فلسطين المحتلة - خاص قُدس الإخبارية: ليست النكبة حدثاً تاريخياً يحيه الفلسطيني كل عام، يتذكر مدنه وقراه التي اقتلعته العصابات الصهيونية منها، بالحديد والنار.
لكنها صارت حدثاً يومياً لمن فرض عليه اللجوء في الشتات والمخيمات، وفي سعي الفلسطيني الدائم منذ 72 عاماً للتحرر من آثار النكبة التي تراكمت على حياته، وفي هذه المقاومة المستمرة توارث الفلسطينيون قداسة "حق العودة" وحكايا بلادهم وتفاصيلها عبر الأجيال.
كوكبا .. الباقية الشاهدة
إبراهيم الحاج لاجئ من قرية "كوكبا" قضاء غزة، يعيش في مخيم النصيرات بقطاع غزة يقول: "هجرت العصابات الصهيونية عائلتي من قرية كوكبا في 22 من شهر أيار/مايو 1948، ولا زال أمل العودة حاضراً في حياتنا".
يفضل إبراهيم أن يعرف نفسه ببلدته الأصلية "كوكبا"، وهو تقليد في عائلات القرية: "هذا كوكبي"، أو بلهجة جدته الفلاحية: "تشوتشبي".
تعرف إبراهيم على قريته التي لم يراها، من أحاديث جدته "امنة"، التي كانت تحب أن تصف الحياة اليومية في القرية، وتذكر أملاك العائلة، وكأنها تريد أن تبقي ذاكرتها حيةً وتحصنها من النسيان، كما يقول.
ويضيف: "أذكر مما سمعت من جدتي عن منزل عائلتها، الذي كان أول منزل في كوكبا من طابقين وأرضيته من البلاط، وقد سكنته عائلتها قبل التهجير بأيام".
بعد التهجير عاد أفراد من عائلة إبراهيم تسللاً بعيداً عن أعين العصابات الصهيونية، ليلقوا نظرةً على القرية، فوجدوا المنزل قد حرقت ساحته، واقتلعت شجرات اللوز من أرض جده.
وكانت جدة إبراهيم تحكي أيضاً، عن الطرق التي كانت تربط القرى والمعاملات التجارية فيما بينها، وعلاقاتها المشتركة فكانت كوكبا تشترك مع قريتي "حليقات" و"بيت طيما" بمدرسة واحدة.
يرى إبراهيم أن "هناك إرثاً من الارتباط الوثيق عند كل أهل قرية بالعادات التي نقلوها معهم، إلى مخيمات اللجوء، مثل الثوب، والأكلات التي اشتهروا بها، كذلك في قضايا الزواج فمثلاً لفترة قريبة كان اللاجئون في قطاع غزة، يفضلون تزويج بناتهم لأبناء بلدتهم الأصلية أو القرى المجاورة لها، كونهم أقرب لهم في العادات وغيرها".
ويضيف: في الثياب لكل بلدة شكل معين من الثياب، في قضاء غزة مثلاً كانت أغلب النساء تشترك في ثوب اسمه "جنة ونار"، فهذه الموروثات حافظ على الارتباط بالقرية الأصلية في ذاكرة الناس وقلوبهم.
وعن كيف بقي الفلسطيني مرتبطاً بأرضه رغم كل محاولات التزوير من الاحتلال، يقول إبراهيم: "أذكر أحاديث أهالي غزة ممن عملوا في الداخل المحتل عام 48، وكيف كان لهم فرصة دخول أراضيهم ورؤيتها، وبعض أبناء عائلتي الذين دخلوا إلى كوكبا وحفروا أسماءهم على البئر".
ويتابع: على صفحة تحمل اسم قريتي كوكبا، أذكر عندما سقط أحد صواريخ المقاومة على المستوطنة التي بناها الصهاينة مكان قريتنا، كان هناك منشور: أطلق الصهاينة على كوكبا "كوخاف ميخائيل شوفال" أين علاقة هذا الاسم بروح المكان؟ في حين أن اسم كوكبا حاضر فعلاً من تضاريس المكان وروحه، فالقرية فيها قبر لنبي باسم "كوكب".
يؤكد إبراهيم أنه "يحاول دائماً نقل كل الروايات عن كوكبا للجيل الجديد من أبناء العائلة، ولكن بطريق أكثر انسجاماً مع اهتماماتهم وتناسباً مع روح عصرهم".
