شبكة قدس الإخبارية

"زياد وفتحية"... قصةُ حب فلسطينية عنيدة

99
توفيق المصري

غزة- خاص قدس الإخبارية: قطعت طرقات يد أبو شادي على باب منزل زياد عبد العال في حي التفاح شرق مدينة غزة، سكون الليل في إحدى أيام العام 1993.

بصوت مرتعش قال عبد العال من خلف الباب: من الطارق؟ فجاءته الإجابة: "أنا جارك أبو شادي، وبيدي دعوة لك من الحاكم العسكري لقطاع غزة"، وكان يعمل لديه مراسلاً.

ذهب الخوف قليلاً واطمئن قلب أبو عبد الله وفتح الباب واستلم الدعوة، وأثناء قراءته سطورها أكد عليه أبو شادي ضرورة الحضور صباحًا.

مع ذلك التأكيد، شرد عبد العال بذهنه إلى خطوته التي اتخذها قبل ذلك بعامين، حينما قرر ألا يُرجع زوجته "فتحية" إلى الأردن، بعدما لم يتبق في جيبه قرشًا واحدًا يكفي ثمنًا لتكاليف ذهابها وعودتها، دار حديث داخله: "ربما تكون هذا الدعوة مصيدة لأسجن وليأخذوا زوجتي ويعيدوها إلى الأردن؟"، وبعد جولة تفكير شغلت ليله الطويل قرر أن يذهب صباحًا.

سار حاملاً بقلبه ثقلًا، وهو لا يصدق بأن الدعوة فعلاً لطلبات لم الشمل التي تقدم بها طيلة السنوات السابقة، وتحت قبة المجلس التشريعي الذي كانت تحتله "إسرائيل"، وَجَدَ أبو عبد الله مخاتير وأعيان قطاع غزة من شماله لجنوبه، بالإضافة لمتقدمين للم الشمل، فاطمئن قلبه قليلاً، ودخل صالة الحاكم العسكري في المجلس التشريعي.

بعد استقبالهم بالضيافة حدثهم الحاكم العسكري بخطبة قصيرة فور حضوره عبر شارع ميناء غزة، وتعرض للرشق بالحجارة، في ذروة الانتفاضة، بكلماته التي لا تزال عالقة في ذهن عبد العال: "يجب عليكم أن توعوا أولادكم، بعدم تكرار هذه الأفعال".

وبقصر تلك الخطبة، بدت طويلة على قلب زياد عبد العال الذي امتلأ قلقًا، حتى بدأ الحاكم العسكري، يقرأ وينادي على طلبات لم الشمل، وكان اسم صاحب قصتنا وزوجته من ضمنهم.

لم يتسع الكون لضحكة زياد بعد الحصول على ورقة موافقة الحاكم العسكري للم الشمل، وخرج من مقره وهو يغني ويشدو بـ "الآن انتهت معاناتي بعد 12 عامًا.. الآن أنا عريس جديد واستقرت حياتي؛ فزوجتي ستكون إلى جانبي طول الوقت".

وإلى جانب زياد عبد العال حصلت حوالي 300 عائلة تقريبًا -كما يذكر مشهدهم في التشريعي حينها- على موافقة للم شملها المتفرق، طيلة أعوام بفعل الاحتلال، وكانت تلك آخر دفعة في عهد الاحتلال، وبعدها دخلت السلطة الفلسطينية قطاع غزة 1994.

وبموجب قانون "لم الشمل" الذي شرّعه "كنيست الاحتلال" عام 1952، يمنع الاحتلال الفلسطينيين الذين كانوا يسكنون البلاد حتى النكبة عام 1948، من القدوم إلى فلسطين أو الإقامة فيها، وذلك لمنع تطبيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين.

وبذلك يمنع القانون ذاته، الفلسطينيين من ممارسة حقهم في بناء عائلة والحفاظ على الروابط الأسرية والاجتماعية والثقافية مع أبناء الشعب الفلسطيني والخارج.

ولا تتوقف الإجراءات عند منع وحظر لم الشمل، بل تجري ملاحقة ومطاردة من ليس بحوزته تصاريح دخول أو إقامة -سواء الزوج أو الزوجة- حيث أخضع العديد ممن تقدموا بطلب لم الشمل للتحقيق في مراكز شرطة ومخابرات الاحتلال، وذلك كإجراء لبحث إمكانية تجنيدهم لصفوفه مقابل التصديق على طلبهم بالحصول على المواطنة أو الإقامة.

وهناك آلاف يجتمعون كلهم حول طلب واحد وهو حقهم في الدخول أو الخروج من فلسطين متى شاءوا، فهم تزوجوا أو تزوجن من أشخاص في الخارج أو داخل فلسطين يعانون حاليًا من رفض منحهم تأشيرات لدخول فلسطين أو رفض تجديد تأشيرات المقيمين فيها فيضطروا وقتها إلى مخالفة مدة التأشيرة والبقاء مع أسرهم لتصبح كلمة "مخالف/ة" كفيلة بشرح جزء من معاناتهم.

