غزة - خاص قُدس الإخبارية: عاش الفلسطينيون في قطاع غزة، منذ سنوات، سلسلة متصلة من الحروب والحملات العدوانية، التي شنها جيش الاحتلال عليهم، لهدف واحد يلخص كل الخطابات التي يقدمها قادة الاحتلال خلال كل عدوان، وهو "كسر إرادة المقاومة"، لدى المجتمع في القطاع، وهو ما يمكن تطبيقه على عدوان عام 2014.
ليست الحرب العمليات العسكرية في بعدها التقني العملي بالميدان، فقط، بل هي حكاية جراحات وآلام ساكنة في قلب كل من عاشها، وفي ذاكرة كل غزي تعرض للعدوان.
آلاف الصور والأمنيات، وربما تكون الحرب في بعدها الإنساني العام، مخلصاً هاماً لصراع الإنسان مع نفسه القلقة، ومع عدوه الآتي لقهره.
"كانت أياماً دامية"
عن البدايات التي سبقت الحرب، يقول المهندس سعد الوحيدي: "أذكر تصاعد الموقف الميداني، وبدء القصف المتبادل بين المقاومة وجيش الاحتلال، كانت تلك اللحظات معتادة، وفي إحدى ليالي رمضان، أذكر انني كنت اتابع مباراة الجزائر والمانيا في كأس العالم، وضجيج صوت المعلق وسماعات الصوت الكبيرة، يخفي أن غزة تتعرض لموجات قصف جوي عنيف".
ويتابع: "بعد انتهاء المباراة لم ينقطع رنين هواتفنا من أهلنا، يطالبوننا بالعودة إلى البيوت، خاصة أن الوقت قد تجاوز منتصف الليل، لم تكن المشاعر واضحة، كان هناك قلق من تدهور الأمور إلى حرب جديدة، لكن لم يكن أحد يتوقع في أشد كوابيسه حلكة أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه لاحقاً".
يؤكد سعد أن هذه الحرب "لم تشبه أياً من الحروب السابقة، سواء من ناحية المدة الزمنية التي قاربت الشهرين، وحجم التدمير والقصف الذي دمر أحياء كاملة، وأعداد الشهداء، أو من ناحية أداء المقاومة الميداني وعملياتها النوعية خلف الخطوط و القصف المتواصل".
وعن أكثر المشاهد التي تسكن ذاكرته من الحرب، يقول: "لمدة 52 يوماً، سجلت الذاكرة العديد من المواقف التي لا تنسى، وعلى كثرتها، أعتقد أن مشهد القصف على الحي السكني الذي أسكن فيه غرب غزة، والإطلاق المكثف لقنابل الإنارة التي حولت ليل المنطقة إلى نهار في مساء أول أيام عيد الفطر، كان مشهداً لا ينسى، ولحظات رعب وذهول لم يسبق أن عايشناها".
ويضيف: "المشهد الثاني الذي لا يزول إطلاقاً من ذاكرتي، ولم أشهد له مثيلاً من قبل، كان قصف وتدمير برج الظافر السكني الذي يبعد أمتاراً، معدودة عن منزلنا وكنت أنظر إليه من شرفة منزلنا، ولم أصدق عيناي وأنا شاهد انهيار البرج على جانبه الغربي".
ويتابع سعد: "الحرب تترك آثاراً بعيدة وعميقة، في النفس، أسكن اليوم عمارة سكنية، ومع كل جولة تصعيد أو مواجهة، أتذكر مشاهد تدمير الأبراج السكنية وأتخيل أن هذا ما قد يحدث في أي حرب بالمكان الذي نسكن فيه".
يرى الوحيدي أن المجتمع كان يقوي نفسه بالحرب من خلال "جلسات أهل الحي والعائلة، وحلقات الشباب وكبار السن، وأباريق الشاي وموائد الفطور والسحور المشتركة، وجو الألفة والتكاتف مع الأهل والجيران".
