شبكة قدس الإخبارية

من سجن مجدو.. رثاء الأسير ممدوح عميرة لخالته الفدائية "عطاف"

15

رام الله- قُدس الإخبارية: كتب الأسير الفلسطيني ممدوح جمال عميرة، من سجن "مجدو" الاحتلالي، رسالة مؤثرة في رثاء خالته عطاف، التي يعتبرها أمًا وصديقة، وهي الفدائية والأسيرة السابقة.

وجاء في رسالته: "عطاف العنيدةَ: الأم والخالةَ والصديقة، منذُ عدةٍ أيام وأنا أحاولُ الكتابةَ، لكني في كل مرةٍ أفشلُ في انتقاءِ الكلمات، لم أتخيل يوماً أني سأكتبُ عنكِ وليس إليكِ".

"أخافُ أن أخطئ في صياغة إحدى الجُمل أو الكلمات؛ فمَن سيعيد تدقيق هذا النص غيرك أنتِ! يقول الجميع بأنك رحلتِ عن هذه الدنيا، أما أنا فلا أصدق ذلك.... ما زلتِ في مخيلتي تقفينَ هناك عند باب البيت تلوحين لي مودعةً، عندما جاء الجنود مدججين بسلاحهم لاعتقالي، أنتِ آخر من رأيته في ذلك الفجر الرمادي، تقفين مع الأحبة حسن وأريج وليث، جميعكم تشدون عزيمتي".

في إحدى الليالي الباردة في زنازين المسكوبية حلمتُ بكِ، كان حلماً قاسياً ولكني استيقظت فرحاً بعض الشيء لأني رأيتك وسمعت صوتكِ، فمن أجمل الأشياء التي تحصل لأسيرٍ في زنزانته هو أن يرى شخصاً غير السجانِ أو المحقق، والأجمل أن تكوني أنتِ حتى ولو في المنام.

بعد أيامٍ من هذا الحلم تم نقلي إلى المحكمة العسكرية لتمديدِ اعتقالي، وكانت تلك المرةُ الأولى التي أرى فيها عائلتي بعدَ مُضي شهرٍ على اعتقالي. أخبرتهم أنني رأيت أم الحسن في المنام، فقال والدي بأنها ستأتي لرؤيتي في موعد المحكمةٍ المقبلة، وها أنا ذا وبعد مضي شهرين على اعتقالي ما زلتُ أنتظرها دون أن تأتي.

لاحقًا، نُقلتُ إلى معتقل مجدّو الجاثم على تلةٍ صغيرة تطلُ على مرجِ بن عامر في شمال فلسطين المحتلة. في أول زيارة لي في السجن جاءني الخبرُ الصدمة "خالتك عطاف ماتت"، عدتُ من قاعة الزيارة لا أدري ماذا أقول، وكيف أقول، لكن وفي النهاية علمَ رفاقي بهذا الخبر، وقاموا بترتيبات العزاء داخل غرف السجن. من كان ليتصور أن يُفتحَ لكِ بيتَي عزاء، واحدٌ في قريتكِ الجانية، والثاني في مجدّو، ها هنا.

أما الآن وبعدَ مضي أكثر من شهرٍ على وفاتك فما زال طيفكِ يأتيني مع رياح كانون الثاني الباردة كلما هبّت على السجن، وأتذكر قصصك وحكاياتك التي كنتِ تقصينها علينا أثناء جلوسنا حول مدفأة الحطب في ليالي الشتاء الماطرة، وأعود إلى حكايتك الأولى عندما أرسلكِ جدي الفلاح إلى مدرسة المدينة وحدك وكيف تحديتِ كل الصعاب وأكملتِ دراستك الثانوية وما بعدها وأنتِ تسكنين وحدكِ في رام الله. ومن ثم انخراطك في صفوف الثورة أواخر السبعينات وتنفيذ عملية فدائية في وسط القدس، وهنا تبدأ معاناة جديدة وتحدٍ من نوعٍ آخر، بدايةً بالاعتقال والتحقيق حتى نسف بيت العائلة وتشريدها مروراً بالمحاكم العسكرية.

