نجح الجنرال البريطاني "أورد وينغت" في ترك إرث استخباراتي مهم في مجال مكافحة حركات المقاومة، ليس فقط من خلال خبراته العسكرية، وإنما أيضاً من خلال عمله الذي اعتمد على آلية المسح الميداني وجمع المعلومات عن الثوار بطرق غير مباشرة. تمثل ذلك بزيارة الأماكن الحاضنة لهم متنكراً بالزيّ العربي، ومستعيناً بلغته العربية، وخبرته عن عادات وطرق تفكير المجتمعات العربية في منطقة بلاد الشام و التي اكتسبها عن طريق دراسته النظرية والعملية للمجتمع الفلسطيني، والقرى الواقعة في منطقة الجليل.
قامت منظمات التمويل الأجنبي بالاستفادة من خبرة وينغت وتطويرها إلى برامج تكتسي بالطابع الإغاثي والإنساني والتنموي من أجل الوصول إلى جوهر المجتمعات الحاضنة لحركات المقاومة، والعمل على تجنيد تلك المجتمعات لتصبح رافضة لوجود الثوار وتقديم أكبر قدر ممكن من المعلومات بطرق غير مباشرة.
تطرح منظمات التمويل الأجنبي ومنها الـ USAID قضايا ليست دوماً القضايا الأهم على الصعيد المحليّ في البلد الذي تعمل فيه، بل غالباً ما تكون القضايا التي تبعدنا عن التناقض الرئيسي في المرحلة التاريخية الراهنة. في فلسطين مثلاً نعاني أساساً من التجزئة والاحتلال والتبعية، فماذا تفعل منظمات التمويل الأجنبي؟ إنها فقط تأتي لتدير عوائق الاحتلال والتجزئة والتبعية، ولا تطرح مشكلة التناقض الرئيسي باعتبارها مشكلة تبعية واحتلال وتجزئة.
ثم إن تلك المنظمات تحاول أن تؤسس نموذجاً محلياً، وأن تزرع نخباً ممتدة محلياً، مرتبطة بالخارج، ليس فقط من الناحية المالية والتنظيمية، إنما من الناحية الثقافية أيضاً. وأهم ما في تلك المنظمات أنها تنتج جيلاً جديداً ممن تسميهم قادة أو مثقفين تقولبوا فكرياً وأيديولوجياً في الفكر الليبرالي، حتى لو أسموا أنفسهم "إسلاميين".
يُضاف إلى ذلك موضوع المزاحمة على ملء الفراغ الذي يمكن أن يملأه الخط الوطني والقومي الثوري. فمن المهم أن يتم استقطاب عناصر النشطاء والمثقفين والمسيسين والثوريين والقادة والكتاب الذين يمكن أن ينخرطوا في الخط الثوري فينتجوا مشروعاً حقيقياً للتغيير. ولا بدّ من استقطابهم فرداً فرداً، والعمل على توظيفهم في مشاريع أخرى بعيدة عن الخطّ الثوري وتقوم بالترويج للقضايا التي تطرحها مؤسسات التمويل الأجنبي في البلد.
ويمكن اعتبار التمويل الأجنبي في هذا السياق امتداداً لمشروع استخدام "القوة الناعمة" لمكافحة التمرد، أي استخدام وسائل التأثير الإعلامي والثقافي والسياسي في تحقيق أهداف القضاء على حركات المقاومة باعتبارها أقل كلفة من "القوة الخشنة" المتمثلة بالحروب والعمليات الخارجية والاغتيالات وما شابه.
على سبيل المثال، أطلقت وزارة الخارجية الأمريكية عام 2001 مشروعاً مهماً جداً هو "مبادرة الشراكة الشرق أوسطية" Middle East Partnership Initiative الذي يتألف من حوالي 350 برنامجاً ممولاً، تحت عنوان "الدبلوماسية العامة"، بغرض اختراق الجمهور العربي والإسلامي، كبديل للدبلوماسية التي تجري بين الدول. وقد تلقى عشرات آلاف المواطنين العرب دورات في "الديموقراطية" و"حقوق الإنسان" في سياق تلك البرامج.
الـ USAID في فلسطين
تعدّ الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) أداة من أدوات مكافحة التمرد والقضاء على الحركات الثورية وقوى المقاومة في فلسطين. تقوم "اليو اس ايد" من خلال التمويل المشروط وما يعرف بوثيقة الإرهاب على تفكيك المجتمع باعتباره الحاضنة والقاعدة التي تنطلق منها حركات المقاومة.