ويتابع: "يعمل الاحتلال على تدمير الأحياء وكي الوعي، وزرع مشاهد لا يمكن نسيانها، مثل تدمير الشجاعية وبيت حانون، وآلاف الأبرياء الذي هاموا على وجوههم تحت ظلام القصف والليل، كانت نكبة جديدة لا تنسى".
وعن اللحظات الأخيرة من هذه الحرب، يقول: "كانت لحظات لا يمكن تصديقها، قبل مغيب الشمس غزة كلها في الشوارع، التقيت مع العديد من الأصدقاء، الذين لم ألتقيهم منذ بدء الحرب، وحي الشجاعية هو أول وجهاتنا لمشاهدة حجم الدمار والمجزرة الدامية التي حدثت".
يلخص الوحيدي حرب 2014: "كانت أياماً دامية، ورغم الأداء المشرف والمذهل للمقاومة على الأرض، لم تكن النتائج السياسية بذات القدر".
الحرب: القيامة الصغرى
من جانبه قال الصحفي، ياسر عاشور: "قبل بدء العدوان كانت غزة متوترة أصلًا، والجميع ينتظر لحظة اشتعال الحرب، وكنت أعمل وقتها في قناة فلسطين اليوم، وكان مكتبها أعلى بُرج كبير وسط غزة، مما أتاح مشاهدة المدينة من جميع الجهات، ثم بدأت الصواريخ تتساقط على الأحياء".
ويتابع: "انشغل تفكيري لحظتها بأمرين، الأول كيفية العودة إلى المنزل في مخيم جباليا إذا اضطر الأمر، وتذكرت لحظتها كيف استغرق الأمر خمس ساعات من والدي، عندما عاد إلينا من مدينة غزة حيث عمله إلى البيت، في اليوم الأول لعدوان عام 2008".
وأضاف: الأمر الاخر هو تجهيز المبررات لإقناع أسرتي، للبقاء خارج البيت (في العمل) خلال فترة الحرب، وهو ما كنت متيقناً أنهم لن يوافقوا عليه".
وقال عاشور: "أما مشاعري كانت كما كل تصعيد أو عدوان، أن أجهز نفسي للحظة الفقد المُحتمل".
وحول تجاربه مع مختلف الحروب التي عاشتها غزة، يقول عاشور: "قد تختلف الحروب عن بعضها في الظروف واليوميات والنتائج، لكن الثابت في كل حرب أن هناك موتاً ودماراً وخسارة نفسية ومعنوية ومادية".
ويتابع: "لكن سأذكر بعض الأحاديث التي يتداولها أهل غزة عن حروبهم الثلاثة: الحرب الأولى في 2088 كانت مجزرة حيث مُتنا دون أن نقتل منهم، وكنّا نحن الأضعاف، والثانية في 2012، سمّوها لاحقًا بالتصعيد، مقارنة بـ 2014، حيث كانت أيامها معدودة، ونتائجها مؤلمة لنا وقوية لصالحنا كذلك، خسرت غزة الكثير من شبابها وقادة المقاومة، ولكنها قصفت تل أبيب وهذا يكفيها".
وأضاف: حرب 2014 هي الأبقى في الذاكرة، حيث لا يوجد عائلة في غزة لم تخسر شيئاً أو لم تنل "إسرائيل" منها بطريقة ما، في المقابل لا يوجد شخص في غزة حتى أولئك الذين لا تعجبهم المقاومة قبل الحرب أو حتى بعدها، لم يشعر -ربما لتأثير اللحظة- بأنهم مع المقاومة وأن هذا هو خيارهم الوحيد".
وعن أصعب ما في الحرب، يقول ياسر: كان أصعب ما فيها هو تعداد الأيام، في اليوم الأول، والعاشر والعشرين، والثلاثين، والأربعين، لم يكن يتوقع أحد أن تتم الحرب أيامها الخمسين، كان الحديث أنها ستنتهي نهاية الشهر لكن ذلك لم يحدث، ثم قالوا ستنتهي بعد كأس العالم، لكنه كذلك انتهى ولم نشاهد المباراة، كان الجميع مشغولاً بمباراة الدم، قالوا بعد رمضان ولكنه جاء وانتهى وفقد الجميع الأمل بعد أن قالوا أنها ستنتهي قبل عيد الفطر.. لكنه كذلك انتهى والحرب بقيت مستمرة".
