القدس المحتلة- خاص قدس الإخبارية: بالقدس القديمة، وفي جهتها الشمالية الغربية العتيقة، دخولاً من باب الخليل، تتراءى للناظر قلعة كأنها وشحة من ذاك الزمان، يوم كانت فيه الحضارة الإسلامية جبلاً فوق الجبال، وفوق البحار موج. شامخة بحجارتها، حصينة بأسوارها، باسقة أبراجها كأنها لوحة فنية توالت على رسمها حضارات كثيرة؛ الأمر الذي منحها هذا البذخ من الإبداع والبهاء، ويكتمل جمالها إذا اعتليت أعلى أبراجها حيث تتجلى أمامك القدس المدينة، أو إن شئت فقل: القدس.. الكون بأكمله.
تلك إذن هي " قلعة القدس" الصامدة والمستنفرة، التي تقاتل بكل حجارتها من أجل هويتها، تصارع محتل غاشم يحاول وبأقصى قوته أن يحولها لآثار يهودية ليبني تاريخاً له أو يحاول.
شيدت قلعة القدس مذ أشرقت شمس الحضارة، ولنقل أن تاريخها يبدأ منذ العهد اليبوسي، فالكنعاني، فاليوناني، فالروماني والبيزنطي، مؤسسها الفعلي هو هيرودس الآدومي ملك الرومان في فترة الحكم الروماني _ فالبناء كان قائماً منذ القرن الثاني قبل الميلاد_ إلا أن هيرودس أضاف لها الكثير؛ كالأبراج الثلاثة التي ما زالت قائمة حتى يومنا هذا، أما بالفترات اللاحقة فقد تعرضت كثيراً للهدم ليعقبها إعادة بناء وترميم، حتى جاءت الحضارة الإسلامية لتتولى أمر هذه القلعة ولتصبح قلعة إسلامية بحتة _مع بقاء بصمات فيها من الحضارات السابقة_، فبدأت ببناء أموي صغير المساحة نوعاً ما، ثم أتى الفرنجة بعد احتلال القدس سنة (492هـ/ 1099م) وأضافوا على هذه القلعة بعض الإضافات، ليأتي سلاطين بني أيوب لاحقاً ويصلحوا عبث الدهر عليها، وذلك بعد تحرير مدينة القدس على يد صلاح الدين الأيوبي من الفرنجة في سنة (583هـ/ 1187م).
ثم جاء المماليك ليعيدوا بناءها، وليضعوا بصمتهم الإسلامية عليها، وليتركوا تاريخهم هنا، وذلك بفترة تولي السلطان الأشرف خليل بن قلاوون والذي تكللت فترته بتحرير عكا وطرد آخر معقل للفرنجة من الشرق سنة (691هـ/1291م)، ولعل من إضافات المماليك المئذنة الواقعة في جنوب غرب القلعة والتي شيدت بفترة السلطان عبد الملك بن قلاوون عام (1310م)، فبقيت على حالها هذا حتى جاء السلطان العثماني سليمان القانوني، والذي كان همه إعادة تفعيل النظام الدفاعي في القدس فأمر بترميم القلعة وإصلاح حالها حيث كانت آيلة للسقوط وذلك سنة (938هـ/1531م)، فتغير حالها وغدت قلعة شامخة بعد أن كان حالها متشعثاً.
تقلبت أحوال القلعة فبعد الحكم العثماني اهتم بها البريطانيون، فرممت على أيديهم وحولت إلى مركز ثقافي، وقاعة معارض محلية، واهتمامهم هذا بثّ الريبة والخوف لدى المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى والذي تولى الإشراف عليها عام (1926م)، ثم زال الانتداب وزالت مخاوفه، وغدت القلعة تحت عهدة الجيش العربي الأردني، إلا أن خوفاً جديداً بات يلاحقها وذلك بدءاً من عام (1967م) حيث احتلت المدينة من قبل الاحتلال الاسرائيلي وبذلك تغير حال القلعة منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا!.
تحتوي هذه القلعة الضخمة بين زواياها غرفاً كثيرة استخدمت مكاتب للقيادة حيث كانت تعد مقراً للقيادة والجنود، كما واستخدمت كسجن أيضاً وعرفت "بسجن القلعة" أو "حبس القلعة" حيث كان يسجن فيها الرهائن، ضمت مسجدين اثنين أحدهما صيفياً والآخر شتوياً، كما احتوى سور القلعة على تحصينات عسكرية كالمساقط، والمغازل _ حيث استخدمت لإطلاق السهام وإسقاط الزيت الحار على الأعداء_ ومواقع للرماية.
لقد حظيت هذه القلعة بتاريخ مشرق إلا أن جزءًا من تاريخها بات مظلماً وذلك مع أواخر الفترة العثمانية حيث أرسلت بريطانيا علماء ليقوموا بعمليات حفرٍ أسفل القلعة في محاولة منهم لدراسة آثار القدس، وهذه الحفريات استكملت بعد حين طويل وتحديداً بعام (1967م) بعد الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس، والتي ما زالت مستمرة لغاية اليوم، وقد كشفت هذه الحفريات آثارًا إسلامية قديمة ولم تكشف آثاراً يريدها الاحتلال ليؤكد ملكيته لها.
ولم يكتف الاحتلال بهذا بل كعادته يحاول أن يغير من الحقائق ويزورها على الرغم من أن الآثار الملموسة والمؤرخة تكشف مدى كذبهم وافتراءاتهم، حيث أطلقوا عليها قلعة داود نسبة للنبي داود (عليه السلام) والذي يعتبره اليهود ملكاً لدولتهم التي تأسست بالقدس قبل نحو ثلاثة آلاف عام، وأطلقوا أيضاً على أحد أبراج هيرودس التي بناها اسم برج داود، إلا أنهم آثروا على نقل اسم برج داود إلى المئذنة التي بنيت في العهد المملوكي، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن من لا تاريخ له يظل متخبطاً لا يعلم من أين يخلق تاريخاً له في مكان لفظه وتبرأ منه.
كما وقام الاحتلال باستغلال القلعة لأغراضه السياحية الداخلية والخارجية بتحويلها لمتحف ومعرض وذلك بعام (1989م) حيث يتم شرح تاريخ القدس كما هم يرونه، وكما كتبوه وصدقوه معتمدين على صورٍ توضيحية ومجسمات واهية.
وهنا لا يسعنا إلا نقول ما قاله الشاعر الحر تميم البرغوثي:
"فالقدس تعرف نفسها ... فاسأل هناك الخلق يدلك الجميع
فكل شيء في المدينة ذو لسان حين تسأله يبين"
المصادر:
مجير الدين الحنبلي، الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، جزء 1، 1973م.
عارف العارف، المفصل في تاريخ القدس، 2005م.
صالح الشورة، اسهام السلطان سليمان القانوني في التطور العمراني الجديد للقدس، 2015م.
بشير بركات، القدس الشريف في العهد العثماني، 2002م.
يا قدس نشرة أكاديمية ثقافية، 2016م.