"حرب لبنان الأولى هي النموذج الإسرائيلي عن حرب فيتنام فعندما تخرج إلى حرب وأنت تروي قصة وبالأخص أنك تروي قصة بسيطة وأنت في موقع الصادق والقوي لكن يتضح أنك غير محق وغير قوي، والسؤال لم يعد هل من الجيد أن نبقى في لبنان أم لا، إنما كيف أخرج من لبنان دون أن أدفع ثمناً على عملية الخروج".*
طوال احتلالها لجنوب لبنان وجدت دولة الاحتلال نفسها أسيرة معادلة لم تملك المبادرة فيها، وقادتها المقاومة المنظمة والجادة من جهة والمعادلة المعقدة التي لم تحسن قراءتها منذ البداية نحو هزيمة تشبه من ناحية الآثار السياسية والنفسية والميدانية تلك التي حلت بالجيش الأمريكي في "فيتنام".
اجتاح جيش الاحتلال لبنان في 1982 بهدف إخراج قوات منظمة التحرير الفلسطينية، وأجبر على الانسحاب منه من أعداء أكثر شراسة وتنظيماً في القتال.
استلم "أرئيل شارون" وزارة الحرب في حكومة بيغن وحمل معه إلى الحكومة مخططاً استراتيجياً، لإخراج منظمة التحرير من لبنان، وإجبار القوات السورية على الانسحاب، وتحويل الأردن لدولة للفلسطينيين بعد طرد اللاجئين من مخيمات لبنان.
فشل استخباراتي: لبنان الذي لا نعرفه
يُقر عدد من ضباط جيش ومخابرات الاحتلال الذين عملوا في لبنان، أن "إسرائيل" افتقدت لمعلومات استخباراتية ودقيقة عن الواقع اللبناني واصطدمت فيما بعد بالمقاومة العنيفة من مختلف القوى اللبنانية.
وعلى عكس الأراضي الفلسطينية المحتلة، التي كونت فيها مخابرات الاحتلال بنك أهداف ومعلومات كبيرين، كان ضباط الاحتلال الذين اتخذوا من مواقع في المدن اللبنانية مقرات لعملهم، ضائعين في واقع لا يعرفون عنه إلا القليل.
قبل الاجتياح كانت مخابرات الاحتلال تعمل في لبنان بالتعاون مع حلفائها من حزب "الكتائب" وغيرها، إلا أنها لم توفق بإعطاء تصور دقيق عن الواقع اللبناني المعقد والمتقلب سياسياً.
خلال الحرب اليومية التي خاضتها المقاومة طوال سنوات الاحتلال، كانت تملك أفضلية استخباراتية على جيش العدو، وتمكنت من خلال مصادر متعددة بينها تجنيد ضباط في جيش لحد من معرفة تحركات قوات الاحتلال واستهداف مواكب قادته، مثل عملية استهداف قائد المنطقة الشمالية "عميرام ليفين"، واغتيال قائد فرقة لبنان "إيرز غيرشتاين".
واجه جيش الاحتلال مقاومة من مختلف القوى اللبنانية "الشيوعيون، حزب الله، الجماعة الإسلامية، الحزب القومي السوري الاجتماعي، وحركة أمل" وغيرها، ورغم كل الحملات التي شنها على القرى والبلدات في الجنوب لإخماد العمليات التي تعرضت لها قواتها، مثل حملة "القبضة الحديدية" التي أطلقها وزير جيش الاحتلال في وقتها إسحاق رابين، إلا أن المقاومة بقيت بوتيرة مرتفعة في غالب الأحيان، وخسر الاحتلال عشرات الجنود في كمائن وعمليات تفجيرية، أضخمها العملية التي نفذها الشهيد أحمد قصير في مقر الحاكم العسكري بصور وأدت لمقتل أكثر من 80 ضابطاً وجندياً.
غياب دولة قوية ومسيطرة على الواقع اللبناني ربما من العوامل التي أعطت للمقاومة مساحة من العمل، رغم أن أطرافاً بداخلها حاولت في مراحل معينة الدفع باتجاه الصدام مع المقاومة ومنعها من العمل في الجنوب، كما أن انتشار السلاح والتدريبات التي تلقتها أطراف لبنانية عديدة خلال وجود منظمة التحرير الفلسطينية، ساعد نواة المقاومة الأولى التي انطلقت لمواجهة الاحتلال.
لعب عدد من المشايخ والشخصيات الاجتماعية دوراً رائداً في مواجهة الاحتلال، مثل الشيخين محرم العارفي وراغب حرب الذي اغتاله عملاء الاحتلال، بعد دوره الكبير في التحذير من التطبيع مع الاحتلال أو الانخراط في "الحرس الوطني" الذي شكله جيش الاحتلال بمساعدة عملائه، ثم لانخراطه المباشر في المقاومة وتقديم مساعدات لها.