وأكثر المشاهد العالقة في ذاكرته من الحرب، يروي عاشور: "هناك مشهدان، واحد شخصي وآخر عام، أما الشخصي فهو ليلة أن اتصلت بي والدتي، منتصف الليل، خلال دوامي، في مستشفى دار الشفاء للعمل ضمن طاقم فضائية فلسطين اليوم، قالت إنها مع والدي عند باب المستشفى وطلبت مني القدوم لرؤيتها، كانت المسافة بين مكان جلوسي وباب المستشفى أقل من دقيقة فكرت خلالها بكل السيناريوهات الممكنة، عن سبب وجود أمي وأبي على باب المستشفى! هما بخير لكن لمن جاءا؟ من أصيب أو قُتل من إخوتي؟.
ويتابع: عند الباب وجدتهما مُتعبين من التسلل، بين المنازل طوال الطريق من البيت إلى المستشفى، دون خوف من أن تقصفهم الطائرات، إذا اعتبرتهم مقاومة أو أن تطلق المقاومة عليهم النار، اذا اشتبهوا بأمر رجل وامرأة خارج المنزل، منتصف الليل في ليلة حرب يُمنع فيها التجوال بعد صلاة العصر!
ويضيف: كان سبب مجيئهما غريبًا لي مُبررًا لهما، أن أمي أصرت على أبي الخروج لتطمئن أني بخير بعد حوالي شهر من وجودي خارج البيت، قالت له وقتها أنها غير مقتنعة أن صوتي على الهاتف كل يوم يوحي بأني بخير، احتضنتها وظلّت لنا صورة عالقة للأبد.
ويقول: أما المشهد العام، كان ليلة 20 يوليو/ تموز، ليلة مجزرة حي الشجاعية التي كنت وقتها في استراحة من دوام العمل مع فريق المستشفى، وأبيت في مقر الفضائية في البرج العالي الذي ذكرته، كان مشهد قصف الشجاعية أشبه بيوم القيامة، لو قامت القيامة في الليل، لا في النهار كما نتخيلها.
ويتابع: مشهد نزوح أهل الشجاعية من شرق المدينة إلى غربها "مستشفى الشفاء"، لو صوره حاتم علي لكان أفضل من مشهد التغريبة الفلسطينية الذي شاهدناه في المسلسل.
"تترك الحرب الدموع"، يقول ياسر، "الدموع التي لم تجف حتى بعد ست سنوات وبدأت بالتساقط، وأنا أجيب عن هذه الأسئلة التي تكشف عن حُفرٍ في القلب.
"انعكست هذه الحرب علينا أنها تركت ذاكرتك مربوطة بكل حدث لاحق، حتى لو عشت بإسطنبول تبقى حياتك مرتبطة بلحظة الحرب، لو أن أحداً أغلق باب الغرفة بصوت عال تبقى تعتقد أن صاروخاً سقط في المكان"، يضيف عاشور.
يرى ياسر أن الاحتلال "لا يستطيع أن يفعل شيئاً، في نفسية الناس، خلال الحرب، لأنهم يصدقون المقاومة، لكن النفسية تُحطم بعد الحرب، مثلا عندما سافرت لأدرس خارج فلسطين، كان ذلك بعد شهرين فقط من الحرب، كنت أفكر أن المطار والميناء سيعملان قريباً في غزة، وكنت أحلم أن أعود لفلسطين من قبرص.. لكن هيّك شايف وين إحنا الآن، صارت ست سنين، وهذا بيخليني أقول بديش حرب".
يصف ياسر اللحظات الأخيرة من الحرب: في الحروب السابقة كانت لحظة فرح وخروج للشارع على الصعيد الشخصي، لكن في الحرب الأخيرة كنت سعيدًا لأنه أصبح بإمكاني أن أحلق شعري، وأعود للبيت كي أنام، وبعد هذه اللحظة لن نخسر أحداً اخر".
