مفارقة عجيبة بتنا نعيش تحت ظلها لم تعد الحكومات والسلطات التنفيذية تأبه كثير بما نكتب معارضين أو فاضحين للفساد.
الأحداث المزعجة تتكرر والفساد يستشري والاستبداد يزداد ورغم كل ما يكتبه المغردون إلا أن إصلاحًا حقيقيا لا يحدث وأحيانا تدير الحكومة ظهرها للرأي العام المتمثل بالكتابة الكثيفة على المواقع الافتراضية ولا تفكر بتحريك ساكن.
لو كنت على رأس سلطة تنفيذية لسعدت بهذه الحالة أكثر من حالة التصفيق الدائم وحظر النقد والسيطرة على كلمة تخرج من الالسن أو على الصفحات الزرقاء.
لكن ما الذي يقلب الحالة ويجعل من التغريد والكتابة ضد الحكومة وكأنه يصب في صالحها أو على الأقل لا يؤثر في قراراتها.
لم نصل إلى هذه الحالة بين يوم وليلة لكن الأمر مرتبط بشكل كبير بالبنية الاجتماعية والسياسية في البلدان العربية والتي لا يعتمد انتقال السلطة فيها على الانتخاب ولكن يتم عبر سيطرة مراكز القوى سواء كانت عسكرية وأمنية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية.
مع بداية ما عرف بالربيع العربي بدأ الافتتان بمواقع التواصل الاجتماعي وقدرة الفاعلين بها على تحريك الشارع في دول عدة حتى أن بعض هذه الثورات سمي بثورات التواصل الاجتماعي.
ومع الوقت ومع احتراف المعارضة استخدام هذه المواقع وضعت السلطة نفسها في موقع متقدم أيضا لتلافي أي خطر منها واحترفت التعامل معها دون حظر وأحيانا باستخدام نفس تقنيات المعارضة والشباب.
في الدول التي يتم فيها تداول السلطة عبر الانتخاب يعد الاعلام سلطة رابعة لأنه وبكل بساطة يتحدث وينتقد تقصير أو فساد السلطات الثلاث وبالتالي فان أي جهة تجلس في السلطة التنفيذية او التشريعية معنية ببقاء صورة مضيئة لها أمام الناخبين وهذا ما يدعوها إلى الحذر دائما من الاعلام والتعامل معه بحرفية عالية ومع ظهور التواصل الاجتماعي احترفت أيضا الأحزاب استخدامها والناشطون أيضا لتصبح أداة هامة في الرقابة.
في الدول العربية بشكل عام لا تأبه السلطة التنفيذية والتي تسيطر عادة على بقية السلطات بحديث أو رأي الاعلام كثيرا خاصة أن الجمهور لم يأت بها ولا يستطيع نزعها وبالتالي فان الرأي العام بالنسبة لها غير هام إلا في حالة واحدة أن هذا الرأي سيتشكل كحراك في الشارع لا يمكن تداركه.
قد يفسر هذا تراجع السلطة التنفيذية عن التوجه لقمع حريات التغريد وترك مساحات للكتابة والنقد إلا أنها وإضافة لرسمها الحدود وضعت أيضا القواعد للكتابة ورسمت خارطة طريق للمغردين والنشطاء يسيرون عبرها حتى وأن بدوا متمردين في أحيان كثيرة على هذه الحدود إلا أن الأغلبية المغردة ملتزمة بالخارطة.
لا تمنع خارطة الطريق النقد لأذرع السلطة التنفيذية ولكن ليس للمستويات العليا بها وهو عكس المفترض إذ أن المستويات العليا بالسلطة التنفيذية هي المسؤولة أمام الشعب وليس الأذرع الإدارية والمؤسسات وبالتالي فان انتقاد المؤسسات والأذرع لن يضر بالمستويات العليا للسلطة التنفيذية والتي لا ترى نفسها مسؤولة أمام الجماهير بل ترى نفسها حامية الجماهير ومسؤولة عنه لا مسؤوله أمامه.
عمليا علو الصوت في قضايا محددة لا يعني قيام ثورة من أجلها خاصة أن الجمهور غاضب على السلطة التنفيذية ويرغب في التعبير عن غضبه من خلال الكتابة عن أي تجاوز للسلطة، الكتاب والمغردون حول القضية ينقسمون إلى عدة آراء وتفرعات وليس المطلوب بالطبع أن تكون الكتابة باتجاهات محددة ذلك أن الجمهور مختلف وذو رؤى متباينة ويعبر عن رأيه بالنهاية إلا إن الخطير في الكتابة عن تجاوزات السلطة التنفيذية هو عدم تحميل المسؤولية لأحد أو تحميلها للنظام العام أو المجتمع أو للقوى العظمى دون توجيه أي لوم مباشر عن أي خطأ للمستويات العليا في السلطة التنفيذية خوفًا من أي قمع قد يحدث وطمعا أحيانا في امتياز من السلطة التنفيذية.
في هذه الحالة تقع المستويات الإدارية المتوسطة والصغرى بين فكي كماشة الأول هو المستويات العليا من السلطة التنفيذية والتي تأمر وتنهى وتتحمل المسؤولية وتجني الثمار والثاني صارت مسؤولة بشكل مباشر أمام الجمهور أيضا وصار الموظف مسؤولاً ليس من قبل مرؤوسيه وإنما من قبل الجمهور صاحب اللسان الطويل والمتلهف للحصول على صورة تثبت أي خرق للقانون أو العادات حتى يبدأ النشر والتناقل.
في هذه الحالة تجلس المستويات العليا في السلطة التنفيذية كمتفرج على القضية وتفاعلاتها وأين تسير وكيف تتطور إلى أن تصل بين يديها وعندها تبدأ اللعبة، في أغلب الاحيان لا تلبي المستويات العليا نداء الجمهور الرقمي بقدر ما تحاول الحفاظ على توازن القوى الداخلي أو تصفية بعض الحسابات داخل المؤسسة..
لأجل الأمر حتى وإن بدى جديا في بعض الأحيان لكنه لا يتجاوز حدود القضية التي ثار حولها النقاش أو تم تصويرها وتوثيقها ولا يتجاوز أبعد من القصة التي حدثت فالمستويات العليا ترى ما يحدث من تجاوزات وفساد وهي مسؤولة عنه لكنها لا تعالج إلا بقدر ما تستطيع من تهدئة الجمهور وتصفية الحسابات.
هل يعني هذا أن يصمت الفاعلون والكتاب والنشطاء ويستسلموا للأمر الواقع بكل بساطة الأمر مستحيل لأن استدامة إدارة الازمات بهذه الطريقة لا بد وأن تخرج يوما عن المتوقع، لكن المطلوب عمليا هو تجاوز خارطة الطريق المرسومة وتوجيه المسؤولية للمستويات العليا وليس للمستويات الادارية التنفيذية التي هي في الغالب أدوات تنفيذية.