غزة – خاص قدس الإخبارية: استطاع الشاب هاني أبو شرخ بعد ثماني ساعات من الجهد والعمل الدؤوب الانتهاء من إعادة ترميم إحدى المخطوطات الأثرية المتهرئة، والتي تآكلت بفعل العوامل البيئية والحروب يعود بها الزمن إلى ما قبل 800عام.
وتضم المخطوطة الأثرية عدة دواوين شعرية مهمة، شاهدة وناطقة ضد مزاعم الصهيونية التي تقول إنهم جاؤوا لفلسطين لإصلاحها بعدما كانت قاحلة ولا يسكنها أحد، إذ صورت هذه الوثيقة بالحرف والقلم مدن فلسطين، نباتها، جبالها، سهولها، وقراها، وصخب الحياة فيها لتكون أكبر دليل يستخدمه الفلسطينيين لتفنيد رواية الاحتلال الإسرائيلي.
ويعمل أبو شرخ رفقة ستة من زملائه على إعادة إحياء المخطوطات الأثرية التاريخية ضمن مشروع "الحفاظ على مخطوطات مكتبة جامع العمري" بغزة منذ أكثر من ستة أشهر والذي نفذته دائرة المخطوطات والآثار التابعة لوزارة الأوقاف بغزة بالتعاون مع مهندسين من الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية.
ويقول أبو شرخ لـ "شبكة قدس" إنّ جميع المخطوطات التي يعملون عليها تم تجميعها هي بحالة سيئة جدا، كانت مرتعًا للأتربة وعامل الرطوبة، القوارض، الحشرات، التي تسبب أمراض خطيرة وتؤثر على الأنزيمات داخل جسم الإنسان، لذلك يحرصون أثناء العمل على ارتداء أدوات واقية، إضافة الى أنها صنعت من أوراق متينة جدا وأحبار من مواد طبيعية أكثر ديمومة وهذا ما يجعل إعادة ترميمها شاق يحتاج لدقة كبيرة وعناية فائقة".
ويوضح أنه تلقى تدريبات مكثفة برفقة زملائه قبل تنفيذ المشروع؛ لسبب أن العمل في إعادة تأهيل المخطوطات أمر معقد يحتاج لمواصفات ومعايير معينة فهي التجربة الأولى على مستوى قطاع غزة.
تعد مجموعة المخطوطات الأثرية في غزة واحدة من أهم مجموعات المخطوطات في فلسطين، التي حاصرتها مخاطر السرقة، الإهمال، الحروب، والصراعات التي عاشتها المدينة، لكنها ظلّت محافظة على بقائها لتكون شاهدة على تعاقب الحضارات على مر مئات السنين.
ويبلغ عدد تلك المخطوطات حوالي 188 مخطوطة باللغة العربية (52.000 صفحة) يعود تاريخ أقدم مخطوطة إلى القرن الرابع عشر الميلادي، وتتضمن مجموعة واسعة من الموضوعات تتنوع بين: العلوم الدينية، اللغة والعربية والبلاغة، اللغة العربية-النحو والإعراب، علوم الفلك والتنجيم، الأدب العربي والشعر، التاريخ والجغرافيا، إضافة إلى أن هذه المخطوطات تضم وثائق مهمة تصور المدن الفلسطينية وأصل سكانها، وبالتالي فهي تحتوي على معلومات فريدة عن التطور السياسي والتاريخي والاجتماعي والفني لفلسطين بما يثبت أحقية الفلسطيني بأرضه.
وتمر المخطوطة الواحدة أثناء مشوار تأهيلها بعدة مراحل وقد تستغرق يوما كاملا وأكثر لإصلاحها، وحسبما شرحت حنين العمصي منسقة المشروع، في المرحلة الأولى تخضع لتنظيفها من الأتربة والعوالق البكتيرية باستخدام أدوات جراحية تشبه إلى حد كبير الأدوات التي يستخدمها الأطباء أثناء العمليات الجراحية في المشافي، بعدها يتم العمل على تطهيرها وتعقيمها بالمحاليل الكيميائية ومن ثم ترطيبها بكريمات الترطيب لتصبح ذات ملمس ناعم.
ويلي ذلك ترقيم المخطوطة بحذر شديد حتى لا يتم خدش أوراقها، وفرزها حسب المضمون، وفهرستها وفق المعاير الدولية، وتغلف في صناديق محكمة الإغلاق وفق درجة حرارة معينة تخلو من الأحماض" الأسيد".
