قطاع غزة-خاص قُدس الإخبارية: بيوتٌ من الصفيح، مكب نفايات، تهميشٌ حكومي، حياة بنكهة "الموت" تعيشها نحو ألف أسرة بمخيم "نهر البارد" بمحافظة خان يونس جنوب قطاع غزة، باتوا في عداد "المنسيين".
يخلو المخيم من مقومات الحياة الآدمية، كلّ يوم تغيب أحلام العائلات هنا وراء الأفق لتتجدد مع إشراقة يوم جديد يقفون على أطلال أمل بأن يتغير حالهم، أو يسمع صوتهم.
حجارة الجدران التي أكلها الزمن، السقوف المتهالكة، البيوت الصغيرة، تشكل ملامح الحياة التي يعيشها أهل المخيم، تروي وجوههم الشاحبة حكاية أخرى من المعاناة هنا، يشهد كل ركن في هذا المخيم على فقر من عمر تلك الحجارة.
ترى ألواح "الزينقو" و"الاسبست" التي تآكلت مع مرور الزمن، حتى عجزت هشاشتها عن مقاومة غزارة الأمطار التي أغرقتها مرارًا، ولا منع حرارة الصيف الحارقة، تشم رائحة القمامة في أعلى مكب النفايات، وكأنها حياة أشبه برائحة الموت.
الساعة الواحدة ظهرًا، الشمس تتوسط قلب السماء، وتلقي بجدائلها الذهبية على مدينة خان يونس، إلى الجنوب الغربي منها حطت أقدامنا مخيم "نهر البارد" وهو تَجَمّع لبيوتٍ عشوائية بُنيت بشكلٍ غير قانوني على أراضٍ حكومية، وما أن تصل المكان سترى أمامك عشرات البيوت المسقوفة بالصفيح تقع أسفل تلة يقف على رأسها مكب نفايات كبير.
طفولة غائبة
جاءت "أم سراج حنيدق" هي تحمل طفلها الرضيع، وتعلي صوتها: "نحن مهمشون من كل المؤسسات، أطفالنا من حقهم العيش فأين مؤسسات حقوق الإنسان؟ لا أكل ولا ملبس مثل العالم هنا، في كل تصعيد نعيش رعبًا تحت أصوات القصف الإسرائيلي القريب، لا أحد يسمع صراخهم، الزينقو، الحجارة، كلها تسقط علينا من القصف".
"أبو حنيدق" يقع منزلها أسفل مكب النفايات مباشرة، ثقوب وفتحات في سقفه، ما أن تصله ستجد أمامك بابًا من الألواح يدخلك إلى صالة طويلة غير مفروشة سوى من البلاط في نهايتها باب آخر يطل على حشاش نبتت أسفل المكب، بعد تجاوز هذه الأمتار كان طفلها سراج (7 سنوات) يلهو على أرجوحة معلقة على شجرة محاولًا تجاهل الرائحة الكريهة المنبعثة من الأعلى، أو أنه تعود على ذلك.
أصل التسمية
وسمي هذا المخيم "بنهر البارد" لوقوعه بمنطقة منخفضة، وبرودة الأجواء هنا في الشتاء والصيف.
تروي أبو حنيدق لـ "قدس الإخبارية" عائدة للوراء لعشر سنوات: "قدمنا إلى هنا منذ عشر سنوات هربًا من الوضع والحروب، لأننا كنا نعيش بغرفة خشبية، وكثرة أفراد الأسرة، ولم نجد سوى هذا المخيم المقام على أراضٍ حكومية للعيش فيه، وهنا تعيش نحو مئة أسرة غيرنا لدى كل أسرة نحو 7 أولاد".
صوتها المقهور يروي مئة حكاية من الألم: "نحن تسعة أفراد، لدي طفل يعاني من التهاب حاد بكليته، وزوجي مصاب بشلل بيده بعد إصابته وهو يجمع الطعام من المكب، يومها جرح سيخ حديد يده، قطع الأوتار، وسبب شللًا فيها".
"انظر لهذا البصل نحضره من المكب (..) أكلنا أصبح من مخلفات المكب، فلا يوجد لدينا دخل سوى شيك الشؤون الاجتماعية". وتابعت: "ايش ذنب أطفالنا بهالحياة؟".
