لم يخطر في بالي أن هناك علاقة بين نترات الأمونيوم التي فجّرتْ بيروت، والسراب الذي استولى على أعين مشايخ إمارات الخليج المتحدة في هذه اللحظة العربية المنقلبة.
كنت أعرف، كما يعرف الجميع، أن بيروت مرآة المشرق العربي، وأن هذه المرآة عكست طوال العقود الماضية حال بلاد العرب، فكانت حين تنكسر أو تتشظى تعكس جروح المنطقة والتباساتها وشروخها التي ارتسمت منذ الهزيمة الحزيرانية.
لكنني لم أتعرف على الأمونيوم إلا عندما انفجر بنا وهو ينشر الزجاج والدمار فوق أجسادنا الهشة ويحول بيوتنا إلى ركام. ورأيت كيف عكست المرآة البيروتية المحطّمة حطام الروح في المشرق العربي.
ومثلما عبّر انفجار بيروت عن لحظة فوق سياسية، فإن إعلان انهيار مدن السراب أمام إسرائيل عبّر عن لحظة تحت سياسية.
أخذنا انفجار بيروت إلى ما فوق السياسة عندما طرح علينا سؤال العلاقة بالموت، وهذا يعني أن أسئلة الحياة أكبر من مناورات السياسيين وخزعبلاتهم، وأن حياتنا يجب أن تخرج من دائرة المحاور الإقليمية والدولية، فبقاؤنا ليس للبيع أو المقايضة، وهذا ما لم يفهمه السياسيون ومحترفو النهب من زعماء المافيا اللبنانية، ولن يفهمه اللاعبون الإقليميون والدوليون وأتباعهم الصغار.
أما انهيار مدن السراب فهو تحت السياسة، لأن ما سمي اعترافاً وتطبيعاً بين دولة الإمارات وإسرائيل لا معنى لهما لأنهما حصلا من زمان، ولأن مشيخات النفط لم تكن في العير أو في النفير، كما نقول. دول أو دويلات لم تحارب إسرائيل يوماً، ولا علاقة لها بالموضوع، تأتي اليوم لتبيع دونالد ترامب وهم تطبيع اشتراه الرئيس الأمريكي في سياق البحث عن «إنجازات» انتخابية فارغة من المعنى.
في مرآة بيروت نرى عيوننا التي تنزف دماً وزجاجاً ورصاصاً مطاطياً، أما مرآة النفط فإنها لا تعكس سوى السراب.
نترات الأمونيوم التي فجرتها المافيا في وجوهنا نتيجة الإهمال والفساد والغباء واللامسؤولية والاستهتار بالناس، حجبت الرؤية عن أعين الأمراء، وأخذتهم إلى مراياهم المقعّرة والمشوهة، فاستطال القصير وتسيّد الخادم وتذاكى الغبي.
صدَّقوا مرآة مشوهة، مصنوعة من رمل السراب، فالسراب ليس سوى انكسار للضوء. انكسر ضوء العرب في بلاد الشام والعراقين، فركض مشايخ الصحراء إلى سراب حسبوه واحة، وقرروا أن يشربوا من مائه الذي لن يزيدهم إلا عطشاً، ولن يقودهم سوى للسجود أمام سيدهم الأمريكي وتابعه الصهيوني.
هذه اللحظة المنقلبة مرآة مشوهة، ملوك الطوائف يصدقون أنهم ملوك، وعصابات المافيا تتصرف كأنها دول، ومشايخ الصحراء يرفعون الباطون والحديد والزجاج، معتقدين أن أشجار الكاز والغاز ستعطي ثمراً.
يتمرأون بالسراب، هذه هي لعبتهم مذ كانوا مجرد محميات في قبضة القوى الأجنبية، ممالكهم وهمية وسلطتهم مبنية على الرمال وانتفاخهم سرابي.
أخطأ عبد الرحمن منيف حين أطلق صفة مدن الملح على تلك المدن، فالملح يحفظ الطعام من الفساد. فهذا الذي نراه أمامنا ليس ملحاً على الرغم من ملوحته، هذا سراب مخادع، فالعرب استنبطت للسراب مثلاً كي تصف مشهداً مشابهاً، فتقول «أخدع من سراب».
مدن سرابية مصنوعة من الرمل، ورمل يتمرى بالرمل، وسراب يلاحق سراباً، وفوق ذلك يريدوننا أن نشرب من ماء ليس ماء، ونصدق أن دولة الإمارات تنصر القضية الفلسطينية، مثلما قيل وقالوا، معتبرين أن الانبطاح العلني أنقذ فلسطين من الضم!
الصفاقة التي تتسرب من السراب ليست سوى خدعة. فالضم أُجّل لأسباب أمريكية وإسرائيلية داخلية، ولا علاقة لهؤلاء به، وهو لم يُسحب عن الطاولة، مثلما أوضح الإسرائيليون بالفم الملآن.
ما يجري هو لعبة مرايا مشوهة لا أكثر، ليس صحيحاً أن إعلان الزواج السري بين أمراء النفط والصهاينة هدفه حماية ممالك السراب من الخطر الإيراني. لو كان الأمر كذلك لدخلنا معهم في حوار عقلاني حول عبثية خيارهم هذا. لكن مرآتهم المضخمة زينت لهم أنهم يستطيعون قيادة العرب فذهبوا إلى مغامرات عسكرية في اليمن وليبيا، وهم يبدأون اليوم مغامرتهم في فلسطين معتقدين أنهم يستطيعون أن يصبحوا شركاء الإسرائيليين عبر سيطرتهم بواسطة عملائهم على فتات الدولة الفلسطينية.
يحسبون ورمهم شحماً، ينبطحون أمام الإسرائيلي وهم يعطون الشعب الفلسطيني دروساً في الوطنية، مثلما تردد أبواقهم.
قال الشاعر:
«أعيذها نظـــراتٍ منكَ صادقـــةً أن تحسب الشحم فيمن شحمُه ورمُ».
هذا الورم الذي قادهم إلى محاولة تمزيق اليمن وفصل جنوبه عن شماله واستعمار بعض مناطقه، يقودهم اليوم إلى اللعب بفلسطين من خلال اقتراحهم على الاحتلال أن يكونوا خدماً له لا يحصلون إلا على الفتات.
في الماضي، دعانا خليل حاوي إلى خلع الوجوه المستعارة، ثم أعلن محمود درويش سقوط القناع عن القناع، أما اليوم فنحن في حاجة إلى تكسير المرايا المحدودبة كي يرى السراب سرابه.
بيروت كسرت مرآتها لحظة انفجارها، فهي لا تريد أن تراكم بعد اليوم.
فقراء نحن، هنا وفي فلسطين، لكن لا للهوان، فالهوان لا وجود له في قاموسنا.
سرابكم وسراب أنظمة القمع والبطش التي تتمثلون بها لن نسمح له بأن يتسرب إلى حياتنا.
أما وهْم وقف الضم فبلّوه بالرمل واشربوا ماءه، وحلوا عنّا.
لقد فقدت أنظمة الرمل والمهانة لغتها، واليوم جاء دور مرايا سرابها، كي تتحطم.