وعن أمنياته خلال الحرب: "كنت أتمنى إكمال العمل على توثيق قصص شاهدتها، خلال 50 يوماً، في مستشفى الشفاء، ولم تكن ظروف العدوان تسمح بتغطيتها، وبدأت بالفعل بالعمل عليها مع القناة، لكن للأسف جاء موعد السفر لإكمال الدراسة الجامعية، وبقيت تسكن الذاكرة".
ويرى أن ما يقوي الناس خلال الحرب هو "الكذب على النفس، وعلى من حولها، بأن كل شيء تمام".
ويتابع: ما كان يقوي المجتمع بالإضافة لكذب الجميع على بعضهم، هو انتصارات المقاومة خاصة في الأيام الأولى، والأغاني الحماسية على الإذاعات، لك أن تتخيل أنه لو لم تبث الإذاعات المحلية أغاني المقاومة الحماسية (هنا أعددنا لكم، ستهزمون، يا مقاومة اشتدي، اضرب تل أبيب.. الخ)، بعد كل مجزرة ارتكبتها "إسرائيل"، ربما لاستسلم البعض في الأيام الأولى".
"ما كان يهون على النّاس أن الجميع على نفس الحال، ولا يوجد أحد وضعه أفضل من الآخر"، يضيف ياسر.
وحول كيف يلخص هذه الحرب في كلمات، يقول: "الثمن الباهظ الذي دفعناه وحدنا لنحب فلسطيننا كما لم نحبها من قبل، بالأدق لنحب غزة كما لم نحبها من قبل".
الحرب: "السكرة" وبيوت العزاء الممتدة
عن اللحظات التي سبقت الحرب، يقول الباحث مأمون أبو جراد، إن الناس طوّرت مؤشراتها الخاصة والبسيطة، التي تميز من خلالها الحرب عن التصعيد، خاصة أن حرب 2014 كغيرها، سبقها تصعيد عسكري، ضمن هذه المؤشرات طبيعة القصف وشدته، وتصرف الناس وردة فعلها تجاه.
ويضيف: على الصعيد الشخصي كإنسان يعيش في بلدة زراعية، تتعرض عادة لقصف عنيف أو اجتياح بري، في أجواء معينة بتتميز فيها الحرب، مثلاً مسألة عدم التجول ليلاً، وعدم الاقتراب من الأراضي الزراعية، ونزوح أفراد العائلة الذين يسكنون في المناطق الحدودية أو المناطق الزراعية باتجاه المناطق الأكثر امنناً.
وأضاف: اللحظة الاولى التي أدركت أننا أمام حرب، عندما استيقظت في الأيام الأولى، قبل إعلان العملية العسكرية، على صوت قصف عنيف ومتتالي لمجموعة من الأراضي الزراعية المحاذية لحارتنا، كان رد فعلي الأول أنني صعدت مباشرة إلى سطح المنزل.
ويروي: عندما رأيت أعمدة الدخان الناتجة، عن القصف والشظايا التي بدأت تتساقط على المنزل، أدركت أننا أمام حرب ، حينها كان إبن عمي واقفاً على سطح منزلهم، وقال بكل عفوية: "هاد قصف حرب شكله".
وأضاف: تأكد هذا الشعور وقت المغرب، عندما انعدمت الحركة في الحارة، في حربي 2008 و2012 كانت الناس عندما تغيب الشمس، تذهب إلى بيوتها وتنعدم الحركة بشكل كامل، في ذلك الوقت عندما خرجت إلى الحارة ولم أرى أحداً فيها، وسمعت أخي ينادي: "اقعد في الدار"، ترسخ الشعور عندي أننا أمام حرب وليس تصعيداً مؤقتاً.
