في مخيم الأمعري في محافظة رام الله والبيرة، كان هناك بيتاً يتكئ على بيت الجيران ليسند نفسه من السقوط، عَمّرته جّدتي لأمي ليكون صلباً يسند نفسه بنفسه، فيه غُرف متعدّدة، إحداها كان غريباً، فهي ليست بغرفة، وإنما مكان لتخزين الكراكيب، تقع فتحته التي لا تتجاوز متراً بالعرض ومثلها بالطول فوق باب الحمام.. إنها "السّدة"، هكذا كانت تُسميها جدّتي.
كانت جدّتي تعلم أن قلبي من ورق الياسمين، ومع هذا؛ كانت تحملني على أكتافها وتطلب مني الصعود إلى السّدة المعتمة التي لا تهوية بها، وعلى الرغم من قِصر قامتي إلا أنني لم أكن أتمكن من رفع رأسي داخل السّدة، وكنت أكتفي بالزحف على أربع لإحضار كراكيب جدّتي وتنظيف السّدة، والثانية كانت المهمة الأصعب.
فهناك كنت أجد "البُزيئة"، هكذا كنت أسميها أنا الطفلة ذات اللكنة المدنية، نعم إنها البزّاق أو الحلزونات، كانت لحظات يزيد فيها منسوب الأدرينالين في جسدي ويرتفع معدّل ضربات قلبي، لكن سرعان ما يُفرز الكورتيزول ويسمح لي بالتركيز على الوضع العصيب الذي أمر به.
"ستي،، ما اطّلي علي يا ستي"..
"اه اه ستي هيني"..
أُجيبها وشفتاي ترتجف.. جاء الملح.. نعم نعم، إنه ملح الطعام.. لكنه الآن معي في السّدة لأداء وظيفة أخرى غير تعديل نكهة الطعام، سأستخدمه لقتل البزيئة.. لا ليس قتلاً عادياً.. إنها جريمة إعدام.. نرُش الملح على الحلزونات بطيئة الحركة كبيرة البطن ذوات القرنين الأماميين، فتبدأ بالذوبان.. لم أكن أحتمل استمرار النظر إليها وهي تذوب، فأنا مُجرمة ذات ضمير..
مرّت سنوات على ارتكابي هذه الجرائم بحق هذا الحيوان، لم تعُد جدّتي تطلب مني قتلها، فقد كبُرت وترقى منصبي لأعمالٍ أخرى وتولّى إخوتي وأبناء خالتي المهمة.. وتسارعت الأيام لأن غادرت جدّتي المنزل وأُعلن العفو العام عن الحلزونات، إلى أن توفّت جدّتي رحمها الله دون أن أُعلمها أنني وجدت الفرصة للتصالح مع الحلزونات..
فقد التقينا مجدداً في سجن الدامون الواقع في قلب جبال دالية الكرمل في مدينة حيفا، دفعني الفراغ في السّجن لأتصالح مع الحيوان والجماد، كانت تسير الحلزونات ببطئ على الأرض، تاركة خلفها أثرها من اللاصق الأبيض المائل للشفاف، كنت أتبع أثرها إلى أن أجدها، أتأملها من بعيد تارةً وتارةً من قريب، أفكر بما يحدث، فهل أصبحت ممن ينطبق عليهم المثل: "على الباغي تدور الدوائر"؟!.
وأنتقل للتفكير بخياراتي، هل أعتذر للبزيئة !؟ هل أرشها الملح من جديد !؟ هل أتركها في حال سبيلها !؟.. إلى أن انتهى بي المطاف أُطعمها الأرز حبّة حبّة، أراقب كيف تشفط حبة الأرز المطبوخ بفمها، وأرى الحبة تدخل جسمها وتتسبب له بالانتفاخ.. كان من المضحك جداً رؤية ذلك، فنحن نأكل صحناً من الأرز ولا ينتفخ جسدنا، سبحان من خلقنا وخلق كل الكائنات..
الاعتراف الأخير، لم يكن إطعامها طيبة من قلبي، أنا فقط كنت أُشغل وقتي الطويل الذي لا ينتهي داخل السجن، لكني ما زلت أخاف الحلزونات.. وها أنا أعترف.
الأسيرة المحررة نجوان عودة