وتندرج برامج "اليو اس ايد" في فلسطين المحتلة تحت إطار المسميات والمجموعات التالية، حيث أن كل من تلك المجوعات تعمل على تفكيك جانب مهم من جوانب المجتمع الفلسطيني: البنية التحتية، المساعدات الإنسانية، الاستثمار في الموارد البشرية. الأمن والسلام، الحكم العادل والديموقراطية.
وفي مجال الامن والسلام تحديداً مع مشاريعها لتطوير الحدود، تقوم الولايات المتحدة بتسهيل حركة الفلسطينيين والبضائع وبنفس الوقت تحسين أمن "إسرائيل". وتقدم الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية الدعم لسلطة النقد الفلسطينية وسوق رأس المال الفلسطيني في اقتفاء المعاملات المالية لمنع الجرائم المالية وغسيل الأموال.
أما في مجال الحكم العادل والديمقراطية فتعمل الوكالة الأمريكية ضمن ما يسمى برامج احترام حقوق الإنسان، وإنفاذ سيادة القانون، وتحسين قدرة السلطة الفلسطينية على توفير احتياجات الجمهور. وتعمل الوكالة مع اثني عشر من وزارات السلطة الفلسطينية ومؤسساتها لتنفيذ إصلاحات وإجراء تحسينات في مجالات رئيسية لتقديم الخدمات. برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أيضا تساعد منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام في محاسبة الحكومة وبناء دعم جماهيري من اجل الإصلاح. وأخيراً، تقدم الوكالة المساعدة للجنة الانتخابات المركزية للمساعدة في التحضير للانتخابات المقبلة.
وثيقة نبذ الإرهاب كوسيلة لنبذ المقاومة تشترط الوكالة الأمريكية لكل مؤسسة متقدمة لمشاريعها أن توقع على وثيقة نبذ (الإرهاب) كشرطٍ للحصول على منحةٍ منها، وهو شرط لا تشترطه المؤسسات الدولية الأخرى سواء أكانت أوروبية أو غيرها. ويتضمن تعريف الإرهاب حسب الوكالة الأمريكية للتنمية: ألا يكون من بين المستفيدين من المشروع حصريًا أي عنصر في حركة حماس أو فصائل المقاومة الأخرى، كما يتضمن موقفًا صريحًا باعتبار أعمال المقاومة الفلسطينية إرهابًا، والالتزام بالقيم والمبادئ الأمريكية في العمل. تعني وثيقة الإرهاب الأمريكية على سبيل المثال أن مشروعاً صحيًا تدعمه هذه الوكالة، لو حدث أمامه حادث سير وكان أحد المصابين عنصر في إحدى فصائل المقاومة فلا يجوز علاجه. أو تعني مثلاً أن قرية من قرى الضفة لن تحظى بمنحة لإصلاح الشوارع الرئيسية المهترئة فيها إذا كان مجلسها القروي مؤلف من أعضاء من حركة حماس. شرط الحصول على المنحة لا يتوقف عند التوقيع على وثيقة الإرهاب، بل يتعداه إلى فحص أمنيٍ كاملٍ لأعضاء مجلس الإدارة في المؤسسة وطاقم العاملين في المشروع ضمن وثيقة تُسمى "Vetting " وهذه الأسماء يتم فحصها لدى مخابرات الاحتلال ولدى أجهزة السلطة الأمنية في رام الله، وإذا كان من بينها اسمٌ واحدٌ له تاريخ نضالي أو ميول سياسية لإحدى فصائل المقاومة يتم رفض المشروع. القوة الكامنة وراء التمويل الأجنبي هي نفسها القوة الكامنة وراء التطبيع وتفكيك المقاومة. على سبيل المثال، لا تمنح مؤسسات فورد وروكفلر واليو أس ايد اعتماداتها، حسب الوثائق الخاصة بها حرفياً: "لأي مجموعة تدعو أو تولد التعصب أو العنف أو تمثل تهديداً لوجود وشرعية وجود دول شرعية وسيادية مثل إسرائيل". وقد طُلب من متلقي التمويل الأجنبي في فلسطين التوقيع على وثائق من هذا النوع من قبل مؤسسات فورد وروكفلر واليو اس إيد. ومن المعروف طبعاً أن كل تلك المنظمات عليها أن توقع وثيقة التبرؤ من المقاومة والاعتراف بالكيان الصهيوني ونبذ أي شكل من أشكال الكراهية تجاه الصهاينة وأن تقدم كشفاً بأسماء العاملين فيها وأن تخضع للرقابة المالية الأمريكية.