يرتكز مفهوم السلام الإسرائيلي على أساس القوة والردع والهيمنة الشاملة على المنطقة برمتها، وكأي كيان أو دولة استعمارية تظل "إسرائيل" محكومة لطبيعتها العدوانية التوسعية، وبالتالي فإن فهمها للسلام ينسجم تمامًا مع هذه الطبيعة، فمعايير القوة والحرب والتوسع هي معايير متأصلة في مثل هذا النمط من الكيانات، أما مفهوم السلام فإنه يعني إخضاع الخصوم والسيطرة على مقدراتهم وثرواتهم واستعبادهم.
فالحركة الصـهيـونية منذ "هيرتسل" وحتى اليوم، وفي تعريفها لذاتها بأنها حركة وظيفية مرتبطة بالقوى الاستعمارية، وأن دولتها ستكون بمثابة القلعة أو السد في وجه "بربرية الشرق" كما كتب هرتسل، وبالتالي فقد حسم هرتسل ومن خلفه سائر القادة الصهاينة وظيفة هذه الدولة وعلاقاتها العدائية المتأصلة مع دول وشعوب المنطقة، وهذه الدولة ستكون تابعة للاستعمار وتؤدي وظائفها على هذا النحو، مقترحًا إقامة "كومنولث شرق أوسطي" تلعب فيه "دولة اليهود" دورًا مركزيًا من موقع الهيمنة على المنطقة، وقد تكررت هذه المواقف على ألسنة أكثر من مسؤول صـهيـوني فيما بعد.
ومع المباشرة في تجسيد هذه الدولة على الأرض في مرحلة "اليشوف" التي سبقت الإعلان عن الدولة، عبّر القادة الصـهاينة عن تصورهم للدولة الناشئة، بأنها ستكون دولة تفرض حضورها بالقوة ولا شيء غير القوة.
لقد كانت نظرية "الجدار الحديدي" المستمدة من تصورات هرتسل "القلعة أو السد"، هي النظرية الأمنية التي ستؤَسَّس عليها الدولة العقيدة، فقد نشر "جابوتنسكي" مقالًا هامًا في إحدى الصحف العبرية عام 1923 بعنوان "الجدار الحديدي"؛ تُصوَّر فيه الدولة كجدار وقلعة قوية عصية على الهزيمة أو الاختراق، وينبغي أن تكون أقوى من جميع دول المنطقة، وأن من شأن القوة أن تشكل رادعًا لدول المنطقة من خوض أية حرب أو مغامرة ضد هذه الدولة، ومن هذا المنطلق سيتحقق السلام والأمن على أساس الهيمنة والردع.
وفي ذات الفترة أو بعدها بقليل كتب "بن غوريون" هو الآخر عن نظرية الجدار الحديدي، حيث التقت أفكاره مع أفكار جابوتنسكي، وستكون هذه النظرية هي التي ستحكم إسرائيل منذ إنشاءها إلى اليوم، بما فيها علاقاتها مع دول الجوار.
لقد أدرك كلٌ من جابوتنسكي وبن غوريون أن القوة العسكرية وحدها من تجعل اليأس يدب في نفوس العرب، وأنه لا جدوى من مقاومة الدولة اليهودية، وأن عليهم أن يسارعوا لإشهار استسلامهم وولائهم لها.
ومنذ الإعلان عن الدولة أرسى بن غوريون أساس هذه النظرية التي تقوم على منطق القوة والردع، وسعى لإقامة تحالفات مع قوميات وطوائف في قلب العالم العربي، وخططت "إسرائيل" لدعم إقامة دويلات وكيانات دينية وعرقية وطائفية ومذهبية وعدم السماح بوجود دولة عبرية مركزية، بل والسعي لتفتيت الدول القائمة حين صرح قائلًا: "إن سلاحنا الأقوى هو تفكيك الدول العربية واغراقها في الحروب الأهلية"، وهذا الموقف يقع في صلب الرؤية الاستراتيجية الإسرائيلية، وسارت على هُدية الدولة العبرية منذ إنشائها إلى اليوم؛ فإسرائيل ترى بذاتها أنها دولة محورية في المنطقة ومصالحها ومجالها الحيوي يتجاوز المنطقة وهو ما عبّر عنه "شارون" حين صرّح قائلًا: "المجال الحيوي لإسرائيل يمتد من أطراف روسيا شمالًا والصين شرقًا وإفريقيا الوسطى جنوبًا والمغرب العربي غربًا".