وهنا أتذكر تناويح أمي وجدتي عند باب سجن الرملة: "يا سجن الرملة ريتك تهيلي وازرع عَ بابك قمح وشعيري" ، "يا سجن الرملة ريتك خرابي ويزعك ع بابك طير الغرابي". وتنتهي مرحلة السجن بالإفراج عنكِ في صفقة تبادل عام ١٩٨٣ ليتم إبعادكِ إلى الجزائر ومن ثم إلى الأردن.

وهنا يبدأ تحدٍ جديد، وهو المنفى ومن ثم الزواج من فدائي أُفرج عنه بسبب مرض السرطان الذي أصابه في السجن، ورغم ذلك تزوجتِه لأن الحب الذي تعرفينه لا يقف في وجهه مرضٌ أو سجن. وبعد فترة من الزمن تصبحين أماً لحسن وليث، ولكن الفرح لا يدوم سوى عشر سنوات، فقد سرق الموت زوجكِ خضر القطامي، وكنتِ أقوى من الموت وتتحديه من جديد، وتعاني أعباء الحياة وحدكِ إلى حين عودتكِ لأرض الوطن في العام 1995.

عندما عدتِ كان عمري لا يتجاوز عدد أيام الأسبوع ومنذ ذلك اليوم تعلقتُ بكِ، فكنتِ صديقةً وأماً وخالةً في آنٍ واحد. أمورٌ كثيرةً تعبرُ بالي الآن، أولها أنني عرفتُ لماذا كنتِ تكرهين الفاصولياء البيضاء؛ فهي هنا في السجن لا تشبه تلك التي كان جدي يعقد لها الخيطان لتتعربش عليها وتنمو أثناء حرب النكسة رافضاً أن يتركها ويهرب، عندما نصحه أحد الجنود الأردنيين أن يفعلِ ذلك بحجة أن "البلاد ضاعت"، فردَّ عليه جدي بكل هدوء: "بدي أكمل زراعة وإذا عشنا بنوكل منها".

أتذكر رحلاتنا إلى وادي الدلب في شهر آذار وقصصك عن الأيام المستقرضات والعجوز وأيام السعود وغيرها من القصص التي تحفظينها من موروثنا الشعبي. هناك أماكن كثيرة ستشتاق لك، ومنها (زعتر وحليان عمواس) وزيتون عين أم سراج تلك الجنة التي كانت آخر ما أوصاكِ بها جدي قبل رحيله.

سأشتاقُ للجلوس معكِ على شاطئ حيفا ومراقبة الغروب على أنغام أغنية أغداً ألقاك لأم كلثوم، آه كم كنتِ تحبين سماع قصيدة (العمة يامنة) للشاعر الأبنودي، وأتذكر في إحدى رحلاتي معكِ عندما كنا متجهين إلى يافا وسمعنا أغنية صغيرون لسعدون جابر، يومها قلتُ في نفسي ترى بماذا تذكرها هذه الأغنية، ربما بأيام السجن أو المنفى أو الزوج الشهيد، ولكني لم أجرؤ على سؤالكِ خوفاً من فتح إحدى جروحك القديمة.

خالتي الحبيبة، وأنا أكتب هذه الكلمات من سجني تذكرتُ بيت شعرٍ لتوفيق زيّاد يقول فيه: فمأساتي التي أحيا نصيبي من مآسيكم؛ فربما هناك حكمة ما من تجربتي هذه، كي أعرف كم عانيتِ من الظلم والاضطهاد، وكي أعرف أكثر كم كنتِ قوية برغم الداء والأعداء، لقد قاومتهم وانتصرتِ عليهم، ورحلتِ كما تموت الأشجار واقفةً وراسخة في الأذهان.

فالوداع يا حبيبتي، الوداع لمن لم تترك لنا سوى تلك الصنارة التي غزلت بها ملابس الصوف الجميلة الدافئة، وتركت لنا زيّها العسكري الذي ارتدته يوم تحررها من السجن. الوداع لمن أبقت لنا بعضَ الكتب والكثير من المعرفة والعلم. والعزاء لأبنائك وللعائلة وكل أحبائك، ولن أقول في الختام سوى ما قالته جدتي نبيهة في رثاء جدي: "الطريق اللي جيتوها لاجيها وأهيل دمع العين فيها، والطريق اللي جيتوها بالأقدام جيتها والقلب حزنان" .

-ممدوح عميرة، سجن مجدو