صالة خالية من أي حصير أرضيتها مرقعة ببلاط، مطبخ مثل الكهف وكأن أشعة الضوء لا تدخل إليه، سقف بعدة فتحات، هذا وصف مختصر للمشهد، لكن لا حلول هنا: "نحن صحيح أخطأنا عندما قدمنا إلى المخيم، لكن يجب على الحكومة إيجاد حل لنا، إما بإخراجنا لمكان آخر أو إزالة المكب".
طفلتها سجى (9 أعوام)، لا تملك أي لعبة تلهو بها، تتولى مسؤولية جمع البصل وما تتركه الشركات من مخلفات، بدت متعبة وهي تقول: "بنطلع فوق ندور على بصل ونجيب حطب عشان ناكل".
وتابعت الطفلة: "بروح على المدرسة بدون مصروف، اللي شهرين ما أخدت"، وبالكاد حبست دموعها: "لما بشوف البنات معهم مصروف بزعل كتير".
الخدمات في المخيم!
وحول الخدمات هنا، قالت الأم أبو حنيدق، "نشتري كوب المياه بـ2 شيكل، من بئرٍ يملكه شخص مكلف من البلدية يبيعنا إياه، أمّا الكهرباء فهي اشتراك مؤقت للمنفعة وممنوع يبقى هناك ديون علينا، ونمنع من أي أعمال صيانة".
ما أن تمر بين الشوارع، تنادي عليك أصوات من كل اتجاه، الكل يدعوك هنا للدخول إلى منزلهم ومعايشة المعاناة من الداخل، السيدة منال عودة إحداهن أصرت أن نشاهد بيتها، في الداخل بيت معتم وكأنك تدخل إلى كهف، لا يوجد أرضية للمنزل سوى حصيرة.
دراسة صعبة
في غرفة كالحة السواد مع أن الليل لم يأت بعد، بالكاد ترى ابنتها أنوار وهي طالبة ثانوية عامة كلمات الكتاب الوزاري، تروي لنا جزءًا من معاناتها بعدما تركت كتبها: "الكل يسمع بنهر البارد، فهو بمنطقة خطرة وبجوار المقابر، كطالبة توجيهي محرومة من الدروس الخاصة والملازم والقرطاسية، لا أستطيع فتح النافذة لدخول الهواء لأن هناك حشرات غريبة جدًا هنا، تبعد مدرستي مسافة نصف ساعة مشيًا على الأقدام".
بدت متألمة على واقع الحال: "احنا كأشباه أموات أجساد بدون أرواح".
شقيقتها ندى التي تصغرها بعام لديها قصة أخرى مع الخوف هنا ليس من الظروف المحيطة بل من أصوات الصواريخ التي تنام معها حتى في فراشها، وتئن في أذنها، هنا عرفت ندى المسافة الحقيقية بينها وبين الموت، تنقل لنا ما تعيشه كل مرة، وتتمنى أن يسمع أحدهم صوتها وكأنها تعيش المشهد: "كل ما بسمع صوت الصاروخ، قلبي بحسه بده يقف، الدار بترج، صوت أطفال، شظايا الصاروخ، الواحد مش متحمل".
قبل أن نصل لأعلى التلة حيث المكب، كان عبد الله وشقيقه يجرّ كيسا من البصل، قطرات العرق التي تبلل جبين هذين الطفلين تلخصان المشهد، فبدلا من اللعب أمضى الطفلان ساعتين يبحثان في المخلفات التي ترميها شركات أو وزارة لمنتجات زراعية فاسدة، عن بصل يمكن "استصلاحه" وأكله، رغم أن الجهات حينما تلقي هذه المنتجات بالهواية يكون بسبب نهاية صلاحيتها أو تلفها وفسادها، مما قد يعرض حياة تلك العائلات للخطر.
بالصعود للأعلى، كانت القمامة بهذا التوقيت منقولة بواسطة الشاحنات إلى محرقة النفايات شرق القطاع، لكن أكوامًا كثيرة من البصل التالف منشورة في المكب، وصلت الطفلة سجى حنيدق محاولة جمع صندوق بصل لعائلتها، وأحيانا تجد مجمدات ولحوم فاسدة، تضطر هذه العائلات لأكلها بسبب قسوة الحياة.