أما عن المشاعر، فيقول: "في البداية كانت مختلطة بشكل كبير، توتر وقلق، لكن ما أنا متأكد منه في الأيام الاولى أن المعنويات العامة كانت مرتفعة كثيراً، كانت عملية زكيم وإطلاق الصواريخ بشكل كثيف، المقاومة في ذلك عملت استعراضاً قوي لقدراتها".
ويضيف: "من ضمن الأمور الشخصية التي أذكرها، لحظة خروج رشقة من صواريخ المقاومة من أراضٍ قريبة من الحارة، كانت الكهرباء مقطوعة، وفي لحظة كانت السماء قد اشتعلت نتيجة إطلاق الصواريخ، حينها خرج الكل يكبر فرحاً".
"الأيام الأولى كانت فعلاً معنويات الناس، في قمتها، خاصة أن عدد الشهداء والجرحى لم يكن مرتفعاً بعد"، يضيف مأمون.
وحول التجارب المختلفة التي عاشها في الحروب، يقول: "الحروب واحدة، لا شيء مختلفاً بينها، المخاوف والهواجس ذاتها، في لحظة الحرب ليست هناك رفاهية شعور المقارنة بما سبقها، هذا الشعور يأتي لاحقاً".
ويضيف: "على الصعيد الشخصي حرب 2008، ربما كانت بالنسبة لي كانت الأصعب، لسبب بسيط أنها الأولى، قبل ذلك كان نمط عمليات الاحتلال قائم على الاجتياحات المحدودة، في تلك الحرب كان قطاع غزة لأول مرة كله تحت النار، وللمرة الأولى تهجر مناطق كبيرة إلى مراكز الإيواء".
وعن أكثر المشاهد التي لا زال يتذكرها من الحرب، يروي: "مشهد استشهاد جارنا، كان يمشي مع زوجته وطفله الصغير، ظهر يوم مشمس وحار، وفي لحظة قصفت حارتنا، أغلقت عيوني لحظة، وبعد أن فتحتها رأيت 3 جثث، كنا حوالي 20 شخصاً في الشارع الممتد على طول 400 متر، وللحظة لم نعد قادرين على الحركة، نسير ونحن ننظر في بعضنا ونسأل: "شو الي صار وشو العمل"، ثم بدأ ابن عمي بالتكبير وكأنه صفارة انطلاق، وبدأ الكل يجري باتجاه الشهداء".
وحول ما تتركه الحرب في الإنسان، يقول: "خلال الحرب كل تفكيرك يتجه نحو النجاة وكيفية تدبير احتياجاتك، هذا هو الشعور الذي يسيطر عليك، وبعد الحرب يولد داخلك خليط من المشاعر، لكن الحزن هو الأساسي منها، على من فقدت، وعلى الواقع الذي تعيش".
"أثر الحرب كبير جداً، لكن صعوبة قياسه تأتي من أنه يترك أثره على كل المجتمع، فيصبح من الصعب قياسه لأن الكل يعيش نفس شعورك، لكن الأثر الأهم ربما لهذا العدوان هو ما رأيناه على الأطفال"، يتابع.
"أهم سلاح يملكه المجتمع في الحرب هو التكاتف بين أفراده"، يضيف، "هناك كثير من الظواهر التي حدثت خلال العدوان، من خلال إيواء الناس ومشاركتهم في البيوت وغيرها".
ويتابع: على المستوى الفردي، التكتيك الأهم الذي يستخدمه الإنسان لتقوية نفسه، خلال الحرب، هو التجاهل من خلال الجلسات العائلة والحديث مع الأصدقاء، وليس غريباً أن هناك من تعلم "الشدة" وغيرها، أثناء العدوان، وما دون ذلك سوف يصبح الأمر صعباً.
ويرى أن الاحتلال يعمل على تحطيم نفسيات المجتمع الفلسطيني، من خلال "تعظيم الخسائر وتعميقها في نفوس المجتمع، ودائماً ما يلعب على وتر الجدوى، من خلال استعراض كبير للقوة وأهم مظاهرها الكثافة النارية، وفي كثير من الأحيان يكون هدف الاحتلال من القصف هو التدمير والاستعراض".