حكاية الارتباط

دخلت فتحية بينما كان يتحدث زوجها "زياد" لمراسل "قدس الإخبارية"، عن أوّل مرة لمس فيها يدها بعد عام على خطبتهما، وحين شاهدها للمرة الأولى، فكادت تلقي صينية التقديم من الخجل وهي تستجديه: "عيب يا أبو عبد الله"، قاطعها: "دعيني أحدثه عن معاناتي وحبي لكِ".

ثم أكمل قطع حديثها وهو يقول: "أحبها لأنها زوجتي، زواجنا كان تقليديًا ولم أعرفها قبل ذلك إلا وهي صغيرة، حينما شاهدتها وهي بعمر 12 عامًا خلال زيارة سريعة لنا مع عائلتها، وتزوجنا وهي بعمر 16 عامًا".

وقع اختيار والدا زياد عبد العال على ابنة خالته سميحة التي هاجرت مع أسرتها من قرية "المحرّقة" المهجرة، إلى قطاع غزة، ثم إلى الأردن، لتكون زوجة له.

ففي إحدى زيارات سميحة للعائلة في قطاع غزة عام 1982، حدّثَ والد زياد، خالته "سميحة"، أنه يريد ابنتها "فتحية" زوجة لنجله، فطلبت منه الانتظار ريثما تعود للأردن حتى تخبر ابنتها فتحية بذلك، فوافقت وتمت خطبتهم في شهر أكتوبر/ تشرين أول1982، وتزوجا في السابع من أكتوبر 1983؛ بعد أن أُجل فرحمها لعامٍ، بسبب وفاة والد زياد.

لم يكن يعلم زياد عبد العال ما سيمرّ به من معاناة بعد ذلك، فما إن تزوجا حتى بات على زوجته أن تعود للأردن كل ثلاثة أشهر لتمكث هناك مدة أسبوعين وفي بعض المرات أكثر، حتى امتدت تلك المعاناة لـ 12 عامًا.

وأثناء مكوثها في الأردن حسب إجراءات الاحتلال، لكونها ليست من قطاع غزة، ويجب أن تنهي زيارتها ويتم التجديد لها، كان زوجها زياد يتقدم بطلبات لدى إدارة الحاكم العسكري في قطاع غزة، ليسمح بزيارتها لقطاع غزة وجوبهت في كثير من المرات بالرفض.

لم تزهر ورودًا حياته، كشاب تزوج حديثًا.. فأخذ شهيقًا عميقًا وهو يستعيد بذاكرته كل الضغوط التي مورست عليه أثناء الرفض من قبل مخابرات الاحتلال الإسرائيلي.

ضغوط ومغريات

بعد الزواج مباشرة – بعد ثلاثة أشهر- كان على زوجة زياد السفر للأردن، لتختم عودتها لعمّان، وتُجدد دعوتها من جديد عبر طلب يتقدم به زوجها بغزة لدى سلطات الاحتلال حينها، لكنه قوبل بالرفض.

في نفس عام زواجهما 1983، أرسلت مخابرات الاحتلال "لزياد"، طلبًا لمقابلته، وخاص محاولات عدة، قدّم خلالها ضابط المخابرات "أبو صبري"، -الذي كان مسؤولاً عن قطاع غزة حينها-، من الإغراءات ما تلين الحجر مقابل العمل معهم، دون أن يتطرق لطلب لم الشمل أو يذكر زوجته قطعًا.

أعدَّ نفسه جيدًا لتلك المقابلة، وكان صامدًا بردٍ ثابتٍ بعدم الرضوخ أو الخنوع؛ فقبل أن يذهب لتلك المقابلة، أخبره ناصحٌ بالتنبيهات حول كيفية التعامل مع ضابط المخابرات، يذكر زياد حديثه جيدًا حيث قال: "إذا تمكن منك، فهو يتلقى راتبًا وسيحصل بك على رتبة، وإذا لم يتمكن، سيعلم من إعطائك جوابًا على قدر سؤاله، بأنك لست سهلاً".

مرة جديدة طلبت المخابرات الإسرائيلية، مقابلته، وذلك بعد الرفض الخامس وبعد سنوات من مقابلة أبو صبري، كان الضابط "جيمس" ينتظر زياد في مقرّ السرايا وسط مدينة غزة، ومارس لعبة تختلف عن خطة سابقه "أبو صبري".

ففي المقابلة التي تكررت لـ3 أيام متتالية، بعد محاولتين فاشلتين، كانت المسافة بين أبو عبد الله "زياد"، و"جميس"، أقل من متر، رفض الأول العمل كمتخابر، ووقع الأمر كجمرة في قلب "جيمس"، الذي انتفض من كرسيه وركله أسفل بطنه. بحسب زياد.