وحول دور التاريخ الشفوي في توثيق علاقة الفلسطيني بالبلاد، يقول: جزء كبير من الروايات التي سمعتها من جدتي لم أتمكن من تكوين صورة كاملة عنها إلا من خلال تسجيلات من التاريخ الشفوي تقدمها صفحة "تذكر فلسطين"، عدا عن أن التاريخ الشفوي يشكل رواية جمعية لكل من سكن القرية، لكن مع الأسف هناك حظيت بفرص أكبر من الأخرى في مقابلات التاريخ الشفوي.
ويرى أن "الظروف الصعبة التي يفرضها الاحتلال على الفلسطينيين شكلت مواطن تمسك وتشبث بهذه القضية، واعادة صياغة حقيقية لمواقف الناس من تفاصيل المواجهة اليومية".
ويختم إبراهيم: "قبل سنوات تعرفت على صديق من الضفة المحتلة عن طريق الفيسبوك، وقلت له لولا الاحتلال لتعرفنا على بعضنا في واحدة من الطرقات الواصلة بين قرى فلسطين، أحدنا في تجارته ربما والآخر يحاول اتمام أوراقه لاستكمال تعليمه".
عائدٌ إلى السنديانة
ليث عويس هجرت عائلته من بلدة "السنديانة" جنوب مدينة حيفا، في 12 أيار/مايو 1948، ويعيش في مخيم جنين يقول: "أغلب الأحيان أعرف عن نفسي أنني من مخيم جنين، ولكن أصلنا يعود إلى مدينة حيفا المحتلة".
كانت جدة ليث تحدثهم يومياً عن "السنديانة"، عن عائلاتها وعملهم في الزراعة، وجمال طبيعتها، عن أشجار التين والزيتون.
يرى ليث أن "على الفلسطيني ليس فقط أن يتذكر القرى والبلدات المهجرة، في يوم النكبة، لكن بشكل دائم وبوسائل مختلفة، مثلاً بزيارتها افتراضياً عبر خرائط جوجل والتعرف على معالمها".
ويضيف: "المسؤولية الأكبر تقع على الآباء والأمهات، يتوجب عليهم تعريف أطفالهم ببلدهم الأصلية، أن يُسلموا العهدة لأبنائهم كما استلموها من آبائهم".
يذكر ليث نفسه دائماً كما يقول بأنه غريب في هذا المكان الذي يعيش فيه، ومكانه الصحيح هو في بلدته الأصلية، وهناك شعور دائم بداخله أنه هنا بشكل مؤقت وأن العودة قادمة لا محالة، إنما هي مسألة وقت فقط، كما يؤكد.
يتابع: "دائماً أحكي لأطفال عائلتنا عن السنديانة، وأريهم صوراً عن حيفا كي أرسخ في عقولهم فكرة حق العودة، وأحياناً أسأل الأطفال أمام آبائهم وإن لم يجب الطفل بالشكل الصحيح، أذكر الآباء أن عليهم واجب توريث حق العودة لأبنائهم".
ويضيف: "توفيت جدتي قبل 12 عاماً ولا زلت أذكر جيداً حكاياتها عن بلدتنا، وقد عرفت معظم عائلات السنديانة منها".
"ما دام هناك حق فلا يحق لأحد أن يسقطه، والطبيعة البشرية لديها منبه بيولوجي أن هناك شيئاً منقوصاً ومفقوداً لابد من استرداده"، يقول ليث.
دائماً يتخيل ليث أنه يسكن في "السنديانة"، كما يقول، وفي العام 2000 نظمت عائلته رحلة إلى البلدة، وهناك سأل عمه عن عين الماء التي طالما حدثته جدته عنها.
إنهاء الاحتلال طريق الحياة الحرة
يحب صالح شاهين من قرية "نعليا" المهجرة قضاء عسقلان، أن يظهر اعتزازه الدائم بقريته الأصلية، كما يؤكد، ويحرص دائماً في المواقف التي يتطلب منه أن يعرف فيها عن نفسه أن يستفيض بالرواية بكل ما سمعه وحفظه من الأجداد عنها.
ويقول: كان جدي وجدتي لا يتركون مناسبة يجتمع فيها صغار العائلة مع كبارها، إلا ويحتل الحديث عن "ذكريات البلد"، الجزء الأكبر من الحديث.
ويتابع: لا أنسى وصفهما لنعليا، القرية الصغيرة الوادعة، وكروم العنب والتين، وأشجار الجميز بجذورها الممتدة في الأرض، وأجزم أنهن أقدم من كيان الاحتلال، وأعتقد أنه من حسن حظي أن أجدادي من جهة الأم والأب جميعهم ينحدرون من نعليا، وهذا منحنا مصدراً أوسع للحكايا حولها.