وذكرت العمصي لـ "شبكة قدس" العديد من التحديات التي واجهتم أبرزها الحصار الذي يمنع إدخال بعض الأجهزة المستخدمة بشكل أساسي للعمل كجهاز" سكانر" المخطوطات إذ استغرق استيراده 3 أشهر، كما تتميز الأدوات المستخدمة في الترميم بارتفاع تكلفتها وندرة وجودها.
جاءت فكرة ترميم المخطوطات الأثرية لمدير دائرة المخطوطات والآثار بوزارة الأوقاف لعبد اللطيف أبو هاشم بعدما قام بتدشين كتاب فهرسة المخطوطات الأثرية وتطبيق العمل البحثي الذي أعده على أرض الواقع، فبذل مجهودا كبيرا لتنفيذ فكرته، وسافر للإمارات العربية لتلقي دورات تدريبية عن هذا المشروع وقام بتطبيقها على أرض الواقع في قطاع غزة.
وقال أبو هاشم لـ "شبكة قدس" إن الآثار في قطاع غزة تعاني من التهويد وضياع والإهمال الكبير، فكان من باب المسؤولية المجتمعية والواجب الوطني جمع كل ما يتعلق بفلسطين من آثار أهمها المخطوطات العمل على إعادة إحيائها كونها إرث عظيم، وشاهد عيان يجب أن يبقى على مر السنين للأجيال المتعاقبة".
ويضيف أن "المخطوطات تم جمعها مكتبة الجامع العمري، التي تأسست بالتزامن مع مكتبة الظاهرية في سوريا على أيدي الظاهر بيبرس قبل 700 عام، إلى جانب أنه شاهد جزء من تلك المخطوطات ملقى على الأرض في سوق الزاوية الشعبي، فقام بجمعها ووجد أنها تزخر بالمواد العلمية والتاريخية".
وتابع قائلاً: "المدينة كانت تضم 50 قرية، ممتدة من دير البلح إلى دير سنيد، وليس كما هو متعارف عليه الآن امتدادها من رفح إلى بيت حانون، كذلك أنها كانت إقليم مرتبط بالضفة بشكل كامل دون حدود، وأدلت عليه الرسائل التي ضمتها المخطوطات وكانت ترسل بين الأهالي في ذلك الوقت".
وأشار أبو هاشم إلى أن أهمية المشروع تتجلى في الحفاظ على الموروث التاريخي الفلسطيني، وجعله مرجع للباحثين والدارسين، وإبقاء هذه المخطوطات المهمة خالدة لأطول فترة زمنية ممكنة.
بدوره، أكد المؤرخ سليم المبيض أن مثل هذه المشاريع لها دور مهم في تعزيز التواجد الفلسطيني كونها تضم وثائق ذات دلالات وميكانيكيات تشرح طبيعة الحياة قبل مئات السنين وتحديدا على صعيد فلسطين وقراها ومدنها، وتاريخها، وهذا يشكل بيئة خصبة تدفع الفلسطينيين لمواجهة مزاعم الاحتلال الاسرائيلي، إذا فعلا ثبت مصداقيتها.
ونبه المبيض لـ "شبكة قدس" إلى أن المشروع بحاجة لجهود تشاركية لا تقتصر فقط على العاملين عليه، وهنالك مسؤولية تقع على عاتق الباحثين والمختصين للتحقق من تلك المخطوطات والتوجه لقراءتها ومشاركة ذلك في أبحاثهم ورسالهم العلمية لنشرها على أوسع نقاط تحديدًا خارج قطاع غزة لا سيما دول أوروبا والعالم العربي.
وأشار إلى أن هنالك معضلة تكمن في أن الجامعات تخرج سنويا آلاف الخريجين لكنهم لا يقرأون وتنقصهم المعرفة الثقافية، لذلك يتوجب على المدارس والجامعات القيام برحلات علمية تهدف لتعريف الأجيال الجديدة بهذه المخطوطات وأهميتها، وإلا ما فائدة أن ترميمها إذا لم يطلع عليها أكبر عدد من الشباب الفلسطيني.
وتمكن العاملون في هذا المشروع إعادة تأهيل ما يقارب 200 مخطوطة تضم 20ألف صفحة، يعملون على إدخالها الكترونيًا في موقع مختص لها، ليكون مرجع أساسي لجميع الباحثين من دول العالم.