فلسطين المحتلة- خاص قُدس الإخبارية: على مداخل البلدات والمخيمات يتجمّع الشبًان لرصد حركة الاحتلال، وبتناغمٍ يتمترس الأطفال في العمق مُجهَّزين بالحجارة، في حين تنشط الفتيات بالحشد للتظاهرات، وفي لحظة مباغتة، تستفرغ مركبات الاحتلال عناصرها ويُكسر إيقاع المشهد، فتتلاقى حجارة الأطفال وقنابل الجنود في الهواء، ورصاصات الاحتلال تُصيب وتخطئ.
شكّلت الانتفاضة الفلسطينية (1987) حالةً سبّاقة في تاريخ المقاومة الفلسطينية وبلورة الوعي "المشتبك"، هبّة شعبية واسعة انخرطت فيها كافة الفئات العمرية والنوعية، يقودها الشباب ويتقدمهما الأطفال.
وزخرت الأحداث بأسرار حول أدوات التحشيد والاشتباك، كان يمكن البناء عليها لاستدامة ثورة تحررية، لم تتوفر في هبّات أخرى، وحملت دلالات رمزية كالحجارة التي اكتسبت قيمتها مع الفعل، والفاعل الذي اكتسب صفته منها كـ "أطفال الحجارة" الذين كانوا "نواة الثورة".
في فترة يسودها التوتر وتراكم اعتداءات الاحتلال على المقدسات، كانت مركبة تقل عمالاً من مخيم جباليا، حين خرجت عليهم حافلة إسرائيلية، هرست المركبة تحت عجلاتها، ما أدى إلى استشهاد 4 وإصابة آخرين، ليشكّل هذا الفعل الشرارة الأولى لِـ"انتفاضة الحجارة".
8 كانون أول، كان برد الشتاء قد بدأ لتوّه حين ضُجّ مخيم جباليا بغزة إثر حادثة الدهس، وبدأ المخيم يُسري الانتفاضة في بقية أجزاء الخارطة المُحتلة، مظاهرات ومسيرات، واحتكاك مباشر مع عناصر وآليات الاحتلال العسكرية.
ففي غزة، انطلق زهير انشاصي، كان حينها في العشرينات من عمره، ملثمًا بالكوفية التي يعرف أبطال المواجهات وحدهم، كيف يعقلونها على الرأس ويثلمون بها وجوههم، برفقة أصحابه يهاجمون جيبًا عسكريًا اقتحم مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، فأصابوا صديقه من بينهم.
وقال في حديثه لـ"قدس الإخبارية": "كان لنا جدول يومي، لا وقت محدد له، نجتمع كأننا ندير معركة، نوزع الأدوار والحجارة، كانت تكسر الحاجة محاسن، الحجر الكبير بعزمٍ، ونكومه في منطقة سميناها "المصدر والإمداد"، بقينا على ذلك لشهورٍ طويلة، هذه حياتنا في الانتفاضة، وجميع الرفاق المشاركين، كانوا ولا زال الحيّ منهم أبناء الوطن البارين"
وفي أحد أيام الانتفاضة في بلدة السيلة الحارثية جنوب جنين، عاد عماد جرادات (11 عاماً) بعد اعتقاله لأيام خلال المواجهات، يقول عنه شقيقه محمد لـِ"قدس الإخبارية": لم أعرفه، كانت مشيته عرجاء، ووجه مُهشّم إثر التنكيل الذي حظي به لحظة اعتقاله لرجمهم بالحجارة.
محمد -الذي كان حينها يبلغ من العمر 17 عاماً- كان له دور أيضًا في إشعال عجلات "الكوشوك" لإغلاق مداخل البلدة، وتعبئة وحشد مَن هم بسنّه للانخراط بنشاطات الانتفاضة، فخبرته في المجال الميداني تطوّرت على مدار 5 اعتقالات، الأولى كانت بسن الثانية عشر، وبعد أشهر على اندلاع الانتفاضة اعتقل للمرّة السادسة مع مجموعة اتُهمت بإحراق حافلة للمستوطنين على مفرق البلدة.