ويقول: "الحكايات هي أرسخ ما يبقى في ذاكرة الانسان، فالقصص التي يرويها الأجداد هي أفضل طريقة لربط اللاجئ بالأرض التي ينحدر منها ولم يراها".
"بقي الفلسطيني متمسكاً بأرضه من خلال ربط ثقافته الشعبية بقضية النكبة، فالتراث والأغاني والحكايات، كلها تحكي عن الأرض وتفاصيلها والنكبة، فبقيت هذه الصور حية في أذهان الأجيال"، يضيف صالح.
يرى صالح أن "الشعور بالظلم يجعل الإنسان أكثر تمسكاً بحقه الضائع، ولا يوجد مظلومية في العصر الحالي كما في حالتنا الفلسطينية".
ويضيف: "كلما زاد العيش ضيقاً ازداد التفكير بالبدائل التي من غير الممكن خلقها بوجود الاحتلال، لذا فإن إنهاء الاحتلال هي أولويتنا للوصول إلى الحياة التي نحلم بها".
نروي الحكاية حتى نعود
اقتلعت العصابات الصهيونية عائلة ياسر علي من قرية شعب قضاء عكا، وعرف معظم التفاصيل عن القرية من أحاديث العائلة في جلساتها.
ويقول: "أكثر الحكايات عن القرية كانت العائلة تحكيها عندما يزورنا أصدقاء من لاجئي شعب، وأصبحت مع مرور الأيام كمن يعرف ويعيش تاريخ القرية وجغرافيتها".
أصدر ياسر قبل سنوات كتاباً عن القرية "شعب وحاميتها"، ويقول أن حكايات العائلة وأهالي القرية عنها، كانت مصدراً هاماً خلال الكتابة.
ويرى أن "الأهم أن تبقى الذاكرة حية والأمل موجود لدى الفلسطينيين، وعندها إذا وجدت الإرادة وهي متحققة دائماً، يقوى الارتباط بالأرض ويتحقق التحرير".
ويضيف: "حتى بداية التسعينات كانت الحكايات الشفوية موجودة ومنتشرة لأن الأجيال التي عاشت النكبة كانت حاضرة أكثر من الوقت الحاضر، وبعد اتفاق أوسلو وتراجع مشروع التحرير وتقدم مشروع العودة، نهض بين اللاجئين مشروع التوثيق المكتوب للقرى، وتم تأليف أكثر من 50 كتاباً بمبادرات شخصية بين أعوام 1995 - 2010".
ويرى أن "الذاكرة والحكايات الشفوية لها دور في تثبت حق العودة، خاصة بعد ضياع عدد كبير من الوثائق نتيجة النكبات التي لحقت بالفلسطينيين، وقد ظهرت كثير من مشاريع التوثيق الشفوي في المخيمات، مثل مشروع غادة الكرمي في جامعة أكسفورد الذي جمع مئات الساعات من التاريخ الشفوي".
"نحن شعب التحدي والعناد وكلما تجبر عدونا ازددنا إصراراً على التمسك بحقوقنا"، يقول ياسر.
ويتابع: "في العام 2013 شاركت عبر الإنترنت بفعالية أقيمت في شعب، ووصفت القرية كأنني أعيش فيها، وكلما مر عام نزداد تمسك بقريتنا، ونتواصل بشكل دائم مع أبناء شعب، وآخر الصور التي وصلتنا كان لصلاة التراويح متباعدين عن بعضهم بسبب الكورونا".
عن الخيال الذي يحمل اللاجئ على أجنحة من الأمل
تُعرَف الصحفية لينا الطويل عن نفسها أنها "ابنة اللجوء والمخيم، ومن قرية كانت تفوح منها رائحة البرتقال ويستظل أهلها بظلال الزيتون، من قرية المغار التي هُجر أهلها منها عنوة عام 1948 و تشتتوا في بقاع الأرض".
كلما ذكرت "المغار" تستذكر لينا سريعاً عيون جدتها، كما تقول، تلك العيون التي كانت تلمع بكل حب وشوق وحزن للأيام التي انقضت والذكريات التي تحملها من القرية.
