يمر بالإنسانية من طبعت أسماءهم في ذاكرة العالم نتيجة أعمالهم المميزة على مستوى النظرية والتطبيق. فقد قدم "باولو فريري" الاشتراكي المسيحي فلسفة ثورية إلى رجال تعليم الكبار في العالم، حيث ارتبطت فلسفته ارتباطاً وثيقاً بالقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والذي بدوره عمل على تشريحه وتحليله. وقد اعتبر توظيف نظريته الراديكالية آنذاك سبباً لنفيه، باعتباره مثيراً "للوعي" المسبب بدوره للثورة والتمرد والتغيير.
وانطلق بتصوره من فكر يساري ماركسي، لكن البعد السياسي الموجه للتعليم كان ذا طابع إنساني ديني وليبرالي. فعلى المستوى النظري، سجل "باولو فريري" براءة اختراع بقوله "لا يوجد تعليم محايد فهو إما للقهر أو للتحرير" باعتباره من مؤسسي التربية النقدية، والمستفيد من الأفكار الراديكالية الثورية، المستقاة من الماركسية ليوظفها في تحسين التعليم.
لقد قدم "فريري" في الفصلين الأول والثاني من كتاب "نظرات في تربية المعذبين في الأرض" عدداً من المفاهيم النظرية، التي حاول تطبيقها في واقع التعليم، ومنها: التعليم الحواري، التعليم البنكي، حيث يجد فريري أن التعليم هو السبيل للثورة على القهر، والوصول إلى الحرية، بل هو يصل إلى كونه وسيلة لتمكين المقهورين.
كما تطرق إلى عدد من الأفكار والمصطلحات، مثل التحرر الذي هو نتاج الوعي، واعتبره ولادة مؤلمة لأنسنة الإنسان، بل لعله مهمة إنسانية عظمى وتاريخية للمضطهَدين، مع إدراكه لفكرة "الخوف من الحرية"، ولكن لا بد من خوض النضال لولادة الإنسان الجديد "ليس مضطهِداً ولا مضطهَداً"، بل إنساناً آدمياً كاملاً.
ثم الإشارة إلى "المهتدين" والتضامن الحقيقي من المضطهِدين مع المضطهَدين والقتال إلى جانبهم مع الإيمان بهم من أجل التغيير الثوري. والانتقال لما أسماه "العنف الأفقي" وهو توجيه الضربات إلى من هم من نفس الشريحة، ويفسره فريري أنه ربما مهاجمة للمضطهِد بطريق غير مباشر، وفسره أنه ربما تقليد للمضطهِد ونوع من الرجولة التي يراها فيه كمسيطر. والسؤال هو هل يمكن اعتبار الاقتتال الفلسطيني الفلسطيني نوعاً من "العنف الأفقي" الذي يرى فيه الآخر صورة للعدو؟ أم نوع من التقليد للمضطهِد.
وانتقل إلى فكرة الرغبة في مشاركة المضطهَدين للمضطهِدين طريقة الحياة، وتقليدهم والانبهار بهم. بل أبدى شعوره بالإعجاب بالمستعمر رغماً عنه. ويؤيده في ذلك الكثيرون، فبرغم كراهية الاحتلال وما يمارسه ضد الشعوب، إلا أننا نرى الانبهار والإعجاب به من قبل الكثيرين ورغماً عنهم أيضاً. ثم ذلك الإيمان السحري من المضطهَد بأن المستعمر هو قوة عظمى مسيطرة يتحكم بالعلماء والأثرياء والصحافة والدول الكبرى، كأنه أخطبوط له أذرع في كل مكان. ولعل الأداة الوحيدة الفعالة في إعادة إنسانية "أنسنة الإنسان" هي التربية التي تحدث من خلال الحوار، ليصل بعدها إلى توضيح أهمية التعليم "الحواري" الذي نقضيه التعليم "البنكي"، وأن "موظفي البنك" يعملون دون وعي منهم بخدمة مصالح المضطهدين وتجريد الطلبة من إنسانيتهم.