حياة قاسية
بجولة داخل المخيم، ستجد أمامك بيتًا محاطًا بصفائح حديدية قديمة يأوي عائلة سلوى أبو نمر وأطفالها السبعة، يستند باب المنزل على جذع نخلة لحماية الباب المصنوع من "ألواح الزينقو" من السقوط، استقبلتنا سلوى وأطفالها، بوجهٍ داكن أكلت الشمس من ملامحهم.
في الداخل أكلمت أبو نمر تقليب "البطاطس" على موقد نار بمكان يسمى عنوة "الصالة" فهو ليس له من اسمه نصيب، وكأنك تجلس بين رمال الشارع في الخارج، لولا الحجارة والألواح التي تحيط بالمنزل.
بدأت بزيادة الحطب وقطع الكرتون حتى لا تُخمد النار، يلتف حولها أطفالها الصغار تسابق الزمن لسدّ جوعهم، يعيشون في بيت لا يصلح للعيش الآدمي.
بينما تنشغل على موقع النار، قالت لـ "قدس الإخبارية": "كما ترى لا أستطيع تعبئة اسطوانة الغاز، ومنذ ثلاثة أشهر أقوم بإعداد الطعام على الحطب".
بعد أن تركت النار مشتعلة، أخذتنا بجولة لمنزلها الصغير، تعرجات كثيرة مرسومة على جدرانه، هي في الحقيقة ليست رسومًا أو أشكالا هندسية أو فنية، بل تشققات بفعل التصدع وكأن زلزالاً ضرب المنزل الذي يرفع على هامته سقفا تزينه خيوط عنكبوتية، وأخرى تعشش حديثًا لم ترتبط أوصالها بعد. وأمامك غرفة أرضيتها من الرمل، تتسلل الشمس من فتحات وثقوب عدة في السقف، وتسرّب مياه الأمطار بلا توقف، خزانة واحدة بيضاء بالية.
تخرج تنهيدة وجع بعدما تجمعت الدموع حول عينيها بلهجة عامية: "شايف احنا كلنا بنام بهالغرفة، عندي ابن بصف التاسع الإعدادي بنام معنا" .. تفرد كفيها وترسم تعابير وجهها حسرة: "مين برضى ولد بهذا العمر ينام عنا (..) هذا مش وضع! يشوفولنا حل؛ يشوفولنا حل".
ترفع نظرها للسقف الغرفة الذي تأكله الثقوب، تتبع نظرها بكلمات غاضبة: "ربنا سترنا من قصف اليهود في التصعيد الأخير، الحياة هنا رُعب".
مخلفات القمامة
بجوار باب الغرفة يوجد صندوق بلاستيكي مليء بالبصل، تظهر عليه علامات الفساد ما أن تمسك واحدة منها تذوب بين يديك صلابة البصل المعتادة، بعد أن جلست هذه السيدة أمام الصندوق وغرزت يدها بين البصل بكفها.
قالت: "هل تصدق أن هذا البصل يحضروه أولادي من مكب النفايات، وأحيانا يحضرون، أو جناح دجاج مثلج".
أمامنا كان ثلاثة أطفال يلعبون على تلة المكب، يمسكون خيوط طائرات ورقية، ويركضون، من فوق التلة ترى بيوت العائلات من "الصفيح" أسفلها وكأنها واقعة في حفرة، بجوار الأطفال رائحة كريهة منبعثة من عِجل وحصان ميتين، فهنا لا تلقى فقط القمامة والمخلفات الفاسدة فأيضا تلقى الحيوانات الميتة، وهذا ما دفع الخمسيني فؤاد الشوبكي الذي رافقنا في جولتنا للسؤال، عن دور البلديات في إزالة هذه النفايات، الشوبكي الذي تعطيه ملامحه الداكنة عمرا فوق عمره بعشر سنوات لكثرة التجاعيد التي تغزو ملامحه يقول بحرقة: "كل يوم بنودي أولادنا على المستشفيات، صحيح أننا في أرض حكومية لكن لا يوجد لنا بديل".
غادرنا ومعنا رسالة هذه العائلات، إلى ذوي الشأن والأمر، لانتشال هذه الأسرة من براثن الفقر، ومستنقع المعاناة، فمن سيلبي النداء!؟ سؤال في عيون كل طفل هناك، تخفيه كل ابتسامة ممزوجة بالحزن، وفي صوت الجوع الذي تعكسه ملامح وبنية أجسادهم.