من خلف الأطفال، كانت العائلة بكافة أفرادها تشارك كلٌ بحسب دوره، يتذكر محمد تلك اللحظة التي اعتقل فيها الاحتلال جميع أفراد العائلة والذي بقي كان مطارداً، حتى نساء القرية كن يمثلن الجهاز الأمني الذي يراقب الطرقات حتى ساعات متأخرة من الليل، وشاركن في تصدي الاقتحامات المتتالية، عدا عن تحضير المواد التموينية، وتجهيز حبات بطاطا محشوة بالمسامير وإعداد الزجاجات الحارقة، لدرجة أن قوات الاحتلال كانت تعجز في كثير من الأحيان عن اقتحام البلدة، تصل إلى أربعة أيام.
ولا يختلف الحال مع لؤي أبو حامد من مخيم بلاطة بنابلس، الذي شارك بالانتفاضة وهو ابن الثالثة عشر، حين تفاعل مع الأحداث بشكلٍ مشتعل، راغباً بلعب دور من أجل إحداث تغيير.
يستحضر لؤي التفاصيل كأنها تحصل لتوّها، ويصف المشهد لـ "قدس الإخبارية"، من خلال ذكره صور متقطّعة: جلسات تنظيمية، مهرجانات تعبوية، فعاليات داعية لمقاطعة البضائع الإسرائيلية، تشييع، بيانات تُلقى بالمدارس، تنظيم دوري لمواجهات بالحجارة كل جمعة، الجوامع محاصرة لمنع تجمع الناس، حظر للتجوّل.
واستطرد لؤي حديثه بالكلام عن نشاطه مع رفاقه في كسر هذا الحظر بالانتشار في نقاط مُتفق عليها من أجل رمي الحجارة، أو الكتابة على الجدران، وتوزيع البيانات.
ومع مرور الوقت، شكّل الشبان ما يسمى بالقيادة الوطنية الموحدة للثورة، وهي عبارة عن اتحاد مجموعة من الفصائل الفلسطينية السياسية، أبرز أهدافها الأساسية إنهاء الاحتلال والحصول على الاستقلال.
الحجارة.. البعد الرمزي والاستراتيجي
يختلف الباحث في العلوم الاجتماعية، بلال سلامة، على تسمية الانتفاضة بالأولى، فهناك انتفاضات كثيرة سبقتها منذ الاحتلال البريطاني، فالحجارة كرمزية وأداة، تأتي كونها من مكونات الأرض التي يشتعل النضال من أجل استرجاعها، وبالتالي وكأنها عملية اتصال ما بين الأدوات والغاية من عملية النضال، بالإضافة لاستخدامها كأكثر الوسائل متاحة مقارنة بالوسائل الأخرى.
وعما حققته الحجارة، قال المهتم بالتاريخ الفلسطيني المعاصر، نزار بنات لـ"قدس" إن جهدًا عسكريًا كبيرًا بُذل لقمعه من طرف العدو الذي أراد إثبات هيبته بكافة الوسائل، وهذا كلفه الكثير من الجنود والمال والسمعة، وأجبره على استخدام أقل قدر من التكنلوجيا، ويحدث قدرًا كبيرًا من الفوضى.
ليس ذلك فحسب، فقد راكمت الحجارة كماً هائلاً من الأوراق على طاولات المخابرات، مما أفسح المجال بتطوّر العمل المسلح في حاضنات معزولة ومتباعدة لا يمكن التنبؤ بها، فالمسألة الأهم في تصوّر الجندي الإسرائيلي عن ذاته أنه يواجه أطفالا بحجارة، مما أفقده عقيدته القتالية الاقتحامية التي هزمها العرب.
كذلك الحماية الاستخبارية التي وفرها الحجر، جعلت المقاومة تمتلك الصواريخ اليوم، لأنها تطورت بطريقة تعيق التدخل الاستخباراتي للعدو، وتمنعه من التطور باتجاه تحقيق أهدافه.
دور الفصائل مقابل العمل الشعبي
استطاعت الفصائل الفلسطينية المساهمة في تهيئة البنية الاجتماعية التي احتضنت الانتفاضة، والاستثمار في استمراريتها على مدار الأعوام التي مضت، رغم فشل استمرارها.
ويصف بنات، دور الحركات، كيف واكبت حركة فتح الانتفاضة بقيادة الشهيد أبو جهاد، رغم مواجهتها المعيقات بفعل الخلافات الداخلية، في حين عكف اليسار منذ أواخر السبعينيات على تأهيل المجتمع من خلال العمل التعبوي والتثقيفي والنقابي، وأسست لقيادة منظمة للشارع، وخاض تجربة تدريبية ممتازة في منازلته لروابط القرى والنضال ضدها.