قالها "جيمس"، لزياد دون مواربة، وقد ترك دُرج مكتبه مفتوحًا تظهر أمام ناظريه ما بداخله "رزم من الدولارات"، وهو يقدم عرضًا ماليًا والسفر مقابل التنازل عن لم الشمل: "شو رأيك أسفرك عند حماتك بتريح حالك انتا ومرتك؟، وبتعملك بيت ومشروع، وايش بدك بعملك".

رد أبو عبد الله عليه قائلاً: "أنا عندي أروح أقرأ الفاتحة يوم الجمعة على قبر والدي هنا بتسوى الدنيا، وكل بلاد الدنيا".. وانتهت المقابلة التي استمرت نصف ساعة بعد العاشرة صباحًا، غادر بعدما أعطاه جوابًا صارمًا، وأخبره الضابط جيمس: "راجع تفكيرك".

كتم زياد داخله وجع الضربة التي خنقته وأخبر جيمس: أهون عليه سجنه من هذه الاستدعاءات، وأن وطنيته لن تسمح له بالتراجع لحظة، أو التنازل عن الحياة هنا في غزة مع زوجته.

ضربة الضابط جيمس التي كتم وجعها داخله، حينما قابله، أنزفته دمًا مدة 3 أشهر، في كل مرة يدخل فيها حمام منزله.

إلى ما يصفه بـ"الشبكة المتواصلة ما بين أبو صبري وجميس والحاكم العسكري" عملوا من أجل ثنيه عن طلباته لجمع شمله بزوجته، ولأن الاحتلال يسعى جاهدًا لإفراغ الأرض الفلسطينية من أصحابها، تعرض أيضًا لعمليات نصب، حينما قرر في أحد الأعياد أن تقضي فتحية العيد معه، "فلا استرجع النقود ولا شاهد زوجته".

أعاني عُمرًا ولا أتركها يومًا

كثرت الأقاويل بشأنه، وبدأت الألسنة تسدي نصائح مسمومة بأن يتزوج عليها، يقول زياد: "قال لي أقاربي أنت تعاني مع لم الشمل، وزوجتك لا تنجب، وهي ليست موجودة عندك أو مستقرة، فالشجرة التي لا تُثمر حلال قطعها".

يتابع: "كان ردي صلبًا، بأنه لو بقيت معاناتي مستمرة طوال العمر، فلن أجلب لها ضُرّة، ولا أتركها، وحينها قالوا إنني أصبر عليها لأن المشكلة عندي، وهذا غير صحيح".

12 عامًا قضاها زياد دون رؤية طفل، يقول: "هي إرادة إلهية، ألّا نرزق بطفل خلال فترة عدم لم الشمل، فلو كتب لها أن تحمل في غزة وأنجبت بالأردن خلال زيارتها، لكانت مشكلة أكبر في إحضار الطفل أيضًا".

"زرنا أحد الأطباء لكثرة حديث الأقارب عن مشكلة الإنجاب، وامتدت رحلة العلاج لأعوام، حتى أبرق ليّ الطبيب بخبرٍ زرع الفرح في قلبي، وهو حمل زوجتي بطفلة"، يقول زياد. لكن المفارقة أن الحمل جاء بعد 4 أشهر فقط، من حصوله على لمّ الشمل في العام 1993، لتصبح الفرحة فرحتين.

وحينما حملت زوجته أنارت الحياة بناظريه واكتملت.. يذكر كيف جلب بلهفة الحلويات والجيران هلّلوا لفرحته، وبدموعه وزع عليهم الشربات واللُمناضة ، وجلبوا حلويات (السلفانا) هدايا بشارة الحمل.

رزق زياد بابنته سحر في السادس والعشرين من مايو/آيار1994، وبعدها بحنان في 1995، ولاحقًا بنجله الذكر الأول عبد الله بعد 17 عامًا على زواجه، والآن يبلغ 20 عامًا، وبعده رزق بسميحة ومحمد، إلا أنه يلعن الاحتلال الذي لو لم يكن موجودًا لكان جَدًا الآن.

فرحة قدوم طفله الأول التي جاءت متأخرة كثيرًا ورغم ما كلفه من مبالغ خلال 12 عامًا، مع رحلة معاناته في لم الشمل، التي وصلت إلى 3 آلاف دينار سنويًا، إلا أن الخمسيني أبو عبد الله لا زال يؤكد أنه على استعداد للبقاء طوال العمر، في المحاربة للحصول على جمع شمله لو استمرت المعاناة، وألا يستسلم للهجرة أو للضغوط. وكل ما وضعه الاحتلال من عراقيل أمام طلبات لم الشمل؛ بهدف تفريغ الوطن من أهله.

في ختام حديثه قال: "عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، وإذا لم تكن على قدر المسؤولية، ستكون حياتك فاشلة، تلك رسالة للشباب الفلسطيني في وقتنا الحاضر".