ويروي أن "الأمر الوحيد الذي يتذكره بعد إعلان التهدئة، تفاعل الناس، كان الكل يهنئ الكل، ويهنئون بعضهم بالسلامة، وكأننا كنا في حدث طويل وخرجنا منه".
"الحرب كانت شيئاً شبيهاً بالسكرة، التي تغيب العقل والنظر عن التفكير في حاجات كثيرة، بعد أن أعلنت التهدئة بدأت الناس في فتح بيوت العزاء، أصبح واضحاً كم كانت الحرب قاسية وصعب، على غرار المقابر الجماعية فتحت بيوت عزاء جماعية"، يقول "مأمون".
ويضيف: "تقريباً لا يوجد في حارة لم يكن فيها بيت للعزاء، والأكثر صعوبة كان عندما توجه الناس إلى المناطق التي تعرضت للاجتياح البري، كمية الدمار والخراب لا توصف، الناس احتاجت لمدة من الزمن حتى تدرك ما الذي حصل".
وفي رسالة لصديقه الذي استشهد في الحرب: "إلى سلام، كنت كريماً على أصدقائك حتى في استشهادك، نلت ما تمنيت، وذهبت إلى ما تاقت إليه نفسك، لقاء المولى عز وجل مقبلاً غير مدبر".
الحرب التي فرقت الأحباء
يعود إبراهيم الحاج بذاكرته، إلى اللحظات الأولى للحرب ويقول: أتذكر في البداية صبيحة يوم 8 تموز، على صوت مكبرات مسجد الشهيد عز الدين القسام، وإعلانها استشهاد الشاب رشاد ياسين، إبن حارتي، وهو من أوائل شهداء العدوان".
ويضيف: القضية لم تكمن في مشاعري، فإن امتلكت مشاعر حزن وأسى، تجاه فقدان الشاب، فالأمر مستمر ومضاعف تجاه أهله وشقيقه التوأم، الذي نام إلى جانبه في القبر، أثناء تشييعه، هذا المشهد لا يمكن نسيانه ولا يمكن فهمه على شدة وضوحه.
"في كل حرب من الحروب التي فرضت على غزة، كنت في مرحلة عمرية مختلفة، في معركة الفرقان كنت طفلاً في الأولى منها، كنت فيها في المدرسة، وهربت مع الطلبة، مع شعور مؤلم ومخيف تملكني حتى آخر أيام الحرب"، يقول إبراهيم.
ويضيف: "في معركة 2012 كنت طالباً في الإعدادية، وأرى للحرب بطريقة مختلفة كلياً، أذكر نفسي جيداً كيف تابعتها خبراً بخبر، وفور إعلان وقف إطلاق النار، كنت من أوائل المشاركين، مع الناس في احتفالاتهم".
"أما حرب 2014 كانت فارقة من حيث حجم الحدث"، يضيف إبراهيم، "فلقد وصلت إلى 51 يوماً، وحاجات الناس كانت تنقص، أذكر في منطقتي مثلاً كان كل من يقترب من مناطق آبار البلدية، يتعرض للاستهداف وبالتالي انقطعت المياه عن المنطقة وقضينا جزء لا بأس فيه من أيام الحرب نملأ خزانات المياه بالخراطيم".
ويتابع: "أكثر المشاهد الساكنة في ذاكرتي من الحرب، استهداف منزل جيراننا، كنا في المنزل نحن وأسر شقيقاتي، ولم نستطع ترك المنزل، بعد قصف منزل جيراننا الملاصق لنا، وأذكر أن نيران القصف دخلت إلى المكان الذي اختبأنا فيه، مشهد مرعب لن أنساه".
وحول ماذا تتركه الحرب في قلب الإنسان، يقول إبراهيم: "الخوف إلى جانب تمزقات في الذاكرة والمشاعر، وهذا كله له انعكاساته فما زلت حتى اليوم أتعامل مع الحروب، كمؤشرات على خطي الزمني، تحدد الأحداث من قبلها وبعدها، تحدد طبيعة علاقتك بالأماكن من حولك، هنا مكان الشهيد الفلاني، هناك كان منزل تلك العائلة".