حرب العصابات
بعد الانسحاب الأول لجيش الاحتلال في 1985 إلى المنطقة الأمنية التي أقامها بالجنوب، تشكلت مرحلة جديدة من الحرب التي خاضتها المقاومة.
اشتغل جيش الاحتلال على استراتيجية تضع جيش لحد كأكياس رمل في مواجهة المقاومة بحيث يخفض من الخسائر في قواته. لكن الضربات المتلاحقة التي تعرض لها جيش العملاء لم يقوى على مواجهتها وأجبر جيش الاحتلال على الدخول في مواجهات مباشرة مع المقاومين وتكبد خسائر بين جنوده.
وشكلت العبوات الفتاكة التي احترفت المقاومة زراعتها في الطرق والمفارق بالمنطقة المحتلة، معضلة أساسية أمام جيش الاحتلال والعملاء خلال تنقلاتهم، وكانت المقاطع المصورة التي نشرت لبعض هذه العمليات مركبا أساسياً في الحرب النفسية ضد معنويات الإسرائيليين.
تورط جيش الاحتلال بصيغة عمل عسكري دفاعية وهي حالة توفر للمقاومة التي تعمل ضمن "حرب العصابات" أهدافًا دائمة يستهدفها ويستنزفها، وفي كل مرة يخرج الاحتلال باستراتيجية جديدة فإنها لا تحقق شيئاً في الواقع لأن الأساس كان مضروباً.
نقاتل المقاومة بطريقتها
بعد توليه قيادة المنطقة الشمالية خرج الجنرال "عميرام ليفين" بصيغة من العمل ضد المقاومة، وهي مقاتلتها بوحدات خاصة خلف خطوطها وعلى الطريقة نفسها التي تعمل بها المقاومة وهي "حرب العصابات".
ليفين الذي كان يعتبر من الشخصيات "المبدعة والذكية" في جيش الاحتلال، وهو شخصية مخابراتية وقد شغل منصب نائب رئيس الموساد، اقترح اختيار عناصر من أفضل الوحدات في الجيش، وتنظيمها في وحدة "إيجوز" وتكليفها بضرب المقاومة.
اغتيال جيش الاحتلال للقائد رضا ياسين في بلدة دردغيا في شهر أذار 1995، بعد قصف مركبته بصاروخين، دفع "ليفين" للتفاخر أنه بات يحقق إنجازات على الواقع.
لكن ما حصل لاحقاً هو أن وحدة "إيغوز" تلقت ضربات قوية في الجنوب اللبناني، عن طريق العبوات الناسفة والكمائن وفشلت في إلحاق خسائر فادحة بالمقاومة كما كان ينظّر ليفين أمام قيادة الجيش.
حاولت دولة الاحتلال إقامة علاقات مع الأهالي في جنوب لبنان، من خلال وحدة "الارتباط والتنسيق" التي تكفلت بإقامة مع جيش العملاء وإقامة مشاريع مدنية في المنطقة المحتلة، ومنح تصاريح عمل داخل فلسطين المحتلة لعائلات جنود جيش لحد.
لكن في الواقع فإن أهالي الجنوب لاقوا معاناة شديدة وتضييقًا كبيراً من جيش العملاء، الذي لاحق الناس في أرزاقهم وأعمالهم واعتقل وأعدم المئات منهم، ويكفي ذكر أسماء عملاء مثل "الجلبوط، وحسين عبد النبي" وغيرهم، للتذكير بحجم الظلم الذي أوقعه هؤلاء باللبنانيين، في سجن الخيام وعلى المعابر التي أقامها جيش الاحتلال لفصل المنطقة المحتلة عن باقي لبنان.
كما أن المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال بحق القرى والمدن اللبنانية كانت دافعا لترسيخ الكره والحقد عليه، وخاصة من أبناء القرى المحتلة الذين تهجر بعضهم عنها لأكثر من 20 عاماً.
دم الجنود ليس أقل إحمراراً
بعد تسلمه قيادة جيش الاحتلال في لبنان هاجم "إيرز غيرشتاين" المطالبات التي رفعت بين الإسرائيليين، للانسحاب من جنوب لبنان ووقف النزيف الدموي شبه اليومي الذي لحق بالجنود.
وعد "إيرز" بمقاتلة المقاومة على طريقتها وهزيمتها، وتفاخر طويلاً بتفجير عبوة ناسفة قرب "بركة الجبور" في البقاع الغربي أدت لاستشهاد 5 مقاومين، وقال إن المقاومة بدأت تحتضر.