وتضيف: "كم من مرة جمعتنا جدتي حولها لتخبرنا عن البلاد، عن رحلة ملئ جرة الماء التي كانت تفضلها رغم مشقتها وكأنها رحلة حول العالم، عن موائد الإفطار التي كانت عائلات القرية تجتمع عليها، والحب الساكن في قلوبهم، والحزن الكبير الذي تركه تهجيرهم عنها"
"لا يمكن لإنسان انتزع منه حقه أن ينساه أو يفك الوثاق بينهما، ثم كيف للاجئ تربى على حب البلاد الممزوج بالوجع أن ينسى، كيف له أن ينسى دمعات أجداده وهم يحدثوه عن جمال البلاد، كيف ينسى ارتباطهم بالبلاد وأملهم بالعودة رغم مرور كل هذه السنوات"، تقول لينا.
وتتابع: "نحن مرتبطون ببلادنا بالحب الذي نقله أجدادنا إلينا وبالأمل الذي غرسوه بداخلنا أننا سنعود وإن طال الزمان".
يبقى الفلسطيني مرتبطاً بالأرض، كما تؤكد لينا: كلما رأينا جرائم الاحتلال نتمسك بالبلاد أكثر، وكلما ارتوت أرضنا بدماء أهلها ارتبطنا بها أكثر، وكلما حاول الاحتلال سرقة جزء جديد من تراب الأرض نستذكر كل السرقات السابقة".
وتضيف: "مسؤوليتنا جميعاً أن نتحدث عن جرائم الاحتلال ونبذل كل ما استطعنا من جهود أن نعرف العالم بحقنا في أرضنا".
وترى أن "نقل الحكايات عن القرية بين الأجيال، هي عملية فطرية تولد مع كل لاجئ، فيتوجب عليه أن ينقل هذه المعلومات لتتوارثها الأجيال".
وحول دور التاريخ الشفوي في نقل الحكاية الفلسطينية، تقول: "التوثيق بكل أشكاله مهم وضروري، وكما هو مهم أن تحفظ الكتب تاريخنا، فكذلك القلوب، فالتاريخ الشفوي يلتصق بالقلب أولاً ثم بالعقل، وإذا ما سُئلنا عن بلادنا نستذكر تمتمات أجدادنا ولمعة عيونهم وبحة صوتهم، وهذا ما يدخل القلب ولا يخرج بعدها أبداً".
"أن تعيش في المخيم يعني ذلك أن تعيش أيضاً في الخيال، فالتصاق البيوت في المخيم يجعلك دائماً ما تفكر، كيف لو كان بيتك بين أشجار الزيتون والبرتقال؟ كيف لو عشت حياة هادئة خالية من الاحتلال؟ كيف ستكون حياتنا لو بقينا في بلادنا دون دماء الشهداء وحزن الأمهات ودمعات الآباء؟
تخيلات عديدة نسرح معها بعيداً ثم نعود مجدداً للواقع الذي يحاصرنا فيه الاحتلال من كل جانب، ويبقى الأمل أن يصبح الخيال حقيقة"، تقول لينا.
يافا.. أم الغريب
يقول الزميل الصحفي سائد نجم: "يعود أصل عائلتي "نجم" إلى مدينة اللَد، ولكن مع ظروف الحياة انتقل جد والدي خلال شبابه، إلى حي المنشية في يافا، واستقر فيه بعد أن تزوج.
ويتابع سائد رواية حكاية الجد: "لم يكن فلاحاً ريفياً إلا أن يده كانت خضراء، يقتات على ما يزرع ويبيع في المدينة، ومع وقوع أحداث النكبة، حاول العودة إلى اللَد إلا أن العصابات الصهيونية كانت تغلق الطرقات، وتسد بعض منافذ القرى والمدن، فاعتقل الصهاينة أُسرة جدي والشبان الذين رافقوه، واحتجزوهم داخل مسجد لُفَ بالألغام، ولكن مشيئة الله كانت بأن تنشغل العصابات بتقدم إحدى فرق الجيوش العربية، وتهرب العائلة من الموت".
وحول كيف يحب أن يعرف نفسه، يقول: يذكرني هذا التعريف بُيتم المكان باستمرار، إجابتي دائماً تكون مركبة باختزال: "لاجئٌ من يافا أسكن مدينة بيت لحم.
"جوابي لسؤال مفترض: لماذا يافا وليست اللَد، لأن المستقر الأخير لجدي ومستقبلي الافتراضي قبل التهجير كان في يافا"، يضيف سائد.
جد سائد لوالدته من قرية المجدل قضاء يافا، لا ينسى بيارات البرتقال التي كانت تملكها عائلته، وكان يقول: "أصناف من الشجر المثمرة على مد العين".
ويتابع: "كان يتحسَر كثيراً حتى أنه لم يشتر قطعة أرض أو منزل خارج المخيم، سوى في وقت متأخر بعد والده الذي رفض بعد النكبة الخروج من المخيم كي يبقي على أمل العودة".
