شبكة قدس الإخبارية

يافا وثوبُ التنكُّر

٢١٣

 

إيناس خلف
تسيرُ في شوارعها الضيقة كأنك الغريب المُنكَر.. يدميكَ هذا الشعور الثقيل ويعتريكَ من أخمص قدميك حتى رأسك.. جدارن المدينه تعرفك جيداً، تحيكُ بينكما إنسجامٌ رهيب، لكنّها تقف عاجزة عن التعبير أمام رهبة حضوركما معاً، في ذات المكان والزمان.. تود أن تخاطبك لكنها تصمت خشية استبداد. كلاكما يشعر بالعجزِ القاهِر.. الجدرانُ تريد أن تبدأ معك الحوار، وأنت كذلك، إلا أن المسافة بينكما قد إكتظّت بالطفيليين الذين يراقبونك مع كل نظرة توجهها صوب الجدران، صوب الأرض، صوب الحجارة العتيقه وصوب السماء.. يتجسسون على همساتِ محادثتكم الصامته، يصغون لما قد تتفوه مشاعرك من حنين. هُم يعرفون بما جمعتكم به السنين من علاقة وإرتباط متين، هُم يعرفون أنك إبن هذهِ الأرض المُغتصبه، لكنهم يتغاضون. هم لا يريدونك أن ترى يافا كما تراها أنت، بل كما يريدونَك هم أن تراها. إنكَ تشعر بقوة أن المكان أبداً لا يشبههم ولا يناسب أسلوبهم.. تدرك حجم الكارثة حينَ تلمِس التشوّه العميق لملامح المدينة.. حين ترى أن بجانب كل منزلٍ فخمٍ يسكنه يهودي، هناك فتات حجارة على هيئةِ بيت، يسكنه فلسطيني حائر.. تشعر بحجم الكارثه حين ترى رجالاً فلسطينيين يعملون في ترميم متجرٍ يملكه يهودي، هو نفسه الجالس على كرسي قديم من معالم يافا يعطي الأوامر للرجال. إن القهر كل القهر أن تسير بين حجارة يافا القديمة، بين تراث أهلك وكنوز شعبك، لتدرك أن المدينة قد إكتست رغماً عنها ثوباً لا يشبه ماضيها... هم أحاكوه لها وزينوه كما تهوى أنفسهم، كي تتنكّر يافا عن كل ما يجمعها بما مضى. تشعر بوجع المدينة وبصراحة الإنكار، إنكار جدرانها لهذا الثوب المصطنع، هذا الثوب الذي لا يلائم جسدها المُتعب ولا وجهها الباكي... هذا الثوب الذي يعرّيها من كلِّ تشوهٍ في تضاريسها. القهر كل القهر أن ترى قبور أجدادك فد تحولت إلى ملاهي ومتنزهات، وبيت جدك تسكنه أشكنازية تحتسي القهوة على الكرسي البني القديم، تماماً كما كان جدي يفعل، على نفس الشرفه، على نفس الكرسي. القهر كل القهر أن ترى ممتلكات أجدادك تُباع في حوانيت اليهود لسائحٍ من أرضٍ اليونان.. يدفع بها ثمنا بخس، جاهلاً أنها لا تقدر بثمن... فيعود إلى أرضه ليحكي أنه إشترى ساعة نحاسية قديمة، كانت يوماً ما ل"أبو أحمد الخالدي". أن تسيرَ في يافا هو أن تعتريكَ قشعريرة الإحتلال الوقح الذي شوّه روح المدينه .. أن تسير في يافا هو أن تحاكي نفسك وتتساءل كيف سيعود الوطن يا الله؟ أن تسير في يافا هو أن تفتّش عن أرضِكَ في أرضِك، وعن حضارتِك في حضارتِك، ونفسِكَ في نفسِك. أنت تسيرُ وتسير.. تتخبّط في رحمِ المدينة متسائلاً إن عادَ للوقاحة حَد! ثم يخرج يهوديٍ من فلبٍ السوق ويعرض أن يبيعكَ عملات نقدية قديمة جدا. تنظر إلى ما جمعه وتلمحُ من بين جميع الأوراق القديمة والعملات النقدية عملةً تدغدغك إنسجاماً كُتب عليها فلسطين 1943. يأتي البائع بعرضه العبقري بأن تشتري العملة بثمنٍ لا تدري كيف حددّه. تصمت قليلاً ، تشعر أن كل شيء في العالم ضدّك، ثم تعود تسأل: أما عاد للوقاحة من حد؟!! يافا، فلتخلعي ثوب التنكُّر، وليعُد جمالُكِ السابِق..ثوبك هذا أبداً لم يقنعني. ثوبك هذا يؤلِمُني.