستتعامل مع هذا الملف بشكل أقل حدة مما تعاملت به إدارة ترامب، التي تعاطت معه بطريقة شرسة متوحشة، وستعمل الإدارة الأميركية الجديدة على محاولة فتح آفاق حوار جديدة للوصول إلى حل أو تكتيك بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، يتمثّل بعودة المساعدات للسلطة الفلسطينية، وإعادة فتح القنصلية الأميركية ومكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وهو ما جاء في البرنامج الانتخابي للرئيس جو بايدن.
معروف عن بايدن أنه لا يدعم ضمّ الضفة الغربية والاستيطان، ويعتبره عقبة أمام أي محاولة لإحياء مسار حل الدولتين، لكن من غير المرجح أن يعيد السفارة إلى تل أبيب أو يتراجع عن خطوات التطبيع الأخيرة، بمعنى أن الأمور لن تعود إلى الوراء، فالتوجّه الأميركي لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي قائم على تعزيز حضور "دولة" الاحتلال وتغلغلها في المنطقة.
من المهم جداً أن نعي فلسطينياً أن ذهاب ترامب ليس معناه ذهاب "صفقة القرن" ومخاطرها، فقد بدأ نتنياهو بمحاولة إدراج عناصر "صفقة القرن" في خطط الديموقراطيين، عبر شعارات كاذبة تسمى تبادل الأراضي، وهو ما يعدّ شرعنة رسمية لسرقة الأرض، واستكمالاً لمخطّط الضمّ الإسرائيليّ للأراضي الفلسطينية.
وهناك تحديات كبيرة تنتظر المشهد الداخلي الفلسطيني، فهل يستكمل مسار الوحدة الّذي انطلق من اجتماع الأمناء العامين في بيروت، أو يتوقف قطار المصالحة، ويتلاشى الأمل الّذي انبعث بسبب إجراءات ترامب؟ وهل تكون المصالحة هي الخيار الأقرب إلى الفلسطينيين بالتوحد لمواجهة مشروعه؟
الترحيب والتهنئة الدبلوماسية خطوة روتينية في العرف السياسي، لكن لا مساحة هنا للمبالغة والذهاب بعيداً بالتعويل أو المراهنة من جديد، فما صدر من ترحيب مبالغ فيه لأكثر من شخصية رسمية فلسطينية، وما كشفته وكالة "أسوشيتد برس" عن برقية بعث بها رئيس جهاز مخابرات السلطة، اللواء ماجد فرج، إلى مكتب المرشح جو بايدن، تعهد خلالها باستقبال أموال الضرائب من الاحتلال والاستمرار بالتنسيق الأمني والمدني معها في حال فوزه بالانتخابات، يكشف الموقف الحقيقي للسلطة، بأنها لا زالت تراهن على عودة الديموقراطيين، وأن خيار المفاوضات والقرارات الدولية لا زال هو الخيار المفضل لديها، وهو خيار يتقدم على خيار تحقيق الوحدة الفلسطينية، وخصوصاً أنّ المواطن الفلسطيني لم يلمس أي إجراءات فعلية تنمّ عن حرص فلسطيني على تحقيق الوحدة وإنهاء صفحة الانقسام وطيّها.
لا فرق ما بين جمهوري وديموقراطي. السياسة الأميركية الخارجية واحدة، والمختلف هو التكتيك والأسلوب. ما سيحدث على الأرض هو استمرار نتنياهو واليمين الإسرائيلي في تطبيق "صفقة القرن" ربما بطريقة مغايرة، واستغلال كل الظروف بقتل الحلم الفلسطيني، وهو ما يستدعي التوقف عن العبث بمصير المشروع الفلسطيني، واستشعار خطر المشروع الصهيوني على الأرض الفلسطينية.
أيّ رهان على الإدارات الأميركية هو رهان خاسر. الرهان الحقيقي القادر على إعادة الروح إلى القضية الفلسطينية من جديد هو الصمود الفلسطيني، وتعزيز خيارات الشعب الفلسطيني وأساليب مقاومته للاحتلال، فالرهان على المفاوضات من جديد هو رهان خاسر، ولن يحقّق لأصحابه إلا المزيد من الفشل السياسيّ، وهو ما لا يسع القضيّة الوطنيّة الفلسطينيّة أن تتحمله.