بدأ فريري في كتابه هذا من (العام إلى الخاص)، فقد تحدث عن المجتمعات والسلطة والمضطهِدين والمضطهَدين، وكل ما يحيط بالمتعلم والمعلم من ظروف وأفكار تؤثر عليه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ثم قولبة تلك الأفكار في صورة المعلم والمتعلم داخل المجتمع، وتأثير السياسة في التربية أو العكس، مؤكداً على قدرة الإنسان على خلق واقعه من منظور واعٍ لما يحيط به.
كما أنني مع استثمار الأفكار والمعلومات، وليس إيداعها رغم أن الإيداع هي الطريقة الأسهل والأضمن لوصول المعلومة كما يراها "موظف البنك"، ولكنني أرى أيضاً أن "فريري" ذهب بتفكيره إلى طريق باتجاه واحد بين النظرية والتطبيق. فالنظريات تبدو كاملة ومثالية، ولكنها إذا وضعت على محك التطبيق كثيراً ما تثبت عدم جدواها أو تظهر عيوبها، ومع اتفاقي الفكري مع فريري وإعجابي الشديد بأفكاره الراديكالية الثورية، إلا أن المحك يبرز إشكالية التطبيق.
وقد يتساءل القارئ، ماذا يفعل المعلم؟ هل يجلس مع الطلاب ويضعون أهدافاً عامة للمساق؟ ماذا نفعل بالمقررات الدراسية، المناهج؟ كل أولئك العلماء والتربويين الذين أمضوا حياتهم في وضع مناهج لم تعجب المعلمين أو الطلاب أو الأهل أو الجميع أو البعض، ماذا نفعل بها؟ هل تلغى؟ كيف نعرف أن المعلم والطالب على قدر من المسؤولية لإدارة حوار؟ من هو المؤهل ليدير الحوار؟ كل تلك الأسئلة وغيرها تتبادر إلى ذهني، وهل من الممكن أن نصل إلى هناك حيث يرى ذلك العبقري الثوري "فريري" ثم ذلك الاعتراض على "ثنائية" (المعلم-الطالب) التي تصل إلى حد الإصرار على إلغائها والاعتقاد بتبادل الأدوار، فالطالب معلم والمعلم طالب.
إن أكثر المصطلحات تكراراً في الفصل الثاني هو "التعليم البنكي" الذي اعتبره إيداع معلومات لا يتعدى فيه النشاط المسموح للطالب حدود التلقي والامتلاء والتخزين لما يتم إيداعه، كما أنه فهم خاطئ للناس على أنهم أشياء، بل هو تغييب للتفكير وطمسه وقتل للإبداع.
ولشدة ما جذبني هذا المصطلح، رغبت بإعادة تعريفه أو تجديده من وجهة نظري الخاصة، بل ومن خلال تجربتي العملية باعتبار "فريري" وضعه في السبعينيات من القرن الماضي ونحن الآن في القرن الحادي والعشرين والطالب يصل إلى الصف مع معلومات تفوق تلك التي لدى المعلم. كما أن فريري لم يرد على ذكر طالب في صفوف ابتدائية أولى بل تحدث عن فلاحين، مزارعين "متعلمين كبار"، وما يحملوه من خبرات، أفكار، معلومات تفوق مرات ومرات ما يعرفه وما يريد تقديمه المعلم.
وهنا نقول بأن الإيداع ليس في عقل فارغ، بل محلل ومفكر وربما ناقد إلى حد ما، ومجرب إلى حد كبير، وليس من معلم يمكنه الإنكار أن التعليم هو عملية تبادلية، فالمعلم شاء أم أبى يتعلم في كل مرة يقوم فيها بالتعليم. أما عن إيداع المعلومات، فهي تتفاوت من "موظف" إلى آخر ومن طالب إلى آخر.
وعلى فريري أن لا ينكر أن الإيداعات البنكية عليها نسبة ربح "قليلة ربما" إذا ما قورنت بالاستثمارات الكبيرة في الإنسان، إلا أن الاستثمارات تتأرجح فيها نسبة الربح، بين أرباح طائلة وخسارة قاتلة. هذا وأتفق مع "فريري" في فكرة الحوار الثنائي بين المعلم والطالب، وأن يكون المعلم ميسراً للعملية وليس مسيراً لها.