"كان جدي كلَما عرض على والده قطعة أرض يبكي ويقول: شو جاب تا جاب الأرض ولا الشجر ولا الهوا". يروي سائد.
وكانت جدة سائد كثيراً ما تروي لهم عن صديقاتها وجولاتهن وهي صغيرة على طرقات المجدل ويافا.
ويضيف: أما جدي لوالدي فالقصص والحكايات لا تنضب من فمه، ابتداء من تفاصيل اللعب بالرمل، إلى حكاية الجنَي العملاق الذي كان يحمي البيارات في يافا -اعتقد كانوا يؤمنون به كحقيقة- كان يمدد جسده في اخر الليل في عرض الطريق، ويمنع أحداً من المرور، إلى جانب تفاصيل التسوق في أحياء المدينة وجمال الحياة البسيطة الخالية من تعقيدات اليوم.
وعن كيف يبقى اللاجئ مرتبطاً بالمكان الذي هجرت عائلته منه، يقول: "للأسف، من واقع التجربة كمهجر بالإكراه من قبل الولادة، فإن تفاصيل اللجوء أعيشها في أبسط الأمور، كلاجئ من مدينة البرتقال والبحر، لا أستطيع تملك أرض أزرعها قط ولا بحراً أصطاد منه السمك".
ويتابع: "نعيش الحياة كمستأجرين بواقع اقتصادي زهيد في مكان اخر من الوطن الكبير، ولم يتح لي ترف الاختيار أو وجود البديل كي أرتبط بغير بلدي الذي هجرت منه، مع قناعتي بعدم وجود بديل في ظل ذاكرة مكلومة"
"إن أي عمل يعبر عن الرفض لواقع قاهر، وكل سخط متبوع بتصرف، هو تجسيد مستمر للارتباط بالمكان المفقود، وإن لم يكن مفقوداً"، يؤكد سائد.
ويضيف: برأيكم هل جفَ الجرح والتأم؟ هل غدت صورة المخيم - وإن لم أعش داخله - كمشهد بصري غير خادش للعين؟ هل فكرة تملك أرض بعد 72 "من أجل البناء والاستقرار فقط"، صارت أمراً متاحاً أو ميسوراً؟ الاحتلال يزور المسميات الخارجية لإقناع نفسه فقط، لأنه على دراية تامة بعدم جدوى ما سوى بنسبة غير مجدية، هو أصلاً لا يعلم حتى حكاية الجنَي حامي البيارات".
"بعد المضي في الحياة ومعايشة الأحداث اليومية، فإن القضية لا تعد قصة أرض فحسب قابلة للنسيان، تصبح القضية الوطن بأكمله، ومن يعترض فكرة أو حلم العودة إلى الوطن وحريته، اثمٌ يتحمل تبعات موقع الخاذل الذي احتله"، يضيف سائد.
يؤكد سائد أنه دائماً يحرص على رواية حكاية التهجير واللجوء والعودة لشقيقه الأصغر، أو يتعمد طرح الأسئة على والده أمامه ويثير النقاش والأسئلة "لنعود إلى حزننا المكتوب علينا"، كما يقول.
ويضيف: "لطالما كانت الرواية الشفوية أقرب لقلوب متلقيها، لأن في تقابيرة الوجه ونبرة الصوت ما لا تحمله الكلمة المؤرخة الجامدة، ولها وقعٌ على القلب والعقل كوقع حبات المطر في نقش الحجر".
وحول تأثير الظروف الصعبة التي واجهها الفلسطيني في دفعه للتمسك بأرضه، يؤكد أن "انعدام الخيارات والبدائل يُعطي للقضية الأساسية دفعة قوية للسريان في العروق وحضورها مع خفقان القلب".
يحكي سائد عن اللحظات التي يسرح فيها عقله إلى أجواء المكان الذي هجرت منه عائلته، ويقول: "هذه الصورة لا تغيب عن مخيلتي، كلما شعرت بالأحداث لاحت تخذلنا، رحت في غمرة من الحزن والألم والحنين، أتعطش إلى أرض فلا أجدها سوى في ذاكرتي التي لم أعشها، وأتعطش إلى أفق في البحر فلا أجد لها صوراً في ذاكرتي فأغضب كل الغضب، أسخط على واقع الحياة باستمرار، ولا أرى ما يوقف شلال القهر كي لا يجرفنا، سوى بالعودة، العودة التي هي رديف الحرية".