السلام العادل والدولة، بحسب الطريقة التفاوضية عبارة عن فقاعة صابون شاردة، كلما هرولنا وراءها للظفرِ بها تُبادرنا بابتسامة ساخرة، ترمقنا إياها قبل أن تنفجر في وجوهنا، وعند كل انفجار تنفسُ رذاذاً لزجاً كريهَ الرائحة فيكون مُستقرَهُ في منتصفِ وجوهنا تماماً.
وما يُثير الحيرة في النفسِ أننا في كل مرة، تنفجر فيها احدى الفقاعات، نتوقف لمدح هذا الرذاذ الزلق، كي نتابع من جديد الهرولة نحو فقاعةٍ أخرى.
ومع توالي انفجار الفقاعات تتوالى تبعاً الضربات المدروسة والمركزة والموجهة مباشرةً، نحو قلب هويتنا الجمعية المتمثلة بحقوقنا كشعب، فتارةً تسفهها وتارةً تفرغهها من محتواها، لتصل أحياناً إلى حدِ المطالبة الوقحة بإلغاءها تماشياً مع متطلبات الواقع والسياسة.
وهنا لا بد من التساؤل، هل ضياع الحقوق وتلقي البصاق المستمر يحتاج الى التهندمِ بحلة رسمية مصنوعة من القماشِ الانجليزي، أو ربما انتعال حذاء إيطالي أو عطر باريسي فواح من أجل تزيين المسميات السيادية العرجاء؟
سؤال مشروع خصوصاً في تلك المرحلة، حيث أن طريقَ ضياع الحقوق آخذ بالانحدار، أكثر فأكثر والتسارع نحو الارتطام بالقاع يزداد جموحاً.
الجواب على هذا السؤال بسيط، فلو فرضنا أننا نوع من البشر الأشقياء، الذين يغوون السخرية والبصاق في وجوه خصومهم، فأي خصمٍ سنختار كي نمارس تلك الهواية؟
الخصم الذي يتأبط سيفاً؟ أم ذلك الذي يرنو إلينا بتعابير وجهه الساذجة ماداً يدهُ نحونا مشهراً غصن زيتون لا غير؟ لا شك أن الجواب واضح.
"إسرائيل" وإسبانيا تصدّران البرتقال، قبل عشرين عاماً ما كان من الممكن أن تكترث دول مثل الخليج، بشأن "اسرائيل"، ولم يكن هناك أي رغبة ملحة لهذه الدويلات، بأن تنسج علاقة مع هذا الكيان، لأنها ببساطة ليست بحاجة للبرتقال "الإسرائيلي"، طالما بوسعها استيراد البرتقال الإسباني.
لكن إسبانيا اليوم عاجزة عن انتاجِ التكنولوجيا الفائقة، التي بالمقابل تبرعُ "اسرائيل" بانتجاها وتطويرها.
بكلماتٍ أخرى إن المفاهيم التي كان من المتعارفِ عليها قبل عشرين عاماً، قد شوهتها العولمة، وبذلك أصبحت الخيانة لا تعني الا المنفعة.
لكن لنطرح هذه الفرضية، وهي أن منظمة "أيلول الأسود" ما زالت قائمة، هل تجرؤ هذه الدويلات بنسج علاقة مع "إسرائيل"؟ بدون أدنى شك أن الحياة أسمن بكثير من التكنولوجيا.
منذ تعديل ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، والتخلي عن حقنا في المقاومةِ بشتى السبل، والزج بنا في اتون المتاهة التفاوضية، أخذَ منحنى المساس بحقوقنا وهويتنا الوطنية يتعاظم، فأصبح من الواضح أن تحصيل حقوقنا بواسطة هذه الوسائل، ما هو ضربٌ من ضروبِ الوهم وانعدام الجدوى، وما هو الا سرابٌ يحسبَهُ الظمئان ماءً.
وسُحبَ البساط من تحت عبقرية المبادرة الفلسطينية، وأضحينا مجرد هدف يرمي باتجاهه الخصوم أفعالهم، ونحن في المقابل لا نقوى إلا على انتاج المزيد من ردود الأفعال، التي يتوقع الخصم حدوثها وأعد لها العدةَ مسبقاً.
لنتخيلَ طاولة اجتماعات يجلس حولها الفرقاء، هناك في الزاويةِ الباهتة الإضاءة، يجلس أحدهم وهو يراقبُ بصمتٍ عملية تهميشهُ من قبلِ الفرقاء الآخرين، التهميش لدرجةِ انكار وجوده حول الطاولة، ماذا عساه أن يفعل؟
منطقياً سوف يتساءل، هل يلتزمْ مقعدهُ بلا حراكٍ مستكفياً باستجداء الإنصاف والعدل، من قبلِ فرقاء لا تعنيهم مصلحته بل ينكرون وجوده اصلاً، أو أن ينهضَ عن مقعدهِ ويبدأَ بقلبِ الطاولة فوق رؤوسهم.
ربما سيردد بعض مدعي الواقعية، أنه لا مناصَ من الاستمرارِ بالهرولةِ وراء فقاعةٍ جديدةٍ ما، يرد عليه أحد الحالمين،الم تنلْ كفايتك من البصاق يا أخي؟!
منذ قرابة 30 عاماً، ونحن نتلقى الخيبةَ بعد الأخرى، وأصبحت الحقيقة واضحة لا مجالَ لمواراتها ، ولم يتبقى لنا إلا حكمة وشجاعة الفرصة الأخيرة.
إن المارشال" غروشي" كان يفتقد لحكمة وشجاعة اللحظة الاخيرة، ولذلك يومنا هذا يتردد صدى العناد على قبره من قبل مؤرخي التاريخ، فيحملونه وزرَ هزيمة
"واترلو"، وضياع نابليون ومن خلفه فرنسا، ومن وراءهما صيرورة التاريخ، الذي كان سوف يكون لولا تردد "غروشي" وسذاجته.
لنكفَ عن الردِ على الإهاناتِ بالكلمات، لنُري ذلك الشقيّ الذي يهوى البصاقَ في الوجوه، شيئاً من بريق نسول سيوفنا، إلا أن السيف الذي يحمله صاحب الحلة الرسمية، والحذاء الايطالي سيبدو مجرد لعبةً بلاستيكية بيده، ولن يرعبَ أحداً.
لذلك، إنها لحظة الحكمة والشجاعة، لا بدَ من اتخاذِ القرار الذي ظاهره يبدو خسارةً، الا أنَّ باطنهُ الربحَ كل الربح، إن أشد ما يخشاهُ ذلك الشقي هو الفوضى، فغبارُ الفوضى ولجتها تحجب الرؤيا، وتمنعه من توقعِ ردود الافعال، بل ستصبح هذه الردود أفعالاً تربك الخصم، وتصدع ثقته بحتميه النصر المؤسس على المبادرةِ بالأفعال، والاستعداد لردود الأفعال، وسوف لن نخسر شيئاً سوى المزيد من انفجارِ الفقاعات والكثير من المهانة.