أما على صعيد حماس، فيروي نزار لـِ "قدس الإخبارية" كيف استطاعت الحركة تجهيز أرضية تنظيمية للعمل الاجتماعي عبر الجمعيات الإسلامية، وهذا أعطى انضباطاً، وقضى على عشوائية العمل في الشارع، في حين برزت الجهاد الإسلامي بعملية هروب مجموعته الأولى من السجن و"عملية الشجاعية".
العمل العسكري الذي قامت به الفصائل، مثل أيضاً عملية "ديمونا"، و"الطائرة الشراعية"، وغيرها، أوجدت حالة من التحدي، وأشعرت الفلسطيني المُجهّز بالحجر أن وراءه مسلحين يدعمون ثورته، وشعر المواطن أن الفوضى التي يصنعها الحجر تُشكل أرضية أمنية لتطور العمل المسلح.
أدوات وعوامل مؤسِسة
يرى الباحث سلامة أن نوعية الخطاب الاجتماعي الذي سبق الانتفاضة، لعب دوراً مهماً في تهيئة البنية الأولية، مثل شمول المرأة في الخطاب، والعمل التطوعي، والمسؤولية الاجتماعية تجاه الفقراء، والتوعية السياسية والثقافية المستمرة حملت طابعاً تقدمياً، أسس للانخراط في النضال، في وقت كانت تمر منظمة التحرير كممثل رسمي للقضية الفلسطينية، بتراجع على المستوى الإقليمي والخطابي.
المميز في هذه المرحلة من وجهة نظر سلامة، هو ذوبان الفروقات السياسية والاجتماعية بين المدن والأرياف والمخيمات، فأصبح من المتقبل اجتماعياً رؤية الأطفال والنساء يتولّون العمل الميداني، بعكس العُرف العشائري القاضي بانصياع الصغير لأوامر الأكبر سناً، أو عدم اختلاط النساء بالشبّان.
مريم إسماعيل من بلدة الخضر-كانت تبلغ من العمر 27 عاماً -تتحدث لـِ "قدس الإخبارية" عن طبيعة نشاطاتها في الانتفاضة، التي تميزت بقيادة اتحاد لجان المرأة الفلسطينية على مستوى بيت لحم، وتنظم زيارات دورية لأسر الشهداء والأسر، وتنظيم "مدارس الحارات" لمتابعة الأطفال كي لا ينقطع تعليمهم بعد تعطّل المدارس، بالإضافة إلى التعاونيات النسائية كاقتصاد مقاوم لسد حاجات الأسر الفلسطينية.
في شباط 1988، اعتقلت مريم للمرة العاشرة، وتم التحقيق معها بطريقة شرسة في سجن المسكوبية، لتحكم 6 أشهر إدارية.
وكانت حصيلة الانتفاضة أن استشهد 241 طفلاً من أصل 1162 شهيداً، في حين جرح 90 ألفاً، وتم نسف 1228 منزلًا، واقتلع الاحتلال 140 ألف شجرة من الحقول والمزارع الفلسطينية، كما اعتقل 60 ألف فلسطيني، وفق إحصائية لمركز الأسرى للدراسات.
قد تكون الانتفاضة فشلت في إفراز كادر قيادي يوصلها الى مرحلة حرب تحرير شعبية وفي صناعة قرار يحميها من أوسلو، من وجهة نظر نزار، إلا أنها طورت وسائل المقاومة تدريجياً، من الإضرابات، والمظاهرات، ورمي الحجارة، إلى الهجمات المسلحة وإعدام العملاء، واستهداف عناصر ومستوطني الاحتلال بالقتل والأسر.
أدوات الانتفاضة الشعبية المتواضعة كانت "حجر" الأساس، لتطوّر العمل النضالي باستخدام الأسلحة الفردية المهرّبة أو تلك التي كانوا يستولون عليها من الجنود، مروراً بتصنيع الأحزمة الناسفة بداية التسعينيات، والارتقاء إلى إعداد أول صاروخ نهاية انتفاضة الأقصى في غزة، وصولاً إلى صواريخ متطوّرة تصل حيفا وما بعد عام 2012، وفي السنوات الأخيرة حلّقت طائرات المقاومة الاستطلاعية والمحمّلة بالعبوات في سماء المستوطنات المجاورة لغزة.