"الحرب سترسم معالم الذاكرة والأشياء من حولك، وهذا أمر سيء ويحمل في طياته الكثير ويطول الحديث عنه"، كما يؤكد إبراهيم.
ويلخص الحرب، بقوله: "صمودنا طوال 51 يوماً هو الانتصار الحقيقي وهذه قناعة لازلت متمسكاً بها".
وعن ما يقوي المجتمع خلال الحرب، يقول إبراهيم: "تكاتف الناس، مناطق كاملة من القطاع هُجرت ولم يبخل أحد عن استقبال عائلات أخرى في منزله، يأكلون من ذات الطعام، لم يترك الناس بعضهم في هذه الحرب، مناعتهم النفسية كانت تتشكل من مؤازرتهم لبعضهم".
"الحرب لا يُعتاد عليها"
"البداية الفعلية للحرب كنا نراها في عيون الناس، تطورات الأحداث في الضفة المحتلة، والقصف الاسرائيلي على نفق شرق رفح، والتصعيد الإعلامي، كلها أعطت مؤشرات أننا مقبلون على تصعيد كبير"، بهذه الكلمات وصف "إسلام" البداية.
ويضيف: حقيقة توقعنا أن تستمر الحرب لأيام قليلة، لكنها كانت أطول مما اعتقدنا وأكثر عنفاً، متابعًا: "دائماً الحرب مختلفة، لا يعتاد الإنسان على الحرب، ربما يعرف مآلاتها وتكلفتها، لكنه يصدم عندما يراها كأن لم يتوقعها يوماً، كالموت مثلاً نراه بين الناس كل يوم لكن لم نعتده ونصدم إذا حل بيننا وخطف أحبابنا".
"الحرب لا يُعتاد عليها، ربما استطعنا بعد سنوات تمييز نوع القذائف حسب أصواتها، لكننا أبداً لم نعتد عليها، نعم كانت هذه الحرب مختلفة وكل حرب ستكون كذلك"، كما يؤكد.
"تعرضت غزة لنوعين من القصف المدفعي، قصف مركز على أهداف محددة ومقصودة لغاية عملياتية وقصف عشوائي على أحياء سكنية لتدفيع الناس ثمن المقاومة وبث الرعب في قلوبهم"، يروي إسلام، "في اليوم الثالث أو الرابع من الحرب، تعرضت منطقتنا لقصف عشوائي على المنازل والشوارع، خرج الناس إلى الشوارع يركضون باتجاهات متعاكسة، لا أستطيع أن أنسى صرخات الأطفال والنساء يومها والعجز الكامل في عيون الرجال".
ويرى أن المجتمع يقوي نفسه في مواجهة الحرب من خلال "التغافل"، ويضيف: عشرات القطع الحربية براً وبحراً، وأسراب من الطائرات المقاتلة فوق الرؤوس، والناس في غزة يتسامرون بالموضوعات الحياتية، هكذا فقط يحمون أنفسهم وهكذا تمضي الحرب، وكان أكثر ما كان يقوينا خلال الحرب: أخبار قتل الجنود.
ويقول: يعمل الاحتلال على تحطيم نفسية المجتمع الفلسطيني من خلال: تكثيف القصف المدفعي والصاروخي على المناطق الحدودية لترحيل سكانها وبث الرعب في قلوب من يستقبلهم، والاتصالات العشوائية المتكررة على الناس وتهديدهم بالقصف، ومطالبتهم بإخلاء بيوتهم خلال دقائق وفي منتصف الليل، ما يخلق أزمة ورعب وترقب لدى المنطقة بأكملها.
ويتابع: لا يترك الاحتلال أي مربع سكني في القطاع إلا ويشركه في الحرب وأجوائها، لم يترك العدو أي منطقة دون قذيفة أو صاروخ، ويتعمد الاحتلال أحياناً التحليق بالطائرات الحربية على ارتفاعات منخفضة.