أما الرؤية الاقتصادية فقد عبر عنها "شمعون بيرس" في كتابه "شرق أوسط جديد"، وفي قلب هذه الرؤية تكون إسرائيل الدولة المهيمنة اقتصاديًا على المنطقة، وأن "إسرائيل" لا تسعى إلى "سلام الرايات" وإنما "سلام الأسواق"، ودعا لإنشاء سوق مشتركة وهيئات مركزية على غرار الاتحاد الأوروبي؛ غير أنه وفي عهد نتنياهو اكتسبت هذه الاستراتيجية أبعادًا مهمة وساهمت التحولات المتسارعة في المنطقة والعالم في ترجمة هذه الاستراتيجية وتحقيق انجازات ملموسة على أكثر من صعيد.
استلهم "نتنياهو" فكرة جابوتنسكي عن الجدار الحديدي ونظر إلى علاقة "إسرائيل" بالعالم العربي، على أنها علاقة صراع دائم وأن "السلام في الشرق الأوسط هو سلام الردع فقط"، فقد جاهر نتنياهو بهذا الموقف في كتابه "مكان بين الأمم" الذى صدر عام 1993، وشرح من خلاله بإسهاب فكرته عن السلام التي تقوم على القوة وحدها، وأن على العرب أن يوقعوا اتفاقيات ثنائية مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها، واصفًا المطالبة بدولة فلسطينية بأنه يتعارض مع السلام.
أما المفهوم الموازي لسلام الردع في صورته التجميلية كما طرحه نتنياهو "السلام مقابل السلام"، أو بصورته التضليلية "السلام الاقتصادي" وهو ما أعاد التأكيد عليه مرارًا في السنوات العشر الأخيرة من حكمه للدولة العبرية، وإصراره على أن القوة هي الشيء المهم في السياسة الخارجية لإسرائيل، ومن شأن القوة تغيير كل شيء في مواقف الدول العربية من "إسرائيل"، وقد تفاخر نتنياهو بصحة رؤيته بعد توقيع اتفاقيات التطبيع مع دولتي الإمارات والبحرين . كما ويجاهر نتنياهو بأهداف "إسرائيل" للهيمنة على المنطقة واستعمارها اقتصاديًا ونهب ثرواتها، وإبقائها دولًا ضعيفة تدور في الفلك الإسرائيلي.
ويطمح نتنياهو في تحويل "إسرائيل" إلى دولة في مصاف الدول العظمى؛ الأمر الذي يستدعي تعزيز قوتها العسكرية والاقتصادية والأمنية، وتطوير علاقاتها مع الدول العظمى كالولايات المتحدة وروسيا والصين والهند والاتحاد الأوروبي، من موقع الشريك الاستراتيجي في صناعة القرار الدولي، وتقاسم الأسواق والتعاون الأمني والعسكري، وهذه الاستراتيجية لا يمكن أن تتحقق، إلا بإضعاف الدول المركزية في المنطقة وتفتيتها إلى دويلات خاضعة للهيمنة الإسرائيلية؛ ويأتي مشروع التطبيع بين "إسرائيل" والدول العربية في قلب هذه الاستراتيجية، بحيث يجري تكبيل هذه الدول بمعاهدات واتفاقيات أمنية ودبلوماسية واقتصادية وتجارية، يصعب عليها التحرر أو الانفكاك منها مستقبلًا وإبقائها رهينة للقوة الإسرائيلية المهيمنة.
أما عن القضية الفلسطينية، فتسعى "إسرائيل" لتصفيتها وتحويل الضفة الغربية إلى كانتونات يحكمها أمراء مرتبطين بإسرائيل، وتحويل الفلسطينيين إلى عبيد يعملون في الورش والصناعات الإسرائيلية، مع مواصلة تضييق الخناق عليهم لإرغامهم على النزوح من بلادهم، ولا تستبعد إمكانية القيام بتطهير عرقي آخر على غرار ما حدث عام 1948، غير أن العقبة أمام هذه الاستراتيجية تتمثل في المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وصمود الشعب الفلسطيني ومواقف الشعوب العربية المعادية للمشروع الصـهيـوني، لهذا تسعى الدولة العبرية بكل ما أوتيت من قوة لحسم هذه العقبة وإزالتها عن طريق تحقيقها لأهدافها بعيدة المدى.
لقد كان القرن الإسرائيلي الأول يتمثل في خلق الدولة وتثبيت وجودها وتحطيم الدول العربية المركزية في المنطقة، أما القرن الثاني فيرتكز على أساس إعادة تجزئة العالم العربي والهيمنة على المنطقة وثرواتها وأسواقها، والاستيلاء على المزيد من الأراضي العربية؛ فالفكر الصـهيـوني كان ولا يزال مرتكزًا على معايير عدوانية وتوسعية، ومن التجربة فإنه لا يمكن عقد سلامٍ حقيقي مع الكيانات الاستعمارية الاستيطانية على غرار ما يسمى بإسرائيل.
المصدر: بوابة الهدف