إيرز كان يعتبر من الضباط اللامعين في جيش الاحتلال، فقد شارك في مواجهات بقلعة شقيف وأرنون ومواقع أخرى خلال اجتياح لبنان، وكان يتفاخر بمعرفته الكبيرة بطبوغرافية جنوب لبنان، وقدراته الاستخباراتية والقتالية، واغتياله شكّل ضربة معنوية لكل محاولات الاحتلال لترميم الأوضاع المتدهورة في المنطقة المحتلة من الجنوب.
كان شعار إيرز "دم الجنود ليس أقل إحمراراً من دم المدنيين" وهاجم حركة "الأمهات الأربعة" التي طالبت بالانسحاب من لبنان واتهمها بالتأثير على معنويات الجنود ورفض بشدة الانسحاب.
اغتالت المقاومة إيرز بعد تفجير عبوة ناسفة في موكبه عند مفرق سوق الخان على طريق كوكبا - حاصبيا، بعد خروجه من اجتماع مع قادة العملاء ويرجح أن المقاومة عرفت بتحركاته عن طريق أحد الحاضرين في الاجتماع الذي تم تجنيده من مخابرات المقاومة. يروى أن إيهود باراك حسم قراره بالانسحاب من جنوب لبنان في منزل إيرز غيرشتاين بعد أن ذهب لتعزية عائلته.
إفشال مخطط إقامة شريط مصغر
قبل الانسحاب في شهر أيار/مايو 2000 خطط جيش الاحتلال لإقامة شريط أمني مصغر في جنوب لبنان وتسليمه لجيش العملاء والبقاء على دعمهم بالمال والسلاح.
لكن المقاومة سابقت الوقت ووجهت ضربة معنوية وعسكرية لجيش العملاء باغتيال القائد في جيش لحد عقل هاشم، الذي كان الاحتلال يعول عليه كثيراً في قيادة المنطقة ومواجهة المقاومة.
الهروب
"حتى أولئك الذين كانوا يؤيدون الانسحاب، مثلي، لا يمكنهم نسيان عار الهروب"، لخص نعوم بن تسفي الذي كان يشغل قيادة القطاع الغربي في المنطقة المحتلة، ما حدث في أيار 2000.
خطط جيش الاحتلال لانسحاب منظم من الجنوب، أفشلتها المقاومة بالعمليات المكثفة التي شنتها على المواقع العسكرية في جنوب، وأجبرته على الانسحاب السريع وترك عناصر جيش العملاء وحيدة في الميدان.
يلقي بن تسفي باللوم على المشهد المخزي للهروب من جنوب لبنان، على القيادة السياسة وقائد المنطقة غابي أشكنازي، وقائد الفرقة "91" موشيه كابلينسكي، وجانتس مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق مع لبنان.
انسحب جيش الاحتلال من جزين أولاً لكن جيش العملاء لم يصمد في المنطقة، واستبقت المقاومة كل الرهانات الإسرائيلية وسددت ضربات لعناصر لحد أخرجتهم من معادلة التأثير في المنطقة.
عن لحظات الهروب هذه يقول أحد قادة جيش العملاء في القطاع الشرقي، نبيه أبو رافع: "بعد فترة تلقيت مكالمة هاتفية من صديق في إسرائيل، قال: لديك 20 دقيقة للهروب. خذ العائلة، أنا في انتظاركم بالقرب من الحدود".
بعد 20 عاماً على الانسحاب من جنوب لبنان لا زال النقاش حاضراً بقوة في دولة الاحتلال، حول الآثار التي ترتبت على الحدث، وهل كان من الممكن البقاء هناك؟ ومن يتحمل مسؤولية الورطة الإسرائيلية في الجنوب؟
حتى القادة العسكريين الذين كانوا متحمسين للعمل بقوة ضد المقاومة، مثل عميرام ليفين، فإنهم في اللقاءات الإعلامية معهم يقرون بالأخطاء التي نشأت عن البقاء كل هذه السنوات في لبنان.
المؤرخ العسكري أوري ميلشتاين كتب في جريدة "معاريف" مقالاً تساءل فيه عن سبب فشل شارون في لبنان، رغم أنه أحد القادة العسكريين الكبار في دولة الاحتلال، الذين شخصوا أوجه القصور في عمل جيش الاحتلال بعد حرب النكبة وقيام كيان الاحتلال.
كان الصهاينة يقولون إنهم في الحرب سيرسلون الفرقة الموسيقية للجيش كي تحارب في لبنان، لكن في الحقيقة فإن هذه الفرقة عزفت كثيراً على جثث الجنود الذين قتلوا في لبنان، وتحول هذا البلد الصغير المعقد للنسخة الفيتنامية الخاصة "بإسرائيل".
__________________________________________
*الجنرال غيورا أيلاند، الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي.