شبكة قدس الإخبارية

كينيا.. عندما فشل أقوى إضراب للأطباء في العالم

هيئة التحرير

منوعات - قدس الإخبارية: خاض الأطباء منذ النصف الثاني من القرن العشرين العديد من الإضرابات المؤثرة في مختلف دول العالم المتقدمة أو النامية، وذلك تزامناً مع انخفاض نسب الإنفاق على الخدمات الصحية وعلى تدهور المستوى الاجتماعي والمادي لمقدمي الخدمات الصحية.

ونشرت اللجنة العليا لإضراب الأطباء عام 2012 دراسة نقلت فيها تجارب الحركات النقابية المختلفة للأطباء في مختلف أنحاء العالم، ونتائجها خاصة في الهند وألمانيا والأردن والمغرب وإنجلترا وبيرو. ونُفذ إضراب الأطباء الأقوى في دولة كينيا، إذ خاض الأطباء إضراباً منذ  يونيو 1994 واستمر حتى نهاية سبتمبر 1994.

إضراب الأطباء في كينيا

لدى كينيا ما يقرب من مليون مصاب بالإيدز منهم حوالي سبعون ألف شخص بالغ وما يقرب من عشرون ألف قاصر. متوسط الأعمار منخفض ويبلغ 58 عاماً للرجال و62 عاماً للنساء. وتبلغ نسبة الإنفاق الصحي 6,1% من الموازنة العامة للدولة وذلك وفقاً لميزانية عام ميزانية 2008.

عدد الأطباء البشريين العاملين بكينيا يبلغ 5443 طبيب وعدد أطباء الأسنان 841 والصيادلة 2570، وفقاً لإحصائيات 2012. يعد الوضع الصحي الكيني في غاية السوء، مقارنة بوضع دول الجوار كموزمبيق ورواندا وتنزانيا. وعدد الأطباء الذين يعملون بكينيا منخفض للغاية.

كان إضراب 1971 الجزئي هو أول تجربة للإضراب في تاريخ الأطباء الكينيين وكان إضراب رمزي هدفه، كما قال الأطباء حينذاك، التعبير عن عدم رضاهم عن أداء الدولة المستقلة حديثاً في قطاع الصحة، وأن الوضع الصحي في كينيا بعد 9 سنوات من الاستقلال غير مرضي بالنسبة لهم.

أما إضراب 1981 الجزئي. فقد كان أكثر تحديداً، حيث طالب بتحسين أوضاع الأطباء المادية وزيادة الإنفاق الحكومي على الصحة وتوفير المستلزمات الطبية والأجهزة الحديثة بالمستشفيات وتحسين أحوال إقامة الأطباء في المساكن الحكومية. وقد ترتب على إضراب 1981 تحسن في الأحوال الصحية وانعكس ذلك في زيادة في عدد الأسرّة الحكومية (من 26922 سرير في 1978 الى 37271 سرير في 1994)، كما تم التوسع في نظم التعليم الطبي وكليات الطب وزادت أعداد الأطباء للضعف تقريباً. وكانت نسبة كبيرة من الدفعات الجديدة من الإناث اللاتي شكلن رابطة الطبيبات الكينيات والتي شاركت بنشاط كبير في كل الفعاليات النقابية طوال عقد الثمانينات.

وأثمر ذلك المجهود النقابي طوال عقد الثمانينات في القطاع الصحي في تخيفض نسبة الوفيات بين حديثي الولادة وذلك بفضل تفعيل برامج التحصين والتطعيمات الإجبارية وأثمرت برامج تنظيم النسل في خفض معدل الخصوبة في كينيا بمعدل الثلث تقريباً.

وفي 16 يونيو بدأ إضراب الأطباء في سنه 1994، قائد الإضراب كان الطبيب جيفانز أتيكا وكانت مطالب الإضراب هي: زيادة الإنفاق الحكومى الصحي، تحسين إجور الاطباء، تحسين ظروف إقامة الأطباء في المساكن الحكومية والمطلب الأهم الاعتراف بالنقابة المستقلة الجديدة للأطباء. وعلى عكس إضرابي 1971 و1981 الجزئيين، كان الأطباء في وضع تنظيمي أفضل بكثير وقد ساهمت النقابة المستقلة في ترسيخ إحساس الأطباء بقوتهم الجماعية.

وكانت مكاسب إضرابي 1971 و1981 الجزئية قد رفعت من آمال الأطباء الكينيين بخصوص إضراب 1994، وتنامت في وسط النقابة المستقلة فكرة تتعلق بضرورة الضغط القوي والسريع على الدولة للحصول على أكبر قدر من المكاسب وإستغلال حالة النشاط النقابي بين الأطباء والشبكة النقابية المنظمة في ذلك وعدم الرضى بحلول جزئية كما حدث في الإضرابين السابقين.

ساعد على إرتفاع آمال الأطباء وطموحاتهم في تحسين المنظومة الصحية وتحسين أوضاعهم الاجتماعية والمادية أن سنة 1992 شهدت أول إنتخابات ديمقراطية حرة تعددية في كينيا وارتفعت آمال الشعب ومن بينهم الأطباء فيما ستجلبه الديمقراطية البرلمانية من رخاء ونمو لكينيا بعد عقود من الاستبداد.

وبالفعل بدأ إضراب الأطباء الجزئي في موعده المحدد، وحقق نسبة مشاركة تقارب الـ 100% بين الأطباء، اللذين كان عددهم يقدر حينذاك بحوالى 3000 طبيب، إلا أن وزير الصحة رفض التفاوض مع الأطباء، وأعلن أن نقابتهم غير رسمية وأن إضرابهم غير شرعي.

وبعد حوالي إسبوع من الإضراب الجزئي والتجاهل الحكومي، قررت قيادة النقابة المستقلة وعلى رأسها د/ جيفانز أتيكا وبعد ضغوط شديدة من الأطباء تحويل الإضراب إلى إضراب كلي مفتوح والتوقف عن تقديم خدمات الطوارىء والاستقبال وباقي الخدمات العاجلة، كما تم تسريح جميع المرضى الداخليين من المستشفيات في خلال 72 ساعة لتصبح المستشفيات خاويه على عروشها. وقد تم ذلك في كل أنحاء كينيا بفضل الشبكة القوية للنقابة المستقلة وهكذا أصيبت شبكة الرعاية الصحية الحكومية الكينية تقريباً بالشلل الكلي بعد توقف كل المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية في كينيا بنسبه تقارب 100% عن العمل.

وإذا ما عرفنا أن القطاع الخاص الكينيي كان حينذاك في طور الطفولة ويعمل به ما يقل عن 200 طبيب كينيي، لأمكنّا أن ندرك حجم التأثير الهائل لإضراب الأطباء الكلي حينذاك والذي أدى لتوقف الرعاية الصحية في كينيا بشكل كامل وأعاد الممارسات الصحية في كينيا إلى القرون الوسطى.

كان رد الرئيس المنتخب حديثاً دانيال أراب موي على ذلك التصعيد حاسماً. فبالرغم من كون موي هو أول رئيس منتخب في تاريخ كينيا، عبرإنتخابات حرة تعددية إلا أن حكومة موي كانت لا تتحمل أى حركة ديمقراطية معارضة، ولذا فقد رفض موي الاعتراف الرسمي بنقابة الأطباء كممثل عن الأطباء، وصرح أن النقابات للعمالة الغير ماهرة فقط “نقابات عمالية” وليست لذوي المهن الرفيعة والمتعلمين مثل الأطباء. وهدد موي بجلب أطباء من كوبا والهند ومصر بديلاً عن الأطباء الكينيين.

بالطبع لم ينفذ موي تهديداته نظراً لأن تكلفة جلب أطباء من كوبا أو مصر أو حتى الهند ستكبد الدولة أضعاف ما يطلبه الأطباء الكينيين. وكان الرئيس موي يدرك أن تكوين النقابي هو حق للأطباء والمهنيين مثلهم مثل النقابات العمالية. إلا أن السماح بتكوين نقابة الأطباء كان خط أحمر للدولة لأنه سيعنى موجة تالية من تكوين النقابات من باقى المهن والفئات التي سيشجعها نجاح الأطباء، في وقت كانت كينيا تسعى فيه لجذب الاستثمارات الأجنبيه وتستغل العمالة الرخيصة لديها والغير محمية بأي نقابات للترويج عن رخص سوق العمالة لديها، كما تم حديثاً إكتشاف أن نظام التكيف الهيكلي الذي أتبعتة كينيا من منتصف الثمانينات بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قد وضع قيود شديدة على إنشاء النقابات والإاضمام لها والاعتراف بها وهي قيود لم يتم كسرها في كينيا إلا بعد موجة إضرابات عمالة في غاية القوة في 2003.

ولذا وبعد أربعة أيام من الإضراب الكلي وفشل محاولات كسر الإضراب بواسطة تهديدات مديري المستشفيات وكبار رجال وزارة الصحة. وبعد إستيلاء الأطباء على المستشفيات وإغلاقها تماماً، أعلن وزير الصحة عن استعداده للتفاوض مع الأطباء وتحقيق مطالبهم المادية وزيادة مرتباتهم بنسبه 16% بشرط إنهاء الإضراب والتخلى عن مطلب تسجيل النقابة. كان رد الأطباء وعلى رأسهم النقابي د/ جيفانز أتيكا بالرفض والتأكيد على أن الاعتراف بالنقابة مطلب لا تراجع عنه.

هكذا وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود وبدأت الحكومة في إتخاذ مسلك آخر، فطوال شهري يوليو وأغسطس تجاهلت الحكومة الأطباء تماماً وبدأت في التركيز على التشهير الإعلامي بالأطباء والتركيز على حالات الوفيات المتزايدة بسبب الإضراب والتي تعدت المئات من المرضى الغالبية الساحقة منهم من الفقراء والريفيين. كما بدأت في الضغط على التمريض والفنيين وباقي الفئات الطبية المعاونة لكسبهم إلى صفها، خاصة مع توقف مصدر دخل هؤلاء الوحيد بسبب إغلاق المستشفيات وذلك على عكس الأطباء الذين كان معظمهم لايزال قادر على الكسب عن طريق العمل الخاص. وهكذا بدأ هؤلاء في تنظيم مظاهرات مضادة لإضراب الأطباء وتحريض أهالي المرضى ضد الأطباء.

كما بدأت القوى السياسية في الهجوم على الأطباء وإضرابهم “الأنانى”، كانت القوى السياسية المعارضة الأساسية في كينيا قد دعمت إضراب الأطباء في البداية ومدت يدها إلى النقابة المستقلة للدعم والتعاون وتحويل القضية إلى قضية مجتمعية وموضوع للرأى العام. إلا أن النقابة المستقلة وقيادة الإضراب بزعامة د/ جيفانز أتيكا قد رفضت أى تدخل سياسي في قضية الأطباء وذلك بسبب أن الرئيس موي كان دائم الاتهام للأطباء بأن إضرابهم سياسي ويسعى لإحراجه وأن الأطباء مدفوعين للإضراب بواسطة خصومه السياسيين. لذا ومع ازدياد معدل الضحايا من المرضى مع إستمرار الإضراب الكلي تزايد إنتقاد القوى السياسية المعارضة للإضراب وللأطباء.

كما قام وكيل وزير الصحة بفصل بعض الأطباء من ذوي الأصول الاجتماعيه الأدنى – على خلاف معظم الأطباء الكينيين – في أغسطس، وهكذا تم شغل القادة النقابيين بالدفاع عنهم والاعتراض على فصلهم في المحاكم لفترات كبيرة.

في سبتمبر، وبعد أن كسبت الحكومة الرأى العام تماماً لصفها وضد الأطباء وضد إضرابهم، بدأ الهجوم حيث هدد الرئيس موي بفصل كل الأطباء المضربين في خلال أسبوع في حاله عدم عودتهم للعمل. وبالفعل رفض الأطباء ونقابتهم فض الإضراب. لذا بعد إنتهاء أسبوع المهلة أصدر وزير الصحة خطابات فصل شخصية لكل طبيب من الـ 3000 طبيب المضربين عن العمل وتم منحهم 48 ساعه لإخلاء المستشفيات وأماكن السكن الحكومية وإلا تدخلت قوات مكافحة الشغب ضدهم وأخرجتهم بالقوة. وتم تنفيذ ذلك بالفعل في هجوم كبير تم فجراً على المستشفيات ومساكن الأطباء الحكومية في 2 سبتمبر.

استمر الإضراب بالرغم من طرد الأطباء من المساكن الحكومية، لكنه بدأ في الإهتزاز والضعف خاصة مع بداية قرارات الفصل الجماعي في الوصول للاطباء.

وهكذا في 29 سبتمبر وبعد إضراب كٌلي استمر 105 يوم. نجح في إغلاق كل المنشئات الحكوميي الصحية تماماً وأصابها بالشلل وتسبب في وفاة المئات من المرضى وشارك به حوالى 3000 طبيب إنتهى أقوى إضراب للأطباء في العالم بالفشل في تحقيق مطالبه بعد إعلان د/ جيفانز أتيكا تعليق الإضراب لأجل غير مسمى بسبب تجاهل الحكومة للمعاناة الإنسانية للمواطنين الكينيين وإنعدام التأييد الشعبى لمطالب الأطباء!

ولم ينتهي الإضراب بالفشل في تحقيق مطالبه فحسب وإنما تسبب في فصل وتشريد 3000 طبيب وتدمير الحركة النقابية الطبية في كينيا لما يقارب العقد من الزمان. ولم تنتهى المأساة عند هذا الحد ولكن بعد 3 أسابيع من إنتهاء الإضراب أعلنت الحكومة خطة جديده لتطوير وإعادة هيكله القطاع الصحي الحكومي بعد أن كان قد أصيب بالشلل التام بسبب الإضراب “الإسم الحركي لتقليص الإنفاق الحكومي على الصحة”.

وأعلنت عن زيادة هزلية لإجور العاملين في القطاع الصحي من 8000 شلن كينيى شهرياً، أي ما يعادل 90 دولار تقريباً، إلى 9400 شلن كيني، أي ما يعادل 105 دولار تقريباً. ولإذلال الأطباء ساوت الحكومة بين مرتبات الأطباء والتمريض والباراميدكال بدون تمييز. وأعلنت عن رغبتها في إعادة تعيين 2000 طبيب فقط من الأطباء المفصولين من جديد. ولكن في ظل ظروف عمل شديدة القسوة وساعات عمل طويلة وبدون أية مميزات تقريباً. وبالطبع استثنت قيادات الإضراب من إعادة التعيين.

وفي السنوات التالية، قلصت الدولة من إنفاقها على القطاع الصحي دون أية معارضه تذكر، وترتب على تقليل توظيفها للأطباء موجة واسعة من هجرة الأطباء إلى جنوب أفريقيا وأوروبا، وعجز مزمن في الاحتياج للأطباء في كينيا وزيادة أحمال وساعات العمل على الأطباء هناك. فيما أعلنت منظمة الصحة العالمية في 2006، أن كينيا من البلاد التي تواجه عجز حاد في عدد الأطباء بسبب نزيف الهجرة الجماعية القادم من هناك.

وصاحب تدهور للوضع الصحي في كينيا استمر طوال عقد التسعينات حيث تصاعدت مثلاً وفيات الأطفال تحت 5 سنوات من 90/1000 في سنة 1990 إلى 121/1000 في سنة 2003، وازدادت نسب وفيات الأمهات لتصل إلى 560/100,000 أم وهو ما يزيد بصورة ضخمة عن المعدلات العالمية حتى بين الدول النامية. وانتشر وباء الإيدز في كينيا بصورة وبائية ليصيب واحد من كل 50 شخص تقريباً، وانخفضت متوسطات الأعمار لتصل إلى 58 عام للرجال، و62 للنساء وغير ذلك من المؤشرات الدالة على تدهور الوضع الصحي في كينيا.

القصة لم تنته بعد

في سنة 2003، وبعد حوالي عقد على موات الحركة النقابية بين الأطباء الكينين، بدأ الجيل الجديد من الأطباء في التحرك والاحتجاج على أوضاعهم السيئة وعلى أوضاع القطاع الصحي المتدهورة. وطوال ما يقارب السبع سنوات بدأ هذا الجيل الجديد في محاولة جمع شمل الأطباء من جديد وتوحيد صفوفهم المبعثرة بعد هزيمتهم التاريخية، ولكن بتكتيكات وأساليب مختلفة.

فقد ركزت الحركة النقابية الجديدة على مرض الإيدز كخطر قومي يتهدد البلاد وتتقاعس الحكومة عن مقاومته. وبدأت في نشر المقالات والصور عن الأطباء الذين يقومون بعمليات الولادة بدون قفازات طبية وعن عيادات الإسنان التي تقوم بالكشف على مئات المرضى بنفس الأدوات الطبية وبدون تعقيم عند استخدام المستلزمات الطبية، وغيرها من الاساليب لجذب الاهتمام الشعبي والرأي العام لأسباب إنتشار الإيدز في البلاد وتقاعس الحكومة عن إتخاذ الإجراءات اللازمة لوقاية المواطنين. كما بدأ تأسيس الـ KMPDU  وهو تكوين نقابي يسعى لضم الأطباء البشريين والصيادلة وأطباء الأسنان تحت مظلة نقابية واحدة لزيادة القوة والتأثير وتوحيد صفوف الطاقم الطبي.

و أخذ الـ KMPDU على عاتقه مهمة تحسين صورة الأطباء إعلامياً. وبدأ حملتان متوازيتان طوال العقد الأول من الألفية الجديدة. وكانت الأولى لرفع ميزانية الصحة إلى 15% إلتزاماً بمعاهدة أبوجا 2001 والتي وقعت عليها كينيا. والثانية بجمع توقيعات شعبية للضغط لإصدار قانون بمنع سفر أياً من مسئولي الدولة للخارج للعلاج، وضرورة علاجهم في المستشفيات الحكومية. وترافق هذا مع مجهود حثيثة لجمع شتات الأطباء في كل أنحاء البلاد وضمهم للنقابة الجديدة. وبدء محاولات للتنسيق مع التمريض الكينيي والغير موحد في أى تنظيم نقابي حتى ذلك الوقت. أثمرت هذه الجهود والضغوط والتي استمرت حوالي 8 سنوات عن نجاح الأطباء في تسجيل نقابتهم رسمياً واعتراف الدولة بها أخيراً في 30 أغسطس 2011.

من الدفاع إلى الهجوم مجدداً

بعد اعتراف الحكومة الرسمي بالنقابة. كانت أول تصريحات د/ فيكتور نجاني النقيب والمتحدث الرسمي بإسم الـ KMPDU هو أن الوضع الصحي في كينيا متهدور بشكل مخزي وأن الحكومي لا تهتم بصحة وحياة المواطن الكينيي. وأن ذلك إنعكس على من يقدمون للمواطن تلك الخدمات الطبية، وإن أوضاع الأطباء أصبحت لا تحتمل، وأن الأطباء في طريقهم للإضراب للضغط على الدولة إن لم تتدخل بشكل عاجل وتبدأ بالاهتمام بصحة مواطنيها. ولم ينس د/ فيكتور نجاني أن يؤكد أن الإضراب القادم سيكون جزئياً ولن يؤثر على الخدمات العاجلة أو الطوارىء، وأن معركة الأطباء مع الدولة وليست مع المواطنيين.

وبالفعل وبعد فشل المفاوضات مع الدولة وبعد سلسلة من الخطوات التصعيدية والتي شملت التظاهرات والاعتصامات والوقفات الاحتجاجيه وجمع التوقيعات أعلن الأطباء بدء إضرابهم الجزئي في 3 ديسمبر 2011. وفي 7 ديسمبر توجه الأطباء في مسيرة ضخمة في نيروبي العاصمي إلى مقر رئيس الوزراء حاملين مطالب الإضراب بزيادة الإنفاق الحكومي على القطاع الصحي وتوفير الأدوية بالمستشفيات وتحسين إجور الفريق الطبي.

كانت ردود رئيس الوزراء تتخلص في عدم توافر الإمكانيات ونقص الميزانية بسبب توتر الأوضاع في الصومال والاضطرار لزيادة ميزانية الإنفاق العسكري على حساب الإنفاق الصحي!

تم إنهاء الإضراب رسمياً في 14 ديسمبر 2011، بعد موافقة الحكومة على مطالب الأطباء في جلسة تفاوض مع لجنة الإضراب التي شكلتها الـ KMPDU. وحصل الأطباء على 300% زياده في الرواتب، و30% بدل عدوى، ووعد بعمل مشروع لتأمين صحي شامل للطاقم الطبي. الجدير بالذكر أنه قبل إستجابة الحكومة مباشرة، هددت بعض روابط التمريض بالانضمام إلى إضراب الأطباء في حالة عدم استجابة الحكومة.

لازال الصراع مستمراً

مع إنتهاء إضراب الأطباء في 2011 تم الإتفاق بين ممثلي الـ KMPDU وممثلي وزارتي المالية والصحة على تكوين لجنة لبحث المشاكل الملحة للقطاع الصحي الكيني. وتم تضمين بنود ما توصلت إليه تلك اللجنة في مذكرة سٌميت بمذكرة لجنة موسيومي Musyimi taskforce report وتضمنت تلك المذكرة بنود أهمها:

إنشاء الحكومة لمستشفى مركزية واحدة على الأقل مجهزة طبياً بكل المستلزمات اللازمة لحالات الطوارىء بكل محافظة. وعمل لجنة لبحث التعديلات الدستورية اللازمة لضمان قيام الدولة بواجبها تجاه الرعاية الصحية للمواطنين. وتخفيض رسوم الدراسات العليا للأطباء في الجامعات وتكفل الدولي بدفع تلك النفقات بدلاً من تحميلها على الأطباء، وتعيين 200 طبيب تتحجج الحكومة بعدم كفاية الميزانية لتعينهم. والتوقف عن تهديد الأطباء والتعسف الإداري بهم في حالة مشاركتهم في الأنشطة نقابية.. إلخ.

ماطلت الحكومة منذ بداية 2012 في تنفيذ بنود مذكرة لجنة موسيومي. واعتمدت على كونها أعطت للأطباء مسكنات مادية وحوافز في نهاية 2011، بعد إضرابهم الأخير كرشوة لتحييديهم في قضية تطوير القطاع الصحي. وبعد كثير من التحضير والاستعدادات وحشد الرأي العام بواسطة الـ KMPDU، بدأ الأطباء إضرابهم في 17 سبتمبر 2012، وكان الشعار المرفوع هذه المرة هو “لن نتنازل عن حقوق الشعب الكيني في الرعاية الصحية”.

وهذه المرة كان موقف الحكومة أكثر تشدداً، فالأمر لا يتعلق بزيادة في المرتبات أو الحوافز للأطباء قد تكلف ميزانية الدولة بعض الملايين، وإنما تتعلق باصلاحات في جوهر وهيكل النظام الصحي بأكمله في كينيا وهو ما يعني عشرات المليارات من الدولارات. وبالفعل قد هددت الحكومة الأطباء منذ بداية الإضراب وأتهمت الإضراب بكونه غير قانوني. وفى منتصف الأسبوع الثاني من الإضراب هددت بفصل الأطباء المضربين كما فعلت في التسعينات، ولكن على عكس موقف الأطباء في التسعينات الرافض لتدخل السياسيين، فقد سعت الـ KMPDU للحصول على الدعم من الأحزاب السياسية المعارضة للضغط من أجل الحصول على المطالب الخاصة بتحسين القطاع الصحي. كما سعت للحصول على دعم خارجى من منظمات المجتمع الدولي ومنظمة العمل الدولية لمواجهة تهديدات الحكومة بفصل الأطباء المضربين.

كما استغل الأطباء الإضراب للترويج الإعلامى عن مدى تدهور الوضع الصحي في المستشفيات الحكومية. وامتلأت الصحف والبرامج التليفزيونية بالأطباء الذين يتحدثون عن مرضى الدرن الذين يشاركون الآسرة مع غيرهم من المرضى، أو الأشخاص الذين ينجون من حوادث الطرق ليصلوا إلى المستشفى ويموتوا بسبب النزيف وعدم توافر أكياس الدم، أو المرضى الذين يتوفون يومياً بسبب قلة عدد الآسرة في غرف الرعاية. وحتى عشرات الأطفال الرضع الذين يتوفون يومياً بسبب نقص الحضانات، أو العمليات التي تتم على أضواء الهواتف المحمولة بسبب عدم توافر الوقود لمولدات الكهرباء، وغيرها الكثير.

إنتهى الإضراب بنجاح ساحق بعد 3 أسابيع في 5 أكتوبر وسط تأييد شعبى كبير لمطالبه بعد جولة من المفاوضات شملت مندوبي وزارة الصحة الكينية والـ KMPDU. وتم الاتفاق على تنفيذ مطالب الأطباء وتحديد جدول زمني لتطبيق مذكرة لجنة موسيومي.

وهكذا انتهت هذه الجولة من نضال الأطباء الكينيين. ولكن من المؤكد أنها لن تكون الجولة الأخيرة في كفاحهم من أجل تحسين أوضاعهم وأوضاع القطاع الصحي الكيني. وربما لا توجد كلمات يمكن أن نختم بها هذه الدراسة أفضل من كلمات د/ فيكتور نجاني – النقابي المناضل ورئيس نقابه الـ KMPDU، حيث قال:

“نحن في وضع مأساوي بالفعل، ولكننا اليوم لدينا القدرة على الاختيار والعمل من إحداث فارق. وأتمنى أن نقرر أن نفعل شيئاً من أجل العائلات التي قد تستمر في فقدان الكثير من أحبائها بدون داعي. لو قررنا أن لا نفعل شيئاً، أتمنى أن نفعل شيئاً من أجل هذه البلد التي لا تزيد متوسطات الأعمار بها عن الخمسينات. ولكي نكون على قدر كلامنا علينا أن نفعل كل ما نستطيعه وأن ندفع أي ثمن لنتأكد أن مثل هذه المعاناة لن تستمر في بلدنا، ليس ونحن مازلنا أحياء”.

المصدر: الاشتراكي، إعلام من أجل الثورة